وراء الفردوس” لمنصورة عز الدين: الريف والتغيرات الاجتماعية متكأ لتقنية السرد الحديثة

من الرومانتيكية إلى الواقعية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

لا يستهويني كثيرا الأدب الذي يتناول الريف، ربما لإحساسي أن الرواية هي ابنة المدينة، ووثيقة التعبير الفني المرتبط بالمدنية. لكن، على الرغم من أن رواية منصورة عز الدين الجديدة، "وراء الفردوس"، الصادرة أخيرا عن "دار العين للنشر" في القاهرة، تتناول عالم الريف، فإنها منذ سطورها الأولى قد خلّصتني من مخاوفي، أولا لأن الطبقة المعبَّر عنها في النص، كطبقة وسطى عليا في الريف، لم يتم تناولها كثيرا من قبل، وتاليا لاعتمادها على نسق سردي كانت اختارته في مجموعتها الأولى، "ضوء مهتز"، سجلت به صوتها الخاص، ورؤيتها للكتابة. لكن ذلك النسق لم يستمر طويلا في النص، فقد استبدلته بتقنيات جديدة مزجت فيها بين التداعي الحر للذاكرة، والأحلام، والحدوتة الشعبية، والسرد، والمشاهد المرسومة ببراعة.

عندما انتهيت من القراءة الأولى، أحسست أنني في إزاء لوحة نسيج ملونة غزلت الكاتبة تفاصيلها الدقيقة بدأب وجدية. كنت أحاول أن أتأمل ملامح وجوه أفراد عديدين يمثلون ثلاثة اجيال، بدءا من الجدة رحمة التي توثق لنشأة الجيل الأول منذ الأربعينات وصولا الى الحفيدة الراوية سلمى، وصديقتها أو أناها الثانية، أو قرينتها جميلة. لم يتسن لي ذلك بسهولة بسبب تعدد الأسماء، وخصوصا أن الرواية تعبر بين الأزمنة والأجيال، ذهابا وإيابا. لكني مع القراءة الثانية كنت قد رسمت المعالم العائلية لهذه الأجيال بوضوح، أما الملامح فقد لا ترسخ في المخيلة، على رغم تكرار ظهورها جميعا، عبر وقائع متباينة، قدر ما تنحفر ملامح شخصيتين مركزيتين، مع أن الإشارة إليهما تكاد تكون عابرة: لولاّ، التي أحرقت نفسها لإصرارها على إخفاء اسم عشيقها الذي حملت منه وغاب، ولتجنيب عائلتها فضيحة تلوّث شرفها. وبدر المجنونة والمربوطة بالسلاسل، والتي ما إن تمشي حتى يُسمَع صوت القيود التي قيّدها بها أبوها.

بدر، كانت محلا لسخرية الأطفال، وشفقة الرجال، وبينهم جابر عم الراوية سلمى رشيد، وزوج أم قرينتها جميلة التي توفى ابوها الحقيقي صابر، الذي كان يعمل في مصنع الطوب لدى العائلة، قبل أن يقع ضحية “المعجنة الآلية”، ممزق الجسد متناثر الأشلاء.

كانت بدر تحب جابر وتداعبه بسخرية، وتنادي عليه ليفك وثاقها الحديد. على رغم جنونها قررت، بإباء، أن تغادر القرية وتختفي غضباً، بسبب حبيبها الذي طلّق زوجته حكمت ليتزوج من أم جميلة، لا ليتزوجها هي. رحلت بدر وبقيت أسطورة في خيال الأطفال، وأهل البلدة ايضا، بل وفي خيال الراوية سلمى التي كانت في أعماقها تخشى أن تقع يوما في براثن الجنون.

أما لولاّ المسكوت عنها وعن ذكر اسمها في العائلة، كأنها رجس يجب اجتنابه، فلا تحضر إلا كطيف. هي مثار لفضول الجيل الثالث، سلمى خصوصا، التي لم تعرف حقيقة ما حدث لها إلا من خلال أوراق ابيها رشيد بعد وفاته. تحتفظ بصورتها، من بين أوراق اخرى كثيرة قررت أن تحرقها، مع صندوق الذكريات الذي جعله أبوها في حيازتها. هكذا تنجو ذكراها، كما يليق بعاشقة وفية مثلها.

كان غياب الشخصيتين مثارا لشائعات وتندرات وأساطير تكشف عن التراث الأخلاقي للريف المصري، وهذا ما تناولته عز الدين ببراعة، في هاتين الشخصيتين، وعلى هامش التاريخ الشخصي للعديد من الشخصيات الأخرى في النص. وإذا كان مستوى الوعي من ذاكرة سلمى يوضح أزمتها في علاقتها بتراثها الشخصي، وفي بحثها عن نفسها، فإن مستوى اللاوعي، ممثلا في أحلامها، يجسد مخاوفها من الجنون، ويعبّر عن رغبة مطمورة في أعماقها لاستعادة ذاتها مجسّدةً في نصفها الثاني جميلة، حيث تتقاطع مصائر حياة كل منهما بشكل درامي. فهي ترغب في قتلها في الحلم، لكنها لا تفهم هل يعني ذلك عقاباً لجميلة على نأيها عنها، واختيارها طريقاً مختلفة، أم تعبيراً عن العلاقة الملتبسة بين الحب والكراهية، التي تجمع بينهما. أو لعلها تعبّر في لاوعيها عن رغبتها في ان تصل إلى حيث تريد ان تعيش في فردوس ملون، لا ترى فيه سوى ألوان الطيف.

تلعب الأحلام دورا جوهريا، وهي سمة في اعمال منصورة عز الدين بشكل عام. غير أنها في هذه الرواية تجنح الى الكابوسية أكثر بكثير، بديلا من التناقضات الصارخة التي كانت الكاتبة تضفي عليها، في عمليها السابقين، لمسة من المرح الساخر. تعبّر هنا عن لاوعي مراوغ للراوية سلمى رشيد، وعن إلغاز لما تريد النفس أن تقوله. تلجأ الى اللاوعي الذي يعدّ فقيرا، لأنه لا يمتلك سوى تجميع الصور من أزمنة شتى. فلا يزيد الأمر إلا إلغازا، كما هو شأن الحلم الذي تماهت فيه الراوية مع صورة والدها، فلم يعد واضحا هل هو تعبير أوديبي، أم أن له مغزى آخر.

على كل حال، فإن الأحلام تكفي لإيضاح ان لدى اللاوعي من الدهاء وسعة الحيلة ما لدى رئيس طهاة كسول، مستبدلا أحد التوابل بآخر ليس موجوداً لديه، فيمزج أشد المكونات اختلافا ليصنع يخنة خرقاء، مثلما يعتمد حلمٌ بصورة انتهازية على “بقايا النهار” فيخلط وقائع حصلت خلال الشمس او احاسيس تم الشعور بها اثناء النوم مع صور مستلة من عمق طفولتنا.

تبدو منصورة عز الدين مدركة لذلك تماما، لكنها تجعل من الأحلام متكأ للمسة الغرائبية التي تجدل بها النص من جهة، وتجعل الراوية مهتمة من جهة أخرى بمحاولة فك شفرات تلك الأحلام عبر التفسيرات التي شاعت في التراث العربي، لتكشف بين آن وآخر، لغزا حلميا، وتفك شفرات غرائبيته، بما تجود به التفاسير، وأهمها حلم فقدان الناب التي أدركت منها أنها ترغب في التخلص الكامل، وربما القطيعة مع إرثها العائلي، من الحياة والذكرى، من دون أن تعرف ان هذا القرار ستقابله مخاوف أخرى، تعيش في لاوعيها، وأقوى هذه المخاوف هاجس الجنون.

على عكس الشائع في كتابة التسعينات، يتناول النص عددا من القضايا التي تصور عز الدين تفاصيلها وانعكاساتها على المجتمع الريفي اجتماعيا واقتصاديا في ثمانينات القرن الماضي، وهي قضية تجريف الأراضي، وما استتبعه من تحول صناعي، استلزم تجرد الفلاحين من تربة أراضيهم بإرادتهم، تحت ضغط الجشع، والرغبة في الثراء، حتى لو كان على حساب الأرض التي يمتلكونها وقدراتها الإنتاجية المستقبلية، بكل دلالات ذلك من تغير في القيم، وفي الطريقة التي دمر بها رأس المال الجديد الاقتصاد الزراعي.

يبدو جليا الجهد البحثي الذي بذلته الكاتبة في هذا الصدد، وفي تسمية الأشياء بأسمائها، وخصوصاً النباتات والأشجار والطيور والكائنات، التي يفيض بها الريف، وترتبط في الكثير من الأحيان بالتراث الشعبي والمعتقد، وهذا ما نثرته الروائية ببراعة في ثنايا النص، حيث الأشباح والعفاريت والمعتقدات المرتبطة بالتشاؤم من الغربان والخوف من انتقام الأفاعي، إضافة إلى تراث الحكي الشعبي الذي قدمت فيه لمستها الخاصة من خلال حكاية الطفلة كمونة التي خطفها عملاق، وخبأها في جيب معطفه وانطلق.

هذا الجانب المعرفي لا يخص المؤلفة فقط، وإنما يدلل على النص الذي كتبته سلمى، وأرادت به أن تستعيد ذاتها وذكرياتها. كانت تعتقد أن أحد أبرز مظاهر التحضر، أن تذكر الأشياء باسمائها، وهو أحد دوافعها الى التغير، من بين دوافع أخرى، ربما أحدها، تعلقها بحب شخص ينتمي الى ثقافة غربية، هو ضيا البريطاني من أصول باكستانية، لا لتصبح محررة قصص أدبية في إحدى الصحف فحسب، وإنما لتقترب من النموذجين الأقرب الى وجدانها وتطلعاتها: جميلة ومارغو.

صحيح ان سلمى وجميلة، بتفاصيل حياتهما المتناقضة والمشتركة والمتنافرة أيضا، اقتسمتا، حتى رجلا واحدا هو هشام، ابن عم سلمى، لكنهما تجسدان نموذجين للفتيات المتطلعات الى الخروج على أعراف القبيلة الريفية، من وحي وعي طبقي وثقافة مختلفة، وتكمل كل منهما الأخرى، ربما، بينما تظل بدر ولولاّ النموذجين الأكثر تمردا لأنهما تمردتا على تلك الأعراف وهما تنتميان إلى عمق تلك الثقافة الريفية المتحفظة ذاتها، وهذا مكمن قوتهما الرمزية على رغم أنهما معا لم تحتلا مساحة كبيرة السرد مقارنةً ببقية أبطال هذا النص.

وراء الفردوس” رواية جديدة، عميقة، ومعرفية، تؤكد سعي جيل التسعينات للبحث عن شخصية خاصة على مستويي الأسلوب والبناء، فيما تأتي الموضوعات متكأ للتعبير عن تلك الأنساق التعبيرية الجديدة، وهذا احد مكامن قوة هذا النص الجميل.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم