ماذا تبقى من زهور الياسمين في بساتين العرب؟

بساتين البصرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سمير ندا 

في روايتها الصادرة حديثًا عن دار الشروق المصرية؛ “بساتين البصرة”، تقدم لنا الروائية المصرية منصورة عز الدين عملاً أدبيًا مختلفًا من حيث البناء السردي، مذهلاً في وحدة فصوله وتماسك قالبه، على الرغم من صهر الأزمنة في سياق سردي تبادلت فيه الأصوات منصات السرد بكثافة وحضور متفاوت. برعت منصورة  بصورة لافتة في غزل نسيج حكايتها، وبنت معابرها بين الفصول والأزمان والرواة ببراعة ملموسة، عبر نص جاء فقط في 163 صفحة من الحجم المتوسط، ليحمل كل هذه الألاعيب السردية، دون أن يُشتت القارئ، ولو لصفحة واحدة!

“الزمن نهر سيال، والمكان وهم، مكاننا الحقيقي موطن أرواحنا”
تفنيدًا لمقولة ابن عربي “الزمانُ مكان سائل، والمكانُ زمان متجمِّد”، تُنكر منصورة عز الدين كون المكان زمان متجمد، وتنزع عنه صفة الوجود المادي الملموس فتحيله إلى محض وهم، مُعارضة فلسفية تضع بها منصورة لبنة الرواية الأولى، قبل أن تستند على حلم عابر في كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين، لتجعل منه عتبة أساسية للنص، تقيم عليها بنيان حكي يمتد بطول الرواية، على تباين الألسنة، وتبدل الأزمان.

ستة فصول، وستة ألسنة، وراوٍ عليم

• سماء تركوازية كما يليق بحجر كريم
في استهلال الرواية، يقول هشام خطاب، بطل النص الرئيسي: “بالأمس أكلتُ قمرًا”!
هكذا تُفتتح الرواية بشعور بطلنا (الراوي الأول) بأن عالمه ينطفئ، وبأن نور حياته يخبو، وقد افترش حيرته فوق حافة جنونه، بعدما فقد فعليًا كل شيء، الأم والحبيبة والسكينة، حتى صَعُب عليه تحديد هويته! أهو هشام خطاب، تاجر المخطوطات الذي ولد في المنيا، وعاش حياته بين صفحات المخطوطات النادرة، ما بين تحقيق ومراجعة وتجارة وتربّح، وتتبع لحوح لمثقف ومحقق تاريخي يصفه معارضوه بالزنديق؟ أم هو زياد بن أبيه، الخواص الزاهد الذي ألفه مجلس الحسن البصري في القرن الثاني الهجري، قبل أن ينضم إلى واصل بن عطاء في أعقاب اعتزال الأخير لمجلس البصري، غارسًا بذرة فكر المعتزلة؟ الجامع بين هشام ويزيد هو تلك الرؤيا التي سكنت عقل الكاتبة لسنوات حتى كانت روايتنا هذه نتاج تخمّرها، ملائكة تقطف زهور الياسمين من بساتين البصرة، وما فسره الحسن البصري لتلك الرؤيا، بكونها تتنبأ بغياب العلماء عن البصرة. وبالتبعية؛ يقع القارئ في ذات الحيرة، ويتساءل، أهو يقرأ سيرة روح تسربت من أصفاد الزمن فاستقرت في جسدٍ شاب معاصر، أم أنها أوراق رجل غرق بين المخطوطات حتى امتصته صفحاتها المصفرة فما عاد يميز الواقع عن المقروء، حتى بلغ به مد الظنون أن يتشكك في تحور جسده إلى كومة من ورق؟ تلك فرضية تقف حائرة بين احتمالين أترك للقارئ حرية الانحياز لأي منهما. وهما خيارين كلاهما لا يقلل من استمتاعي كقارئ بانسيابية هذه السردية البديعة.

• شذرات من حياة يزيد بن أبيه
في الفصل الثاني من الرواية، تتجول منصورة عز الدين في مدينة البصرة، في أواخر العصر الأموي، تزامنًا مع ظهور فكر المعتزلة، تمسك الكاتبة بيد القارئ وتتنقل معه بين مجالس الحسن البصري وواصل ابن عطاء، فتقص عليه الحكاية عبر أربعة رواة، يزيد ابن أبيه، صاحب الرؤيا الحاضر في جسد هشام خطاب، وعدي بن مالك النساخ، صديقه الأقرب ومفسر أحلامه، وواصل بن عطاء، مؤسس فكر المعتزلة، وصاحب فكرة المنزلة الوسطى بين المنزلتين، وأخيرًا مُجيبة، زوجة يزيد، وعشيقة صديقه النساخ!

• أيام تنفرط كحبات العقد
وكلما اقترب القارئ من الاستقرار بين أزمنة تتماوج عبر صفحات النص، وكلما ظن أنه قد بلغ من الموج الزبد، عادت منصورة لتستدعيه لزمان مغاير، فتقرر في الفصل الثالث استحضار تكنيك الراوي العليم للمرة الأولى، ليقص علينا حكاية ليلى، أُم هشام خطاب التي أضاعت بدورها دروبها، وضببت عواطفها السبل. يشعر القارئ هنا أن لليلى مكانة خاصة لدى الكاتبة، فقد اختصتها دونًا عن رواة العمل لتروي حكايتها، شخصيًا؛ بدا لي وكأن شخصية ليلى تتماس بشكل ما مع شخصية سلمى بطلة رواية وراء الفردوس، خصوصًا مع الحضور التصويري البديع لأجواء القرية الهادئة، التي ظلت ملتحفة بالحكايات والأساطير حتى نال من هدأتها غضب النهر. تقص الكاتبة على القارئ حكاية أخرى مطرزة بالشجون حول امرأة انفرطت سنوات عمرها كحبات عقد أضاعته في صباها، فآمنت بأنها أضاعت حظها بتناثر حباته فوق رمال متاخمة لنهر تجمعها به نبوءة مؤجلة، نتصفح أوراق حكايتها بداية من الخوف الطفولي المنبثق من الخرافات، مرورًا باختيارها -صبية منقادة لعاطفتها- لزوج جوال دائم الترحال، وصولاً إلى ابن اختطفه منها الزمن متجسدًا في مخطوطاته، وربما يكون العكس بدوره صحيح!

• داخل لوحة شاجال
في الفصل الرابع، نتعرف على حكاية ميرفت، أو بيلا كما يسميها هشام، نسبة إلى بيلا روزنفيلد المطلة من لوحات زوجها مارك شاجال، تعيد الكاتبة هنا منصة السرد للشخوص، وتتراجع في كالوسها الروائي مُتابعة مسار الأحداث. وميرفت هي فتاة متوسطة الحال، طموحة تحلم بالعمل الصحفي ولكنها تعمل في أحد الأتيليهات، هي قصة الحب الوحيدة في حياة هشام، غرام متقد برق بغتة قبل أن يتعثر في أطواره الأولى، حكاية شروق وغروب متتاليين جمعا بين طرفين لم يمنح أي منهما للآخر فرصة قطع المسافة المطلوبة تجاهه، فظلت السيقان ملتوية، والخطوات متلعثمة، حتى تفرقت الدروب وتباينت المسارات.
تنتهي أوراق ميرفت فيما تتصفح أوراق خريف العمر وقد شرعت في التساقط أمام ناظريّ طفلتها، فتعود منصورة عز الدين لتفتح كوّتها الزمنية وتقذف بنا إلى بغداد!

• امرأة في الكرخ … بيت على أبواب البصرة
في الفصل الخامس، تتبع كاتبتنا حكاية مُجيبة وعشيقها مالك النساخ، وما كان في حكايتهما بعد عقود تفرقا فيها واجتمعا بعدما عرفا مذاق الكهولة وتجرعا كؤوس الندم، وإن تباينت المصائر، نستمع إلى ثلاثة رواة في هذا الفصل، مجيبة، ومالك النساخ، قبل أن تفاجئنا الكاتبة باستحضار يزيد بن أبيه من مرقده، ليسد فجوة شابت رداء السرد حتى ظهوره، مفسرًا وموضحًا حكايته، التي كثرت فيها الرؤى، واختتمت عبر نهاية كابوسية أترك للقارئ تحديد استحقاقه لها من عدمه.

• خلف ضباب الجسد: فصل الختام ومسكه!
يعود لنا هشام خطاب ليختتم ما بدأه، يبدو كرجل قطع من مضمار العمر أغلبه، يعيش في مكان تمنى أن يجمعه بميرفت/بيلا، بعقل مشوش مترع بالهواجس والتخيلات، ولكنه مع امرأة أخرى لا يكاد يميزها، الحلم ما يزال حاضرًا في عقله، والشك سكين له نصل حاد يشق كل ألوان اليقين، لا يعرف هشام هويته، ولكنه يكمل حكايته، ويفسر، وعبر أوراقه، ينقشع الضباب عن اللوحة بعدما غيّب بعض التفاصيل، يتوارى ركام الزمن الذي طمر بعض الصور والمشاهد المتممة بعيدًا عن عينيّ القارئ، يلتحف هشام بأحلامه ورؤاه، يظل مطاردًا لملائكته التي لم تتوقف عن قطف الياسمين، ينعزل طواعية ليسقط في سراديب الزمن، متحررًا من مادية الجسد والمكان، ينطفأ في أعماقه نور القمر الذي ابتلعه في أولى الصفحات، ولكن شعلة عقله الباحثة عن الذات، الملاحقة لطيوف الشك، المطاردة لقبس الحقيقة الواهن، لا تنطفئ.

• إيجاز لا يرمي إلى التأويل
ارتكز النص في حبكته على رؤيا وردت في كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين كما أسلفت، ولكن الرؤيا ربما تطارد الكاتبة حتى اللحظة التي أخط فيها هذه الكلمات، الهواجس التي تسربت إلى كل فصول حكايتها تشي بالكثير، والياسمين المقطوف من بساتين البصرة وكل حدائق العرب، قد أودى بنا إلى حاضرنا هذا، حمل تفسير الرؤيا تحذيرًا من قرب غياب/زوال/تغييب فئة العلماء/العقلاء، فإلام آل المآل؟ في البصرة وغيرها؟ ما الذي جمع بين يزيد ومجيبة ومالك النساخ وهشام خطاب وميرفت وليلى؟ الإجابة هي الخطيئة! الشر الذي تفشى وتوغل في النفوس بعد قطف الياسمين، سرقة وقتل وزنا وحرق وهروب، تحققت الرؤيا، واستفحل الشر وتعاظم حتى بات له ظل ثقيل يقيد الفكر قبل اللسان! وإن كنا نحن في واقع الأمر من قطفنا كل الزهور، وأغضبنا النيل، وأكلنا كل الأقمار!
ذهب واصل بن عطاء إلى تغليب العقل على النقل، ودعا إلى منهج فلسفي وسطي، ومنزلة بين منزلتين، فهل نحن اليوم بحاجة إلى وسطية تفصل بين أفكار تنتهي مصابها إما بالكفر أو الإيمان؟ وإما بالوطنية أو الخيانة؟ أنا لا أدعو إلى فكر المعتزلة بين السطور، إنما -فقط- استدعي من الأفكار ما قد يناسب الحاضر، ولا ألبسه برداء ديني بحت، إنما أريده رداءً فكريًا جامعًا لكل المذاهب والفلسفات التي تفرزها العقول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب وروائي مصري 

مقالات من نفس القسم