مولانا الشاعر أحمد طه وأمكنته العديدة

مولانا الشاعر أحمد طه وأمكنته العديدة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فى منتصف السبعينيات كان هناك فريق من الشعراء المصريين يذهبون إلى أحد "قصور" الثقافة فى منطقة تدعى حدائق القبة، وهذا المكان لم يكن ينمّ عن أنه قصر بأى حال من الأحوال، ولا كانت المنطقة تضم أى حديقة تذكر، حتى يطلق عليها "حدائق" القبة، وكان هذا المكان الحكومى المحض، يحمل اسم الفنان العظيم نجيب الريحانى .

ولكن الشعراء الذين كانوا يرتادون المكان، استطاعوا أن يجعلوا لهذا المكان أهمية أكثر من أهمية القصر ،وكانت خيالاتهم المبهجة أو غير ذلك ،ترسم صورا وثورات تتناثر من خلال قصائدهم العجائبية ،والملغزة فى بعض الأحيان، والتى كانت مفعمة بروائح مطرية ـ نسبة إلى الشاعر المصرى محمد عفيفى مطرـ ،أو مضمخة بدماء أدونيسية ،أو مزدحمة بأطياف صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى وأنسى الحاج.

وكان من بين هؤلاء الشعراء عبد المقصود عبد الكريم ومحمد خلاف وعبد المنعم رمضان ومحمد عيد ابراهيم وأحمد طه، وكان هؤلاء الشعراء متنوعين تنوعا مدهشا وواضحا، ولكن آثر البعض أن يدمجهم فى صفات مشتركة بشكل تعسفى وظالم ،الظلم هنا ليس متعلقا بقيمة هذا ،أو مكانة ذاك ،ولكنه يتعلق بإهدار خصوصية كل شاعر ينطوى على قسمات وملامح تخصه وحده بشكل فادح.

وكان أحمد طه، والذى تشبه ملامحه إلى حد ما ملامح الكاتب التشيكى فرانز كافكا، ولكنه كان يبدو لطفا، ويبدو أنه الأصغر سنا،ولكننى فوجئت بأنه الأكبر سنا ،وربما الأكثر بحثا عن “الكتاب”،فهو ينطوى على دأب يحسد عليه ،ولكنه لا يدخل فى جدل ومناقشة عامة إلا قليلا.

والأكثر إدهاشا أنه لم يكن يقرأ قصائده فى الندوات العامة، ولكنه كان يستعين بأحد أصدقائه المذكورين سلفا ،وهذا كان مثارا لاستغرابى بشكل شخصى ،وكنت أحاول أن أبحث عن مبرر له خارج دائرة الخجل العلنة ،وربما تكون حقيقية، فطه بالفعل لديه وجه خجول بشكل واضح ،وربما استطاع أن يكسر هذا الخجل فى الشعر والكتابة ،وفى الدور الذى لعبه فيما بعد ،عندما راح ليؤسس جيشا من المبدعين الشباب أسماه جماعة “الجراد”.

وكنت أتساءل دوما :هل كل هذا الخروج الذى أحدثه أحمد طه فى الشعر والحياة الثقافية عموما ،هو ردّ طبيعى وجدلى على هذا الخجل الذى كان يهاجمه عند قراءة الشعر ،وعند إبداء الرأى بشكل معلن فى قضية ما،ولم يكن مهتما بمن يهاجمه هنا وهناك ،بعد أن انتشرت جماعة الجراد فى ربوع الثقافة المصرية بشكل كبير ،وأنتجت مجموعة من المبدعين أصبحوا من أهم الشعراء والساردين فى الآونة الأخيرة ،وعلى رأسهم الشعراء أسامة الدناصورى وهدى حسين وأحمد يمانى وياسر عبد اللطيف وغيرهم.

وقبل جماعة الجراد التى تعدّ من أهم الجماعات التى تركت تأثيرا بالغا فى الإبداع والثقافة المصريين ،كان أحمد طه يقيم ندوة خميسية فى منزله فى منطقة تدعى “الوايلى”،وكان يجتمع في تلك الندوة أصدقاؤنا سالفو الذكر ،بالإضافة إلى الشاعر محمد سليمان ،والمثقف عزت عوّاد ، وهذا الأخير كانت جماعة الوايلى هذه ، تكنّ تقديرا خاصا لهذا الرجل ، وبعضهم كتبوا شعرا إيجابيا فيه ، ولكن هذا الرجل عندما تجاوزته كل الجماعة ، ذهب إلى طىّ النسيان تماما ،ربما لأنه لم يترك منتجا ثقافيا يذكر به وله.

وعدا عزت عوّاد فكان أحمد طه هو الأكثر إثارة للقضايا الفكرية والنظرية والفلسفية والسياسية ،وكان الأكثر طرحا لمناقشة الكتب التى تأتى لنا من بيروت ،كان عبد المنعم قارئا نهما للروايات ،وكان عبد المقصود عبد الكريم ومحمد عيد ابراهيم يبحثان دوما فى تفاصيل قصيدة النثر عند أنسى الحاج أو توفيق صايغ وغيرهما ،وكان محمد سليمان مغرما بمحمد عفيفى مطر ،وربما يكون ترك أثرا عميقا فى ديوانه الأول “أعلن الفرح مولده”،وكان كذلك مشغولا بحكايات أمل دنقل ومغامراته ،وكان محمد خلاف تائها فى حدائق أدونيس ،بعيدا عن حدائق القبة ،وكان يحاول إعادة إنتاج هذا التيه فى قصائد تتحدث عن العصافير الطليقة والحبيسة أيضا،أما أحمد طه فكان مشغولا بكل ذلك ،بالإضافة إلى محاولاته الدائمة للتنويه على الكتب الفكرية العميقة والعويصة ،قديما مثل الفتنة الكبرى لطه حسين ،وحديثا كتابات سمير أمين وليون تروتسكى،ولذلك جاء ديوانه الأول محمولا على دعامات ثقافية فنية صوفية شعرية فكرية عتيدة ،وكان الحسين ماثلا فى قصائد هذا الديوان الأول ،والذى أفصح عن مرحلة ما عند أحمد طه.

وجدير بالذكر أن هذه الندوة الخميسية هى التى انبثقت منها جماعة “أصوات”،والتى أصدر كل هؤلاء الشعراء تجاربهم الأولى اللافتة ،والتى أسّست تيارا فى الإبداع المصرى ،هذا التيار الذى استطاع أن يكسر بعضا من هيمنة الحسّ الستينى الرتيب فى القصيدة المصرية ،وكان أحمد طه فى قلب هذا التيار ،كمبدع ومثقف ومقلّب فى الأفكار بشكل واسع ،وباحث عن المساحات المقلقة والقلقة فى الثقافة العربية عموما ،وأظن أنه كان الأول الذى دلّ كثيرين على شعرية “النفرى” باعتباره المهتم الأوسع بالصوفية والمتصوفى فى الثقافة العربية والغربية عموما.

وظل أحمد طه على إخلاصه للثقافة والبحث الدائم ،لا يسعى إلى نجومية ما ،كما سعى آخرون ،وزلا يشغله من الشعر سوى كتابته وتجويده وإحداث فتوحات فنية فيه ،ولم ينحن أمام أى قامة ،بل كان يبحث عن قيمة ما مهملة فى أضابير الحياة الشعرية القديمة أو الجديدة ،أو المعاصرة ،وكان أنور كامل التروتسكى القديم ،وأحد محدثى التغيير فى الثقافة المصرية ،أحد الأيقونات التى احتفى بها أحمد طه شعرا وحضورا اجتماعيا مبهجا ،ولو حدث أن كتب أحمد طه سيرته الذاتية بذهن صاف ،سوف نعرف الكثير عن الجراد الجماعة ،والجراد المجلة ،وسنعرف الكثير عن رحلته إلى أمريكا التى لا يسرد وقائعها إلا فى سهرات النشوة ،ولا يدونها فى كتابة.

وإذا كان الشاعر حلمى سالم كان يطلق على نفسه بأنه “فتاح سكك”، فأحمد طه شيخ طريقة فى الشعر والفن والثقافة والحياة عموما.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم