مكان وسط الزحام.. تجربة ثرية لشخص بسيط يصيد الحكايات

مكان وسط الزحام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. بيسان خالد علي مصطفى*

 يحوى كتاب ( مكان وسط الزحام ) سيرة ذاتية للروائي والمفكر المصري عمار علي حسن، تبدأ بلحظة التحاقه بالمدرسة في عام 1973 حتى صدور الكتاب عام  2018، غير مركزة على تفاصيل لا تخدم العنوان الفرعي له وهو “تجربة ذاتية في عبور الصعاب” حيث ركز الكاتب على المشكلات الكثيرة التي اعترضت طريقة كطفل فقير، اتخذ من التعليم وسيلة للترقى الاجتماعي، وسار خلف طموحه في صبر ودأب.

يمضي بنا الكتاب عبر تجربة غاية في الثراء لم يجد صاحبها أدنى حرج في ذكر بدايته البسيطة، التي يسردها بصدق متناه، وكأنه يحدث نفسه ، دون أي رتوش تجميل في أيام عاشها مع  الفقر  والجوع  والعمل والدراسة، ليقدم مثالا لشاب عصامي، ربما يريد من شباب أيامنا هذه أن يستفيدوا مما سار فيه، ولا يركنوا إلى رغبات جامحة كاذبة في تحقيق ثراء سريع، أو مكانة متقدمة، دون بذل جهد، وتربية إرادة. 

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء ، الأول بعنوان ( طفل كبير) عرض فيه  الجانب الأكثر تأثيراً في طفولته بقريته المنسية وكيف التحق بالمدرسة وهو حافي القدمين ، متعثر دراسيا ، شبه متوحد ، ما لبث بعد سنوات أن يصبح من المتفوقين ، مثابراً للوصول إلى الجامعة دون أن يترك خلال كل هذا العمل بالأرض ، ثم عامل تراحيل يسافر إلى المحافظات المصرية ليعمل في المعمار، حيث هدم البيوت القديمة، وبناء جديدة مكانها، وهنا ينام في العراء ، ويأكل ما يسد رمقه، وبرفقته كتاب يلتهم سطوره في أي وقت يفرغ فيه، حتى  شق طريقه بنجاح، فأكمل دراسته في  كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة .

وفي هذا الفصل يسرد، وفق حس روائي دون تخييل، مواقف خلافاته ومجاهداته في مواضع عدة، ويأتي على طرف من وقائع تأديته الخدمة العسكرية ضابطا احتياطيا، وكثلك مواجهته الموت أكثر من مرة . 

أما الجزء الثاني وعنوانه ( صيد الحكايات) ، يروي كيف بدأ لديه ميل حب الحكايات والقصص منذ الصغر كان يستمع لأبيه وهو يردد مقاطع من السيرة الهلالية والزيبق وادهم الشرقاوي ، وتجربته الأولى بنظم الشعر ثم كتابة أول مجموعة قصصية التي لم تر النور، بعدها يبدأ الكاتب بالحديث عن كل كتاب أصدره ، والتي تنوعت بين الروايات ، وكتب السياسة ، والاقتصاد ، والجماعات الإسلامية .. ومن أين يستمد أفكاره لها ، وطقوسه في الكتابة ، والجوائز المصرية والعربية التي حصل عليها . 

   ويخصص د. عمار الجزء الثالث، والمعنون بـ ( علم وعمل ) لتبيان أسرار علمه بقواعد البحث فى العلوم الإنسانية وعمله باحثا فيها  بمؤسسات عديدة، وكما بدأ بسرد مسيرته لتحقيق ذاته ، ختم الكتاب بانتصار من نوع خاص في الحياة بعبوره محنة مرض ابنه البكر وكيف وقف إلى جانبه حتى تغلب على ما هوفيه، وبلغ أشده.

ولا يمكن في هذا المقام أن أتجاهل احتواء الكتاب  على معلومات وأشياء ومواقف عن أدباء مصريين وعرب كانت للكاتب معهم مواقف،  وكذلك معلميه وأطباء عالجوه في صولات مع المرض، وكتب أثرت فيه، ودور نشر تجاهلته في البداية ثم فتحت له ذراعيها. ولا تخلو السيرة من توثيق بعض جوانب تاريخ مصر خاصة ثورة 25 يناير، لكن كل هذا يأتي في الخلفية كسياق يؤثر في صاحب هذه السيرة.

عرض عمار سيرته بأسلوب سهل ومباشر، وكثير من الشخصيات التي وردت في سطورها لم يدقق في تفاصيلها ، وهناك مواقف بها لم يفسرها، وهو بهذا قد ترك الخيال للقارئ كي يجتهد في إتمام المسكوت عنه أو إتمام الناقص، الذي لو قام به الكاتب بنفسه فكان هذا سيؤدي إلى إفراط قد يكون مملا، وابتعاد عن الهدف الذي حدده العنوان الفرعي، المشار إليه سلفا.

والمكان الأول في هذه السيرة هو الريف، ففي كل فصل نرى هيمنة القرية والنيل والأرض والفأس على حياته في الكبر، لكنها لم تشكل عُقدا نفسية أو أزمات بقدر ما كانت إضاءات وإعلان انتصار، لنفسه ولقريته، التي أعطته وأخذت منه . أما الزمن في السيرة فلم يأخذ الشكل الخطي ولا الدائري، بل كان يستعاد في كل فصل من نقطة معينة، حيث وظف الكاتب تقنية الاسترجاع في خدمة السرد، بما مكنه من التحرك أو التنقل بحرية في الزمان والمكان.

 وتأتي الشخصية في هذه السيرة متنامية إيجابية، يتم رسم ملامحها عبر الأحداث والوقائع المتدفقة، التي توالت دون أن يصف الكاتب نفسه وحاله بعبارات عاطفية مؤثرة ، تنطوي على نوع من المسكنة والذل، بل رأينا صبرا يفرض احترامه من خلال وصف الحدث والحوار، وكلاهما يمضيان في اتجاه البقعة التي حددها الكاتب لنفسه وسط الزحام الشديد.

يختتم الكاتب سيرته الممتعة  بعبارة دالة تقول “رغم كل ما جرى في نهر حياته من مياه غزيرة ، لا يزال يرى نفسه عامل التراحيل الذي عليه أن يكدح طويلاً حتى يحصل على القليل، ثم يحمد ربه عليه ، رافضًا كل ما يأتيه بلا عرق أو كد ، وزاهدًا في ما هو بيد غيره، وساعيًا قدر استطاعته إلى أن يمشي على الأرض هونًا ولخطواته علامة” وهي عبارة قد تحمل في باطنها الكثير عن شخصية صاحب السيرة، وربما تجمل الكثير من جوانبها، وتبين في الوقت ذاته أحد أسباب كتابتها.

……………………

* ناقدة وجامعية في كلية التربية للبنات ـ الجامعة العراقية

مقالات من نفس القسم