من حكايات “مدينة الحوائط اللانهائية”

مدينة الحوائط اللانهائية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طارق إمام

الحكاية الحقيقية للقباطنة

غرف القباطنة لا ترى البحر. هى غرف واطئة تطل دوماً على يابسة ممتدة، فى مدينة داخلية مزدحمة أو على مشارف صحراء لا تنتظر إلا زحف غزاة بريين، حيث لا شمس تغرق في البحر ولا حبيبة يسحبها الموج.. لا نوافذ منداة تتحول عبرها الحياة لحلم يقظة.

أسِرَّة واطئة، تذكارات بامتداد الجدران، رسوم بالحبر لمراكب ورقية في هوامش الكتب، وفي صفحات الألبومات صور فوتوغرافية تخص دائماً أشخاصاً آخرين.

يعرف القباطنة جيداً لمعة الفلاش، يعرفون صدمة الضوء التى تنسحب بعدها الوجوه في مربعات الورق المقوَّى. يعرفون عمق النَفَس الأخير الذي يدخر كل هواء العالم قبل أن يستسلم للماء.

لا يملك القباطنة إلا حيوات قليلة عاشوها بالفعل، وحفنة حيوات محتملة هى أعمارهم الحقيقية. يتعرفون بالكاد على ذكرياتهم، ويعبرون جثث الشحاذين على أرصفة تؤمن أقدامهم من دوار البر.. لذا لا تزعجهم رائحة الموت إلا بقدر ما تذكرهم بأن ثمة روائح أخرى لا زالت الحياة تدخرها لهم.

القباطنة يكرهون العواصم، يتوهون فى المطارات.. تؤرقهم الشمس التي تعري البنايات وتحول الأشخاص لأشباح معلنة.

العدو الوحيد للقبطان ليس القراصنة. تلك هي خدعة التاريخ التي أكدَّتها أكاذيب جدات ملولات لإجبار أحفاد مشاكسين على نوم سريع. العدو الوحيد لأي قبطان هو قبطان مثله.. حيث يعرف كل قبطان أنه لا يقابل زميلاً إلا ليتوجهان إلى المقبرة ذاتها عبر طريقين مختلفين.

ليس للقبطان أبداً لحية لوَّنها دخان غليونه. القبطان رجل حليق لا يدخن، ولا يعنيه أن يدافع عن هذا أمام جدات مأفونات يخرفن لينام أطفال حرونون.. لكن للقباطنة حدقات زجاجية ترى نصف العالم وترجيْ النصف الآخر للموت. تعرف كل الألوان عدا الأزرق.

يدخلون الحانات كثيراً. يقرأون القصص المصورة ويتهامسون مع أول امرأة تبتسم لهم.. ولكنهم فى النهاية يتركون لغرفهم كل هذا، ويغادرون عراة لدى أول تلويحة وداع، شرط أن تتحقق ميتتهم بأي طريقة أخرى سوى الغرق.

 

حكاية قراصنة نهاية العالم

يستيقظون، بلا بحر، بلا أعداء يجردوهم من سفنهم. فيسألون: أي رعب أكثر قسوة من أن تكون عدواً للا أحد؟

 

الحكاية التي لم أكتبها بعد

تمنيتُ دائماً أن أكتب حكاية عن رجل عجوز بلا ذكريات. رجل تجاوز التسعين من عمره مثلاً ولكن حياته ما تزال مثل ورقة بيضاء: لم يعش قصة حب، لم يضاجع امرأة، لم يخض حرباً أو يُخدش في مشاجرة، لم يمش في شارع مظلم ولم يخنه صديق.

إنه حتى لم يدخن ذات يوم ولم يوقظه صراخ طفل. الرجل يفكر في حياته، ويحسد أقرانه العجائز أصحاب الذكريات المديدة، فيقرر أن يصاحب الأطفال لأنهم مثله، ولكنه يفاجأ بأنهم يطلبون منه حكايات من ماضيه مقابل أن يقبلوه صديقاً، فيضطر لتأليف حكايات لم يعشها. تنتشر حكاياته بعد فترة، تصير مقنعة أكثر من ذكريات الناس الواقعية وأشد إثارة، فلا شيء قابل للتصديق أكثر من كذبة جيدة الصنع. يتقدم في لعبته أكثر، يقترب منه العجائز أيضا لسماع ماضيه المزيف، والسيدات، والرجال الأقوياء. ويأتي رجل من خارج المدينة، مؤرخ شاب، ليكتب تاريخها فلا يجد خيراً من ذلك العجوز ليسطر التاريخ من فمه. يطبعه المؤرخ في كتاب، يصير هذا هو التاريخ الرسمي للمدينة، الذي هو جزء من التاريخ الرسمي للعالم، الذي حكاه أيضاً بالتأكيد أشخاص لا ذكريات لهم. يحاول الناس بعد فترة إقناع المؤرخين والسلطات بأن كل ما حدث كان كذبة، ولكنهم يديرون لهم ظهورهم، فقد كُتِب التاريخ وانتهى الأمر. تزيد الاعتراضات ويتعرض المشككون للإعدام ويزج بهم في المعتقلات.. يخاف الباقون فيُسلِّمون بأن هذا هو التاريخ.. هذه هي ذاكرة العالم وكل ما عداها هراء. ثم تأتي أجيال جديدة لا تعرف شيئاً مما حدث، يكون الرجل الذي بلا ذكريات قد مات وصار نبياً.. ولا يعرف أحد أنه لا يزال يحسد في ميتته أقرانه الذين ماتوا أيضاً، لأنهم كانوا يملكون ذكريات حقيقية في الوقت الذي صنع هو فيه بخياله تاريخاً مختَلَقاً.. ويتندر على الدنيا، الغرورة، التي منحته قداسة مزيفة، فقط لأنه أجاد الكذب على حفنة أطفال بعد أن أدار العالم ظهره له.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون