هدوء القتلة لطارق إمام.. كتابة حديثة بدماء جثة السرد التقليدي

إبراهيم فرغلي: الكتاب الأول أكثر من مجرد نزوة متعجلة للنشر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

بـ"هدوء القتلة" ضرب طارق إمام نصلا عميقا في جثة النص السردي التقليدي، بيده اليمنى على ما أتصور، وباليسرى كتب، بدم بارد، على جثة القتيل نصاً سردياً حديثاً، ومبتكراً، بامتياز. 

تماما كما يفعل بطل روايته سالم؛ القاتل المتسلسل الغائب في رؤاه، الذي يقتل ضحاياه بيده اليمنى، ليكتب باليسرى قصيدة جديدة مع كل ضحية، تاركاً سطوراً من الدماء تحيا بامتداد المدينة، بعد أن يعثر على مخطوط قديم لناسك كهل مجهول، يقود روحه، ويتخذ من مخطوطه كتاباً مقدسا يدير له حياته الخاوية.على الرغم من الطابع التأملي الذي تتسم به الرواية، فإن طارق إمام غلّف هذه التأملية والأفكار الذهنية، والفلسفية أحيانا، بحالة من المشهدية عبر صور ومشاهد تعطي هذا النص وجها من أبرز وجوه قوته، وتتكامل لتصوغ معا، حالة خاصة؛ تضفي تأثيرا يشبه مشاهدة فيلم، يدور في أجواء غامضة، ضبابية، في مدينة شاسعة، لكن أفرادها معزولون، أو تكاد تكون خالية.هذا النص مشغول بالتفاصيل، لكن كل تفصيل، يحيل على حكاية أخرى في الخلفية، وكل مشهد يتولد من تلك التفاصيل يؤدي بالراوي إلى مجموعة من التداعيات تتأرجح، على امتداد النص كله، عند الحد الفاصل بين الواقع والخيال.لو شئنا الدقة، فإن النص إجمالا ينتمي تماما الى الخيال، وهذا وجه آخر من وجوه تميزه، بينما الواقع ليس سوى محاولات مبتسرة للإيهام بوجوده، إذ ليس سوى واقع افتراضي أو خيالي.

فقد يتطلع الراوي إلى واجهة محل زجاجي، يحدق الى المانيكانات، أو نماذج الدمى التي تعرض الملابس. سرعان ما نجد هذه المانيكانات تتحول جزءاً من نسيج السرد، فتتولد فيها طاقة تحركها في مسيرات ثورية، وتطوف حولها أساطير تقول بهرب فرد منها من قبضة الشرطة، حيث يشاهد، بين آن وآخر، يتأمل أقرانه بعدما تمّ وضعهم جميعا خلف واجهات زجاجية، بينما تثور داخله أسئلة عن فكرة القيد والسجن، لدى مقارنة حال هذا المانيكان بحال الجيل الثاني من المانيكانات المسجونة خلف الزجاج.تبدأ التداعيات بمشهد لطائرات ورقية تحلق في فضاء المدينة، ثم تحيلنا الطائرات المعدنية، بضوضائها، وصخبها العنيف، على الغرباء الذين يغفون فيها متعبين، يرقبون خرائط العالم من نوافذها، بينما ترقبها في الطريق، إضافة الى الراوي، مجموعة من المقعدين على كراسيهم المتحركة، ينطلقون في أسراب، يشاهدون الطائرات، وينتظرون أن يتسببوا، باندفاعاتهم العنيفة، في سقوط ضحية جديدة، تنضم إلى سربهم في اليوم التالي. ومنها إلى مشهد لأماكن يستقر فيها المعتقلون، بينما تغطي أصوات الطائرات على أصواتهم فلا يسمعها أحد.في كل مشاهد الرواية تتداعى مثل هذه الصور وغيرها، لكن اللافت تلك العلاقات الثنائية التي يفيض بها النص عبر تداعيات الراوي: فعندما يتحدث عن بيوت جديدة يشير إلى أن كل بيت جديد مكتمل يعني مقبرة جديدة مكتملة في مكان ما. وعندما يتحدث عن إحدى ضحاياه من أصحاب العاهات، بساق واحدة، يجري مقارنة بين الساق الخشبية والأخرى السليمة. وعندما يستقل سيارة أجرة يجري مقارنة بين المشهد الضبابي الممطر للمدينة من نافذته المغلقة والمدينة الحية كما تظهر من نافذة السائق المفتوحة، انطلاقا ربما، من الثنائية الجوهرية التي يتأسس عليها النص بين يدي هذا القاتل الذي يقاوم عراك يده اليمنى التي يستخدمها في القتل، مع يده اليسرى التي يكتب بها الشعر.كأنها مقابلات فنية، على مستويات عدة، بين الفن والوحشية، بين الموت والحياة، بين القبح والجمال، وفي الأساس بين تناقضات الكائن البشري وازدواجياته التي لا تحصى. وايضا كأنها ثنائيات فلسفية، ومقاربات فكرية، مرسومة بعناية، وحرفية في لوحات فنية سردية.يتعدد ضحايا القاتل، من مصور فوتوغرافي إلى جابر صاحب الساق الوحيدة، وبائعة الورد المحجبة، وإحدى مريدات الأولياء في مولد من الموالد، وصولا الى الإسكافي، وجارته العجوز، وعشيقته سلمى التي قتلها مرتين!يبدو القتل الثنائي لسلمى كأنه تأكيد لمنطق الرواية التي تقول بكل الوسائل الفنية، أنه لا توجد حقيقة واحدة، وأن منطق الأشياء قد يختلف بين كائنين متلاصقين، وأحيانا بين عضوين متماثلين لكائن واحد! وهو من جانب آخر تأكيد للطابع الفردي، كسمة حديثة في مجتمع يفقد واحدة من صفاته الأساسية العتيقة، وهي قيمة الجماعة لمصلحة الفرد. وللعزلة التي يعيشها هذا الفرد في الوقت الراهن بشكل عام.أخيرا تظهر شخصية هناء التي تبدو، حتى اللحظة الأخيرة، مشروعا لضحية من ضحاياه، لكنها، وبعد أن تتعرى له، تفاجئه بما لا يمكن أن يتوقعه.تتخلص الرواية من ميراث ثقيل من الإيديولوجيا، والتحليلات الاجتماعية، وحتى من خلق مجتمع طبقي وفقا للتراتبات الاجتماعية. ولعل مشهد المقعدين في مقارناتهم لأسباب عجزهم، يوضح الطريقة الفنية التي يتأمل بها النص فكرة التراتبية: “فمن فقد ساقيه في حرب مجيدة لا يمكنه أن يستوعب أنه يتساوى وذلك الذي فقدهما في حادث طريق عارض. لا يمكن من سقط من منطاد بينما يطارد سموات غير مرئية أن يكون أخا لعابر التهم القطار ساقيه أثناء سهوه”. هذه الرواية لا تؤمن بسوى الفن، يدعمها الحس الساخر الباطني للنص، فكأنه نموذج للتعبير عن الهم الحقيقي للرواية بوصفها بحثا عميقا عن الهم الإنساني، على ما يقول ميلان كونديرا. وبينما شاع أن من فضائل النص الحديث الاختزال والتكثيف، اللذين برع فيهما طارق إمام مسيطرا على لغته الخاصة والجميلة، إلا أن الكاتب، في الوقت نفسه، لا بد أن يمتلك إحساسا داخليا، وميزانا ذاتيا، يتيحان له أن يضرب بعرض الحائط، إذا اقتضى الفن، كل مقولة لا تتفق وروح النص. فبسبب الإيجاز والاختزال افتقر النص الى مساحات كبيرة من التداعي كان في الإمكان أن تتاح بسهولة في نص مثل هذا قوامه الخيال؛ الذي لا يبدو الكاتب مفتقرا إليه على أي نحو. بل كأنه بذلك بدّد قماشة رائعة وأصيلة مجانا وبلا مبرر تحت ضغط مقولات نظرية لم تُختبر بشكل كامل. هذا الهدر المجاني لانسيال النص وتدفقه، والامتناع عن الاستمرار في غزله، على الرغم من توافر خام النسيج، أعطى الرواية طابعا تجزيئيا، إلى حد أنها بدت، في غير موضع، كأنها فصول لا علاقة في ما بينها، أو كأنها مشاهد تنتمي الى فكرة واحدة، لكنها تفتقر الى عناصر توحدها. لماذا يخشى كتّاب الأجيال الجديدة من طول النَفَس؟ ولماذا يقتّرون على قرّائهم باكتمال المتعة؟ سؤالان يجب ان يواجههما الكتّاب من التسعينات ومن اللاحقين، وإلا فالنتيجة غالبا ما ستكون ركاما من نصوص مبتسرة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم