نوستالجيا.. الزمان والمكان والناس والرائحة

جمال الطيب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 جمال الطيب

رواية “إلتماع الخاطرة بالسيرة العاطرة” للقاص والروائي “حسين عبد العليم” الصادرة عن دار “ميريت”-  القاهرة –  2018م؛ كما يوحي عنوانها هي ذكريات في حياة الكاتب، أقرب للسيرة الذاتية، يحكيها كما جالت بخاطره، دون التقيد بتسلسل زمني لها، بل هي أقرب إلى شذرات من هنا وهناك، ولذا نراها تتشابك في سرده لأحداثها، قافزًا بين الأزمنة والأماكن. يكتبها كما يحلو له، دون قيود تُكبّله أو محاذير تعوقه. الرواية تقع في (83) صفحة من القطع الصغير تحمل الكثير من الأحداث تتحمّل زيادة صفحاتها إلى أضعافها، ولكن المؤلف اعتمد على تكثيف أحداثها وسرعة تدفقها بحواراتها التي أكسبت السرد حيويته. مفتتح الفصل الأول بثلاث قصائد مُنتقاة بعناية لتتضافر مع أجواء حكاياته؛ فالقصيدة الأولى للشاعرة “كوثر مصطفى” تدور حول الحنين للأماكن، وبالقصيدة الثانية للشاعر “مدحت العدل” يُسلّط عدسته في وضع “الزووم” يُقرّب بها لنا من خلالها تفاصيل هذه الأماكن، لنلمح قهوة بالظاهر وميدان السيدة زينب ودير الملاك بحدائق القبة، ثم قصيدة ثالثة وأخيرة للشاعر الراحل “أمل دنقل” يستعين بها ليُذكّرنا بطفولته وبعدها مرحلة الصبا والشباب، بعد أن تفرّق الشمل، ولم يعد يجتمع بهم إلا عند مطالعة أسماءهم وصورهم بصفحة الوفيات. الفصل يحمل عنوان “مفتتح أوجاع القلب الصغير” عن ذكريات تتعلّق بطفولته في المكان/ حي السيدة زينب والتي تنتهي بالانتقال إلى الدرب الأحمر، امتثالًا لدعوى الطرد التي أقامتها صاحبته ذات النفوذ، فزوجها باشا من العهد البائد القديم، وابنها مخرج سينمائي، لسكان العقار الذي تمتلكه بدعوى تداعيه لقدمه وترقب انهياره بين لحظة وأخرى، وبعد فشل المفاوضات معها والتي كان أطرافها من السكان: “مراد” الأخ الأكبر للصبي “حسن”، والعم “منصور” كمندوبين عن ساكني العقار، وتكسب دعواها، ليتم التنفيذ. أصوات الرواة تتم بالتبادل بين الراوي/ المؤلف والصبي الصغير/ حسن، الذي يترك له المؤلف رواية ما يدور داخل المنزل من أحداث داخل أجواء العائلة. الصبي تدور في رأسه فكرة الاحتفاظ بذكرياته التي شهدها المنزل قبل أن يفارقه بلا رجعة، وذلك بالتقاط الصور الفوتوغرافية لجنبات المنزل وحوائطه. تفشل الفكرة لعدم توافر المال لزوم شراء الكاميرا ومصاريف التحميض التي تتطلبها الصور بعد التقاطها. تشير إليه أخته الكبرى “سناء” باللجوء إلى عمل رسومات “كروكي” للمنزل تعينه على تنفيذ فكرته، والاحتفاظ بذكرياته التي يحرص عليها. تتابع الرسومات بتفاصيلها الدقيقة كما ارتأتها “سناء” والصبي، والتي يُشعرك ترتيبها وكأنها تُلتقط بكاميرا محمولة على الكتف تسجل من خلالها الأحداث، بدءًا من الخارج حيث الباب الخارجي، يعقبه الحوش المبلّط حتى تصل إلى السلم، ليتم بعدها الدخول إلى الشقة لالتقاط ما يسجل تفاصيله. ولا يفوت الصبي الصور المعلقة على الحوائط؛ كصورته مع أخته “سناء”، والمشربية التي تُعدّ النافذة التي تطل منها “الجِدّة” على الحارة، والتي يرسمها الصبي في مخيلته، وكذلك أصدقائه وهم ينادون عليه للنزول للعب معهم، وشقق الجيران عم “منصور” والعم “صلاح أبو عنايات”، ولكن تغيب عن ذاكرته حجرة المسافرين لعزلتها. يؤكد الراوي/ المؤلف من خلال السرد على ذاكرة الصبي الخصبة وجُمل حواره العفوية المشحونة بالبراءة، وكذلك إلمامه بتفاصيل المكان لرغبته في أحيائه في مكان آخر في المستقبل، بشراء قطعة أرض يقوم ببناء منزل عليها يتطابق مع منزله الذي عاش فيه صباه وشهد طفولته، ولكن يغيب عليه أننا قد نستعيد الأماكن بتفاصيلها ونتمكن من إعادتها لتتطابق مع ما عشناه وشهد أيامنا الغابرة، ولكن كيف لنا أن نستعيد الأهل والجيران والأصدقاء ورائحة المكان؟. الفصل الثاني مفتتح بقصيدة للشاعر التركي “ناظم حكمت” والشاعر المصري “أحمد شوقي”، الأولى تضع المكان في أي بقعة في العالم تعيش عليها بمثابة موضعك وبيتك، فالعالم كله تجمع بينه الإنسانية، فأي بقعة عليه ملكك ومكانك، على عكس أبيات “أحمد شوقي” التي ترى أن مكانك هو الذي أنت عليه، هو وطنك وموطنك دون سواه في العالم. في هذا الفصل يلج “حسين عبد العليم” إلى مدخل آخر يرى فيه ارتباطه بالمكان، وهو رائحته التي تنبعث منه وتنفذ إلى أنفه حال تواجده فيه. فيعود بنا إلى ذكرياته بالقرية عند زيارته لجدته وعمته وابنتها. فهناك رائحة الكانون، ولمبة الجاز التي كانوا يتناولون طعام العشاء على نورها الذي يتراقص بفعل نسمات الهواء التي تداعبه، وكذلك رائحة الورق المحروق، ورائحة البق المدعوك في المخدة، رائحة السمك المشوي ويود البحر ورائحة الجوافة أيام المصيف في الإسكندرية، وذكرياته هناك مع والده من خلال الصورة التي تجمعهما سويًا، والتقطها لهما مصوّر الشاطئ في سيدي بشر. تتداخل الذكريات من ليالي القرية إلى ممارسته لرياضة ألعاب القوى، ثم تركه لها، سماع برنامج “أغاني وعجباني” في الراديو، المرة الأولى التي استمع فيها إلى المطربة اللبنانية “فيروز”؛ التي أسرته بشدوها وجمال كلمات أغنيتها؛ والتي جعلته ينتبه إلى موهبة الفن التي حباها الله لها، واختلافها عن التفوق الرياضي، فالموهبة في الأخير، على حدّ قوله، لا تتعدى 20%، والباقي بالتدريب، فيقول: “المرة الأولى في التي سمعت فيها فيروز وتعرفت إليها- كانت تُغني: لا تسألوني ما اسمه حبيبي، أخشى عليه ضيعة الطيوب، والأكاده كمان كلمات نزار قباني، صوت إيه ولحن إيه وكلمات إيه، أهو ده الرُقّي والجمال صحيح مش العدّو والرياضة، ما أي واحد بالتمرين ممكن يبقى عدّاء كويس”. (ص36). وعن ذكرياته في الفيوم، دور السينما هناك وعشقه للأفلام، يقول عنها: “حضور الذاكرة يسبب لي ارتجاف في القلب، بعد أن هدموا سينما الفيوم بقى منها حائط داخلي، كان عليه أفيشات من إعلانات أفلام الستينات (بعضها من رسم خميس الثغر)” (ص37). ويعود بنا مرة أخرى إلى الإسكندرية ولكن من خلال الكُتّاب والروائيين، ويأتي على رأسهم، من وجهة نظره، الراحل “إدوارد الخرّاط” كأفضل من كتبوا عنها متفوقًا على الروائي البريطاني “لورانس داريل” (1)، ويقول عن كتابات “إدوارد الخرّاط” عن الإسكندرية: “أظن أن أعظم من كتب عنها (دون أن تكون كتابته ورد بلاستيك أو كارت بوستال) هو إدوارد الخراط، مش زي الأخ لورانس داريل” (ص37)، كما يشيد بكتابات الروائي “إبراهيم عبد المجيد” أيضًا، فيقول عنها: “برضوا إبراهيم عبد المجيد كتب كتابة حية وجميلة عن إسكندرية، كلما عدت إليها تعود إلى صدري الشواطئ، مغروسة في الرمال أغطية زجاجات المثلجات وعلب الصفيح الصدئ، قوالح الذرة، نفايات جافة وبقايا عناقيد عنب مسودة” (ص39). ولكن الإسكندرية لم تعد هي التي تعلّق بها في طفولته أيام المصيف مع والده وأسرته بعد أن اجتاحها التيار السلفي، فيقول: “تعود إليَّ وهو الأهم صور السيدات تسبحن مع أزواجهن في السادسة صباحا حتى البراميل فتتحول مايوهاتهن إلى نقطة غامقة في المياه الزرقاء (مش عبايات وبوركيني(2) وبلا أزرق). (ص39). يبرع “حسين عبد العليم” في الفصل الثالث في مزج السخرية اللاذعة التي تُفجّر الضحك بداخلك وهو يحكي معاناة صديقته القديمة “رضا عبد العال حسانين” مع مرض السرطان اللعين، بل وتتحول رحلتها ثلاث مرات في الإسبوع لمعهد الأورام بفم الخليج لحضور جلسات الكيماوي، إلى فاصل كوميدي يتناقض مع قسوة المرض وآلامه، مما يزيد من تعاطفك معها ومع زميلاتها اللائي يشاطرنها المرض وجلسات الكيماوي، والتي تركها لتروي بلسانها معاناتها مع مرض السرطان الذي أصابها في ثديها الأيسر، ورحلة علاجها بمعهد الأورام بفم الخليج. تقول “رضا” عن أعراض مرضها: “أنا كُنت زي العِجلة، جسمي كان حلو ومربرب.. ماخدتش ولا اديت لمّا حسيت بحاجة مزغمدة في بزّي.. قُلت دي سِمنه زيادة، شوية والحلمة دخلت لجوّه وشكلها اتغيّر وابتديت أحس بتعب. الوليه أم وصفي جارتي قالت لي: عليكي وعلى فم الخليج.. معهد الأورام.. كشف وتحاليل واشاعات طلّعوا عيني.. وقالوا لي عمليّه.. هيشيلوا بزي الشمال كله” (ص41). على الجانب الآخر هناك “أحمد” عشيقها القديم والذي أصابه المرض أيضًا، وتقول عن حالته وهيئته: “هو إتشفط وخس ووشّه عضّم واسوّد وبقى زي الكلب الاجرب.. وما دريت إلا وسمعت: الأستاذ أحمد تعبان قوي.. بيغسل كلى في مستشفى بولاق الدكرور تلات مرّات في الإسبوع” (ص41). السؤال الذي يراودها هنا: هل المرض الذي يصيب الإنسان يُعدّ بمثابة عقاب رباني على خطايا ارتكبها؟. تأتي الإجابة بعد مشاهدتها للمرضى في معهد الأورام، والتي جعلتها تجيب على سؤالها الاستفهامي الأول، بسؤال استنكاري آخر، تقول فيه: “في المعهد غيّرت فكرتي خالص عن انتقام ربنا.. يعني هو معقول ربنا بينتقم من كل النسوان دي ويقطع بزازهم..؟ ولا يعني كل النسوان دي خاطيه؟.. دا ربنا حنيّن” (ص42). في مكر ودهاء يشير المؤلف/ الراوي إلى أفاعيل الجماعات الإسلامية التي في ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب!، فتقول: “السُنيّة بعد ما اتحجّبت ولبست نقاب وقفوا معايا وقفه تمام.. شافوا لهم تصريفة عشان انزل في بيت الضيافه جنب المعهد يوم الكيماوي.. آهو أريح من المواصلات وأوفر. أصل البيت دي خيري للي من محافظات بسّ.. يباتوا فيه جنب المعهد وينزلوا من خمسة الصبح على طابور الكيماوي ويكتبوا كشف إسوم باللي جت الأول” (ص43/44).. تواصل: “والله أبقى واقفة من خمسة الصبح وجايّه تاني واحده.. ومكتوب قبل مِنّي ييجي عشر اسوم لسه ماجوش.. سِكتّ مرّه واتنين وبعد كده ابتديت أقوّم الخناقات.. أنا جامدة قوي ومايهمّنيش.. اتشهرت في المعهد كُله والنسوان كانوا بيتحاشوني ويكتبوني أول إسم في الكشف حتى لو ماجِتش أو ماكانش عندي كيماوي. آخر خناقة طِحت فيهم” (ص44)، ولكنها تُعقّب في أسى وإنسانية: “بس غلابه.. والله غلابه.. نزعل هوا ونتصالح هوا ونُقعد على جنب ناكل عيش وطعميه بارده مِسقعّه وعيدان جرجير ونطلب شاي من البوفيه في كوبايات بلاستيك” (ص44). الفصل الرابع يحدثنا فيه عن ذكرياته بشقة “باشتيل” المطلّة على نيل “إمبابة”، ويقول عنها: “مقام عشق، فكّرت أن أعشق البيت وأعشق شقتنا الصغيرة، ألححت على العشق وهيأت له- فتحقق” (ص51). يبدأ في تجهيز الشقة الجديدة بعد الانتقال إليها، وإضفاء عليها ما يحببها إليه ليطيب له واسرته العيش فيها. تنشأ بينه وبين حوائط المكان/ الشقة علاقة مودة وأُلفة وحُب، حتى تتحول إلى صديق يناجيه ويبثه شكواه ويتلمّسها ليطرح عليها أفكاره وهواجسه. تنمو العلاقة بينه وبين الجدران حتى عاد يخاطبها وكأنها تسمعه، بل ويسمع هو ردها: “صارت عادتي أن أتلمّس الحوائط، نَمت بيننا لغة خاصة، لدرجة إنني عندما عدت من سفر طويل استمر عام- ودخلتُ شقتي أتلمّس الجدران وأنا أقول: إزيّك.. وحشتيني- وشعرت بها تتحرك رادة عناقي التلامسي، كانت حركتها خفيفة حيية ثم انتبهتُ لخشيتي من وقوع البيت” (ص52). بعد زلزال عام 1992م والذي تسبب في تشقق جدرانها، وأصبحت تأن وتتوجع من جرّاء هذه التشققات التي أحدثها الزلزال في جسدها. يتبادل وأسرته معاناتهم مع الشقة والمكان كمبرر لتركهما ومغادرتهما، ولكنه يشعر وكأن جدران الشقة غير راضية عن هذا القرار، مما جعلها تتخذ ميولاً عدوانية تجاههم لأول مرة، فيقول: “هل كانت الجدران تسمع وتعي؟ أكيد، وإلّا ما سبب جهامتهما معي وعدم تجاوبهما، الأكثر من ذلك أن زوجتي أثناء تحركها في الشقة كانت تتكعبل هكذا فجأة وتصطدم بالحوائط وتُصاب بالكدمات، وابنتاي اللتان صارتا أكبر قليلًا غدتا كثيرتا التأفف من هذا المكان المزدحم” (ص53). جاءت لحظة الوداع بينه وبين جدران الشقة قبل الرحيل، والتي قضى فيها إحدى عشر عامًا، حزينة مشحونة بالعاطفة الصادقة المليئة بالشجن، والتي برع المؤلف في تصويرها، فيقول: “رحت أتلمّس وأقبل الجدران في حنان ملتاع فشعرت بها تجاوبني بشده، لدرجة أني سمعتُ نهنهة عميقة وكأنها خارجة من جُب- ساعد خلو المكان على تجسيمها” (ص54).لا يزال الكاتب في محاولته العودة إلى الماضي وتثبيته ومعاودة معايشته وبثّ الروح فيه مرة أخرى، ليعود وكأن لم يتم مغادرته، فيقول: “إمتى بقى، يخترعوا آلة السفر عبر الزمن- وطبعًا عبر المكان، أين أنت يا سيد ويلز(3). محفوظ ثبت لنا عالم الجمالية أوائل القرن التاسع عشر، مش هو بس، للحق هو وحسن الإمام” (ص56/57). في الفصل الخامس تبدأ رحلة البحث عن الأصدقاء القدامى في السيدة زينب، منهم من مات، فقد رحل دون رجعة، ومنهم من انتقل بحكم عمله إلى مناطق أخرى بعيدة عن حي السيدة. يتم اللقاء الأول يوم خميس في قهوة السمر بجوار سينما الفنتازيو بميدان الجيزة. تبدأ بوادر الفتور تحل على اللقاءات بينهم، من عدم الالتزام بالميعاد في المرات التالية، لتنتهي بعدم الحضور كلية، ويعود به الأمر وحيدًا بعد أن تفرقوا مرة أخرى وأخيرة. يعود الكاتب مرة أخرى إلى أيام الفيوم، وبداية الشروع في كتابة القصة القصيرة والكُتّاب الذين تأثر بهم، فيقول عنها: “قبضوا علينا، وبعد فترة تركونا وحُفظت القضية، بعد سنتين قررت كتابة قصة قصيرة عن موضوع قبض أمن الدولة في بيت محمد طه، حذقتُ وتعذّبتُ في كتابتها مُبيّنًا المشاعر الداخلية وواقع الحال أثناء الاعتقال، أتت قصة قصيرة طويلة نوعًا ما في 12 صفحة ونشرتها في إحدى المجموعات، عندما قرأت قصة محمود الورداني (النجوم العالية) يتحدث عن لحظة الاعتقال باختزال شديد ولغة دالة في صفحتين- إنبهرتُ وأصبتُ بالإحباط، تعلّمت منه أهمية حذف الرطانة والرطرطة في الكتابة. كذلك علّمني سيد قناوي من قصته الساعات، وصل المتفرقات من خلال الروح الداخلية للنص” (ص62). يعود بنا الكاتب لذكريات الطفولة في “الفيوم” بصحبة صديقه “علاء” الذي يشاركه الاهتمام بالقراءة، ويستعرض لنا مجلات الأطفال وشخصياتها في ذلك الوقت، فيقول عن ذكرياته في هذه الفترة: “نُحرُك أنا وهو في شارع منتزه فاروق مساء كل سبت في انتظار عم حسن بائع الجرائد حتى يظهر فنخطف مجلة سمير، من خلالها عرفنا السيده نُتيله راشد وعرفنا صلاح جاهين” (ص63). تدور الذكريات في الفصل السادس والأخير (الراوي/ المؤلف) حول الهجرات إلى الدول العربية في منتصف السبعينيات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي نجمت عن ذلك وتوحش النمط الاستهلاكي بعد سياسة الانفتاح، وغياب الوعي واضمحلال الثقافة، والتعدي على الرقعة الزراعية ببناء المنشآت الخرسانية عليها، والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن الكاتب هنا- كمبدع- كيف ستكون القرية إذا ما فكّر في الكتابة عنها بعد هذه التحولات الجغرافية التي طرأت عليها، ولم تعد القرية التي قرأ عنها في قصص “يوسف إدريس” و”فهمي حسين”، فيقول: “كيف ستكتب وقد انتهت القرى؟! كنت (وقد ربى فينا ذلك يوسف إدريس وفهمي حسين) من المؤمنين بأن كل قرية بها عبيط وبغي ومجرم ورجل قوي (القوي للجميلة) وفيها غيطان وافران في البيوت وأكوام تراب للتبرز عليها وكلاب تنبح وبهائم وطيور تجوب الطرقات وبط يسبح في الخلجان الصغيرة، الشمس تطلع وتغيب ولا شئ يتغير. انتهى كل ذلك فعلام نكتب إذن؟! بمرور الزمن أدركت أن التغييرات الجديدة ينتج عنها علاقات جديدة تصلح للكتابة عنها” (ص74). يسافر إلى سلطنة عُمان للعمل هناك، ولكن لم تدم إقامته هناك أكثر من خمسة أشهر يعود بعدها دون رجعة. فالمكان عنده كما يتضح هو الوطن في المقام الأول، وهو القائل: “دايما وانا رايح الفيوم مُغادر القاهرة أزعل- ودايمًا وانا رايح مصر مُغادر الفيوم أزعل” (ص67). فلم يرتبط بالمكان هناك ولا يحمل له حكايات يستمتع بسردها وهو يتذكرها، في الختام يمكننا القول أن الرواية فصول منفصلة، كل فصل منها ينفرد بذكريات في مرحلة/ زمان ومكان معين. ما يربط هذه الفصول ببعضها خيط رفيع يُشكّل “سبحة”، الأزمنة والأماكن والناس والرائحة هم حباتها. لغة الحوار بين شخصيات الحكايات كما كتبها “حسين عبد العليم” تعمّد أن تأتي على ألسنة أصحابها، لذا جاءت تتناسب مع شخصية قائلها ومستوى ثقافته، بل وتأثير البيئة التي يعيش فيها، فجاءت مُتسقة مع هذه الشخصيات دون أن تستغربها أو تترك عندك أي أثر سئ حتى لو كانت تحمل بعض الكلمات الخارجة التي سقطت منهم أثناء الحديث. لغة تحميل الكثير من السخرية؛ تطبع الابتسامة على شفتيك حتى في أحلك المواقف، عملاً بالمثل الشعبي “همّ يضحّك وهمّ يبكّي”، فهي لغتهم التي يتحدثون بها دون زيف أو مواربة، مما يجعل القارئ يتماهى مع هذه الشخصيات التي يشعر أنها حقيقية وليست من صنع خيال الكاتب، فكيف لا وهي التي يصادفها يوميا في الشارع وعلى المقاهي، بل ويشعر بقربها منه، أو قد يكون صادف إحداها وتبادل معها الحديث، فاللغة خلقت حميمية بين القارئ وشخصيات الرواية، جعلته يُصدّق ما يحكيه، فهي أزالت الحاجز بين المُتلقي والعمل الذي يقرؤه.

 

هوامش:

1- لورانس داريل: روائي بريطاني وشاعر وكاتب لأدب الرحلات من مواليد 28 فبراير من عام 1912م بجلندهار بالهند، صاحب رواية “رباعية الإسكندرية” بأجزائها الأربعة (جوستين- بلتازار- ماونت أويف- كليا) والتي وضعته في مصاف عمداء الأدب الإنجليزي الحديث أمثال هنري ميلر وجيمس جويس. (موقع أبجد).

2- بوركيني: ملابس البحر (مايوه) المخصصة للمحجبات.

3- هربرت جورج ويلز: من مواليد 21 سبتمبر 1866 في كنت بإنجلترا، وتوفى في 13 أغسطس 1946 في لندن. كاتب قصص قصيرة، وروائي يعتبر من مؤسسي أدب الخيال العلمي، وقد اكتسب شهرته بفضل رواياته التي تنتمي لذلك الصنف الأدبي. من أشهر أعماله آلة الزمن، الرجل الخفي، جزيرة الدكتور مورو، حرب العوالم وأوائل الرجال على القمر. (ويكيبيديا).

 

عودة إلى الملف

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم