التروسيكل

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ثروت

بامتداد الرؤية تظهر مركبات كثيرة، وإشارات ملونة. جوار كل إشارة صبي أسمر أو فتاة نحيفة، الصبيان يمسكون علب المناديل بأصابعهم النحيلة، والفتيات يحملن الفل معقوداً. السائقون غاضبون والسائرون عابسون، أمّا جندي المرور المترجرج ككرة فيطرد الأطفال من مجال سلطانه، لكن الفتيات يبتسمن و يركضن، يلاحقهن الصبية ضاحكين، بينما تروسيكل يعلو صوت محركه يعبر المشهد صاخباً.

التروسيكل له ثلاثة أبعاد من الصاج الحاد المطلي بالأحمر، لكنه بلا سقف يغطي محتوى الصندوق الكبير، في مقدمته محرك وتحمله عجلات ثلاثة، إنه الحلقة الوسطى بين الدراجة و السيارة، لكنه بلا سقف، كسيارات المترفين الحديثة.

يقبض الفتى الأسمر المقود بكفيه، يحركه يميناً ويساراً أو يديره نحو جسده فتزيد سرعته، ولا يكف عن التلوي بين السيارات البطيئة متجاوزاً كل واحدة بأثر بسيط أو واضح من احتكاك صاجه القوي بصاج السيارات الهينّ، و السائقون إما غافل وإما خائف من اشتعال معركة لا يعرف نهايتها فيؤثرون الصمت والابتعاد بقدر عن التروسيكل وسائقه ذي الوجه الغاضب المحتد. صندوق التروسيكل المرّكب يحمل بين أركانه فتاة لا تتجاوز الرابعة عشر بحال وامرأة ترتدي سواداً فوق سواد نحت الزمن الطويل علامات فوق وجهها، وبينهما بعض شكائر البطاطس.

يقتضي المسار أن يوصل المرأة وشكائر البطاطس لوسط السوق، ثم ينقل الفتاة لعصّارة القصب التي تعمل بها طوال النهار وردحاً من الليل. شعر الفتاة  بلون طوبة قديمة ، طوبة غطاها الأسمنت و الدهان ثم تم كحتهم من فوقها فتبقى لون لا أحمر ولا برتقالي، بينما يغطي الثلث العلوي لوجهها حاجبان غليظان مرسومان بلون أسود مظلم تعلوه صبغة برتقالية خفيفة، و بشرة الوجه تبدو كمسطح دُهن زيتاً خفيفاً، عندما أنهى انزال الشكائر للمرأة صاحبة الجلباب الأسود ابتسمت الفتاة بارتياح و ظهرت أسنانها صغيرة صفراء غير منتظمة، سيظلان وحدهما طول الطريق تراقب شعره الخشن الملتف و ذراعيه النحيلتين وهي تُبدي تمنعاً عن الحديث معه إلا بعد إلحاح منه، ثم التفافه نحوها مستعطفاً و مداعباً مرات عدة، لترضى أخيراً و ترضيه بحديث حالم رهيف، كان صوته أكثر انخفاضاً لكنه أكثر وضوحاً حين قال لها” انتي بتاعتي “، فأنتجت العبارة السحرية ابتسامة واسعة فوق شفتيها و عينيها، ولم يعثر لسانها على رد يكافئ كلماته الساحرة فاكتفت بلمس قفاه ومؤخرة رأسه بأصابع لينة حالمة.

طوال يومه الذائب بين الشوارع الترابية لم يكن يعتقد أن هناك شيئاً أكثر متعة في الحياة كلها من لمسة يدها، كانت ترطب وجوده وتمنحه سبباً، وهي طوال يومها الغارق في مصاصات القصب والأكواب الزجاجية لا تجد لحظة أكثر اطمئناناً وسكوناً من لحظة يضمها بين ذراعيه الطويلين الرفيعين، كانا يستعجلان اليوم لينتهي ثم يستعجلانه ليبدأ من جديد.

منتقلاً من شارع لشارع، حاملاً شكائر البطاطس أو أقفاص العنب والطماطم، ناقلاً بائعات ببضائعهن أو فتيات من بيوتهن يعملن في محال المدينة الكثيرة، يغضب و يقاتل و يعمل كادّاً، ينقل رملاً أو كراتين، كان حمّالاً وسائقاً للتروسيكل، أمّا النسوة ذوات الجلابيب السوداء فتمنحنه جنيهات فضية أو حبّات من مزروعاتهن، ويكتفي من الفتيات الغضات ببسمة أو لمسة يد اضطرارية وقت الهبوط أو الصعود لصندوقه الحاد، لكن حبيبته تبقى متفردة بانقباض قلبه ورعشة أنفاسه، تظل لمستها و بسمتها مميزتين عن الجميع.

كانت يداها دوماً ملتهبتين متشققتين من كثرة تعرضهما للمياه طوال يومها في عصّارة القصب البدائية، تنظر ليديها ولا تجد فيهما اختلافاً عن يدي فتاها فتنكسر نظرتها، لكنها تُخرج من كيسها الأسود نهاية كل يوم علبة بلاستيكية، تغمس فيها إصبعاً ثم تدهن ظهر كفيها بالفازلين الطبي و تبتسم منتظرة فوق الرصيف الذي يواجه محل عملها، سيصل أمير أحلامها خلال وقت قصير، يحملها على صهوة جواده، ثم ينطلقان في حدائق لا نهائية ينقلان رحيق الزهور من وردة لأخرى، لا يوقفهما شرطي ولا يزعج عيونهما سواد، ولا يؤذي أنفيهما أو لسانيهما طعم التراب و رائحته.

حين توقف التروسيكل أمام فرش المرأة التي يوصلها أولاً، وجده مقلوباً رأساً فوق قدم، والمرأة تصرخ بشعر مبعثر وطرحة منحدرة من فوق رأسها تحيط رقبتها كشال صعيدي، كانت تواجه شخصاً ضخماً يبدو كمسئول بشكل ما يُخيرها بين دفع مبلغ يومي أو رحيل أبدي، بينما صراخها تائه وسط ضجيج البائعين وفصال المشترين، كلٌ مهتم بنجاته الشخصية لا يشغله شيء ما دام خارج دائرته الخاصة جداً، و كان فتى التروسيكل مختلفاً، حاول التفاوض مع الضخم ليقلل المبلغ المطلوب، و كان الرد كفاً غليظاً خشناً دوّت فرقعة اصطدامه بخد الفتى، لكن أحداً لم يلتفت و انفرد كل واحد بوحدته وسط الزحام، لم يتألم الفتى رغم احمرار خدّه تماماً وصفير أذنه لدقيقة كاملة، تسمّر وهو يسمع رنين سخرية المسئول منه، كانت كلمات الضخم تشبه صدىً يتردد متقاطعاً مع صفير أذنه، لم يستطع-ولم يحاول- ايقاف يده التي امتدت لتردّ الصفعة بأخرى أقوى، هنا توقف الضجيج لحظات بدا وكأنها لن تمّر، كانت فعلته مخاطرة لا يتوقع أحد نتائجها، ولا يريد شخص أن تحدث هذه النتائج في حضوره، لكنّها حدثت في حضور الجميع، و مثلما كان رد فعله مباغتاً حتى له هو نفسه، ارتعش الضخم فجأة و علا عويله، وضع مسدساً بحجم كفه فوق رأس الفتى وأطلق رصاصتين.

أسراب السيارات لم تنقطع طوال الساعتين الماضيتين، وهي توقعته قد ذهب ليُحضر لهما طعاماً، أو أنه يُوصل كل زبائنه حتى يعودا طوال الطريق وحدهما، كان الوقت يرحل و لا يعود، ثم تجلّت في رؤاها ورأته يحمل وروداً حمراء وياسميناً، كانت أنوار السيارات تضرب عينيها في ومضات سريعة قوية، تتبدل المشاهد أمامها، تظلم وتومض، تنتشي وتنقبض، كان في البُعد تروسيكل أحمر يصيح في صخب يقوده شخص ضخم.

 

يونيو 2018

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون