مكامن الدهشة في قصص عبد الله ناصر بأقل قدر ممكن

العالق في يوم أحد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد النبي

في أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرَ اتجاهٌ في الفنون البصرية والموسيقى يُسمَّى ب minimalism وهو ما يُترجَم أحيانًا بالتقليلية أو الحد الأدنى، شهدَ هذا الاتجاه أوج ذروته في الولايات المتحدة الأمريكية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. إنه مذهب الاستعانة بالحد الأدنى مِن العناصر والمكونات الفنية، مدرسة العِظام العارية مِن كل تهاويل وزخارف وزوائد قد يعتبرها الآخرون ضرورة لا غِناء عنها. ولعلَّ هذا الاتجاه الفني أوَّل ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة قصص الكاتب السعودي عبد الله ناصر، حيث الاستغناء هو الأساس أو كما يوحي عنوان كتابه القصصي الأوَّل، فن التخلّي (دار التنوير، 2016).

وفي مجموعته القصصية الثانية، العَالق في يوم أحد (دار التنوير، 2019)، يتابع مسيره على الدرب ذاته، درب الاقتصاد والتقشف وتقطير السرد إلى أقصى حد ممكن، حتى تتراوح قِطعه السردية بين سطرين اثنين أو صفحتين على الأكثر. تبدو كتابات عبد الله ناصر وكأنها تتمسك بموضعها في أبعد نقطة ممكنة مِن الحكي المسترسل المطمئن والبناء الأفقي الذي يراكم الحدث بعد الحدث ويشيّد طبقة بعد أخرى، بآلية تعتمد الكتابة في حريتها وانفتاحها وتجاوزها لأسوار النوع الأدبي المتعارف عليه، فهو يشد أوتار نصه النثري ليقف به حينًا لدى حدود النادرة بصورتها غير التقليدية أو قصيدة النثر كنوعٍ أدبي غير مستقر بطبيعته أو ربما الطُرفة الغريبة، التي لا يستأثر سطرها الأخير بالمفارقة بقدر ما تتوزَّع على متن النص كاملًا.

عالَم نصوص عبد الله ناصر تتحرك في فضاء حرٍ غير مقيد وغير مرتبط ببلد أو زمن أو ثقافة قومية واضحة المعالَم، جميع الإحالات فيها ذات صبغة عالمية وكونية، كأنها ابنة العالَم كله وليس سياق ضيق محدود، وكذلك شخصياته ذات الهوية العامة، التي من الممكن نقلها بين الأماكن والأزمنة دون أن تضطرب صورها المنعكسة على سطح ماء النص. التحرُّك العابر للأزمنة والأماكن هذا يؤكد مِن بعيد رغبة هذه الكتابة في الانعتاق والتحرر، حتَّى مِن أسر النوع الأدبي المحدد وتقاليده المتعارَف عليها.

لا شكَّ أنَّ شيئًا مِن هذا التحرر والانطلاق سوف يتسرَّب إلى قارئ كتاب العالق في يوم أحد، أو ربما ينتابه إحساس أقرب إلى التخفف مِن ثياب رسمية وحذاء ضيق بعد يوم عمل طويل شاق، والتسلل إلى مساحة للعب لا يرتادها إلَّا الأطفال وأحرار الروح من البالغين. أتخيَّلُ طفلًا، في سِنٍ ما بين السادسة أو الستين، يفترشُ الأرض ومن حوله قِطع لا نهاية لها في لُعبة ميكانو هائلة، تمتد لتسعَ العالَم كله، لا يملك هذا الطفل مخططًا أو تصميمًا مسبقا يسعى للوصول إليه بتجميع قطعه، بل يرتجل أشكاله متسلحًا بروحٍ عفوية طازجة لا تمل مِن سعيها وراء مكامن الدهشة والغرابة، دون إفراط في ذلك أو افتعال مبني على ابتذال الخيال أو لي عنق اللغة، بل هي غرابة هادئة أو عاقلة إن صحَّ التعبير، مِثل حلم يقظة هادئ حَسن الإضاءة وجيد التصميم.

كل شيء بالنسبة للقاص عبد الله ناصر هو قطعة ميكانو محتملة، إن كان شخصًا أو شيئًا، فكرة أو عملًا فنيًا، معنى مجردًا أو مدينة، وعند وصوله إلى ساحة اللعب يكون قد فرغ بالفعل مِن عملية تفكيك كل تلك الأشياء حتَّى صارت أشلاء ذهنية متفرقة، حطامًا وأطلالًا، وفي سطورٍ قليلة يعيد تركيب وتشكيل تلك المكونات والعناصر، كما شاء له الهوى والخيال وكما تقوده لذة اللعب بالأساس. صحيح أنَّ للعب هنا جانب ذهني واضح، وأنَّ له أسلاف لا لبس فيهم مثل الأرجنتيني بورخيس وبعض كتَّاب أمريكا اللاتينية، لكنّه يبقى لعبًا أصيلًا ونابعًا في صدق مِن ذات الكاتب الذي لا يستطيع مقاومة تكرار بعض التيمات والهواجس التي تجد سبيلها إلى نصوصه بطريقة أو بأخرى. لعلَّ الزمن إحدى تلك العناصر المهيمنة، وهو هنا ليس سؤالًا ضخمًا هائلًا يقف أمامه الإنسان ضيئلًا وعاجزًا وحائرًا، بل مجرَّد قطعة أخرى مِن قطع الميكانو التي يتلاعب بها الإنسان/الطفل/القاص، ربما قطعة مفضَّلة ومحبوبة ولها غوايتها، لكنها تظل عنصرًا في النص، عنصرًا محفزًا على الخلق واللعب والاستكشاف.

لا يتم استدعاء الزمن في صيغة تجريدية أو رياضية تنتمي لعالَم الأرقام والمعادلات الذهنية، بقدر ما يحضر عنصرًا فاعلًا في النفس الإنسانية، وهي هُنا – مِن جديد – نفس عامة ذات ملامح وأبعاد كونية نادرًا ما تتحدد في شخصية لها سياق زمني ومكاني. لا تنفصل لعبة الزمن عن تجربة الإنسان، وتتعدَّد احتمالات العلاقة الشائكة بينهما لما لا نهاية، وغالبًا ما تتخذ أبعادًا كارتونية أو على الأقل فانتازية رصينة مكبوحة قليلًا. ولعلَّ أقصى انعكاسات الزَمن في قصص هذا الكتاب هو التقدُّم في السِن وبالطبع المون، ففي قصة مثل ألبوم العائلة نرى الموت وهو يقلب صورًا عائلية، يرتبط أشخاصها بالقصتين السابقتين عليها مباشرةً، وهو يدير في عقل باله احتمالات أعمار وانتهاء حيوات أولئك الأشخاص، ماذا لو مات الأب قبل الابن؟ أو لو ماتت الأم ثم …؟ وهكذا، وبناء على كل احتمال تتبدَّل الصور في الألبوم، وتتخذ الحكاية أبعادًا جديدة. إذن ليس ثمَّة حكاية نهائية، أو ذات معنى تام، عند عبد الله ناصر، بقدر ما هي احتمالات حكايات، تكوينات ممكنة يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها لما لا نهاية، في أناقة وبأقل قدر ممكن من الضجيج والكلمات.

…………….

*عن المدن

مقالات من نفس القسم