“الغرق”… بين الغناء والأنين

الغرق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد النبي

تبدأ رواية الغَرق، للروائي السوداني حمُّور زيادة، من النهر الذي رآه القدامى ينبع من الجنة، وأسموه النيل، تبدأ بجثَّة يلفظها نهر الجنة إلى سطحه بعد غرقها بأيام، أمامَ قرية حجر نارتي، مكان الأحداث، جثة لفتاة، جثة غريقة مجهولة أو جنازة كما يسميها أهل القرية، وتظل على مدى أكثر من نصف الرواية تنتظر أن يتعرّف عليها أحد من القرى المجاورة، حتَّى تُدفن مجهولة غريبة، وتنتهي الرواية بغرق آخر، بجنازةٍ أخرى ليست مجهولة ولا غريبة هذه المرَّة، فكأنَّ الدائرة تكتمل أو تنفتح على تكرار لا نهائي لمصير الغرق المحتوم، الغرق الذي حاولت الرواية أن تستمد منه معانٍ ودلالات أخرى على مستويات مختلفة، فكأنَّ هذا النهر الذي ينبع من الجنة هو سبب الحياة والموت، مصدر الانعتاق والرق معًا.

من حيث البنية والنسيج الكُلي للعمل، تقترب الغرق كثيرًا مِن رواية حمّور الأولى الكونج (الطبعة الأولى، 2010)، مكان محدد محدود هو قرية سودانية بجانب النيل، وحدث أساسي يشعل فتيل الدراما والحركة، في الكونج مقتل سيدة عجوز والبحث عن قاتلها واقتياده إلى السجن واختلاف (أو اتفاق) أهل القرية حول براءته وإدانته، وفي الغرق حدث أساسي آخر هو وصول جثمان الغريقة المجهولة في نفس فترة الاستعداد لزواج أحد وجهاء القرية بكل ما يتفجر خلاله من أحداث صغيرة وكبيرة تكشف أو تستر، ثم تتبُّع نتائج تلك الأحداث في الفصول الأخيرة. لا عَجب إذن أن اسم قرية الكونج يتردد أكثر من مرة في رواية الغرق، بصفتها من بين القرى المجاورة لقرية حجر نارتي.

في الروايتين يحفر حمور زيادة أفقيًا في تاريخ المكان، أو بالأحرى في تاريخ مَن يعيشون فيه، علاقاتهم وصراعاتهم، حكايات الهوى والغرام والثأر والضغينة، مَن منهم ينجو ومَن يغرق بالاستسلام أو رغم إرادته. وإن كانت الكونج حكبتها ضيقة وملمومة وفيها روح مرحة خفيفة وتحتفظ بغلافٍ مِن غموضٍ شفيف حتى نهايتها، فإنَّ الغرق نسيجها أكثر تعقيدًا وثراء وحبكتها تميل للاكتمال، وترجح فيها كفة المأساة على الملهاة، على ما في بعض مواقفها وحواراتها من دعابات ذكية وطريفة.

مِن لحظة ظهور (الجنازة) الغريقة على شاطئ حجر نارتي، يبدأ الرواي العليم في تتبع مسارات شخصياته المتنوعة، فيمضي في هذا الاتجاه إلى حينٍ، ثمَّ يبدله سعيًا في اتجاهٍ آخر، من غير أن يفلت خيط تواتر أحداث الزمن الحاضر، مضطلعًا في الحين نفسه بمهمة كشف أبعاد وأعماق ما جرى في الماضي بين شخصياته الأساسية وكيف تشكلت حياتهم على هذا النحو، لكن نِسبة حكايات الماضي مِن السرد هي الأكبر والأهم أيضًا، فكأنَّ مسرح الحاضر برمته ليس إلَّا تكأة سردية للنبش في سراديب الوَنس، والوَنس هو التعبير الأكثر ترددًا في النص، ويقصَد به سرد الحكايات شفويًا في الجسات حول القهوة. لفتَ الروائي في أكثر مِن موضع إلى آلية تشكل وصياغة الحكايات التي تدور في جلسات الونس، ما يُحذف وما يبقى وما يتكرر، فكأنه يحلل – عبرَ حجاب الولع بالحكي – ثقافة وتوجهات هذه الجماعة، وما تريده أن يبقى منها ولها، ما يضحكها وما يحزنها وما يصنع أيامها في الإجمال.

غير أنَّ الرواي العليم لا يستسلم لضرروات الوَنس وقيوده، فهو مِن ناحية لا يسرد حكايات جماعته كما تود الجماعة نفسها لها أن تكون، لا يستر ولا يخفي ولا يراوغ، ومن ناحية تقنية لا يدع حكاية تكتمل دفعة واحدة من أولها لآخرها، قبل أن ينسجها بأخرى، راهنة أو قديمة، مجازفًا بمقاطعة مُتعة سامعه (قارئه) لصالح أن يشاركه استكمال النسيج الكلي للوحته. كما لا توجد أبواب موصدة أمام الرواي العليم ، فهو يطلع حتَّى على ما تخفي الصدور من أفكار وهواجس وأشواق، يقوده في هذا الرسم المشهدي بالأساس وحركة الشخصيات وحوارهم وحديثهم لأنفسهم.

وحمور زيادة من الروائيين الذين يحبون شخصياتهم، يحتضنها ويحنو عليها، أو بالأحرى فكأنه يحملها على عاتقه ويسير بها عبر طرقات حكايته. لا يتخذ مسافة آمنة منهم، فكأنه يشم روائحهم ويلمس جلودهم، وهو ما يدفع قارئه للتورط معه بلا أي مشقة. لكن حنانه هذا لا يتوزَّع على جميع شخصياته بالعدل، فهو يحب نسائهم أكثر من رجالهم، المقهورات منهن أكثر من المتجبرات، ضعيفهم أكثر من قويهم، والبرئ الحر أكثر من الآثم المكبَّل بأغلال العائلة والإرث والتقاليد.

هذا الانحياز للمستضعفين والمهمشين سمة أساسية في كل ما قرأت لحمور زيادة، لكنه ليس انحيازًا فكريًا جامدًا، بل بالأساس انحياز جمالي، يتبدَّى في كل خياراته الأسلوبية، حتى عند اختياره لمفرداته وهو يقترب من تلك الشخصيات، فعلى سبيل المثال، ودون أن أفشي حكايته الجميلة، كُلما ظهرت شخصيته التي لا تُنسى، عبير، تكاد تفوح روائح فاتنة من بين سطوره وتتقطَّر المفردات شِعرًا سائغًا. عبير، بالنسبة لي، عمود هذه الحكاية الفقري، أوَّلها ومنتهاها، الخادمة نصف الطفلة، سليلة الإماء وخط نسب أمومي بآباء مجهولين/معروفين من السادة مُلَّاك العبيد، سواء قبل إلغاء الرق أو بعده لا فرق. عبير، التي تحلم باستكمال تعليمها، وتتحدَّى جبروت حاجة الرضية التي أذلتها وأمها طويلا بكل طريقة ممكنة. عبير، التي تُسلم جسدها بلا تردد لكل مَن يبدي رغبة، والتي رغم نحولها الشديد والمفتقرة لأي مظاهر حسن واضحة، تشعُ بسحر غامض دفع البعض لاتهامها بممارسة السحر والشعوذة. عبير التي يشارك الجميع في نهشها ويتفق الجميع على التخلّي عنها في نهاية الأمر.

إلى جانب عبير، تحفل رواية الغرق بشخصيات أخرى آسرة ومتوهجة، وحكايات تميل للحُب والعلاقات الحسية، مثل حكايات سكينة البدري وعاشقها وهو أيضًا زوجها الثاني البشير. رغم وجود أشباح السياسة في الخلفية كأنها تهديدات بعيدة غامضة قد تخلخل قواعد هذا المجتمع الصغير الساكن في أي لحظة. انقلابات العسكر، القديمة والجديدة، وثورات الأفندية، وتبدل التيارات السياسية، جميع ذلك ليس له إلَّا أهون الأثر على التركيبة الصلبة والعتيقة لهذا المجتمع شبه المغلق، والذي تتكرر فيه النوائب ذاتها في دائرة مغلقة.

لا يزال حمور زيادة حريصًا على سلاسة سرده ورهافته في روايته الجديدة، لا يزال يميل لتقسم الفقرات وتقطيعها قصيرةً كأنها أبيات شِعر في قصيدة نثرية، ولا يزال أيضًا ميَّالًا للغنائية في بعض مواضع سرده حتَّى يكاد الرواي أن ينشد لا يسرد، مثلما يتكلم عن سكينة بنت البدري، فيقول: “لكنها كانت بنت البدر. مكتملة حسنًا. وفائقة لطفًا. تمشي فيزغرد الرمل تحت قدميها الطفلتين. تصفق فيطرب النيل. تضحك فيرقص النخيل”، فكأنّ راويه لم يتخلّص تمامًا مِن كل أثر لحكايات الونس الشفاهية وجمالياتها وأنغامها. نَعم، هذه حكايات القهر والونس، كما أسماها صاحبها، لكن القهر فيها يغلب الوَنس، والغناء فيها مجروح بتاريخ من أنين الغرقى من الموتى والأحياء.

مقالات من نفس القسم