مقطع من رواية في غرفة العنكبوت ..أحدث روايات الكاتب والمترجم محمد عبد النبي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لم ير كريم أباه، إلّا في صورةٍ قديمةٍ ظلّت أمه محتفظةً بها بين كنوزها الفقيرة والمدفونة في سحّارة الكنبة. لكنها كانت تحكي له عنه، بلا محبةٍ في صوتها، ولكن باندهاشٍ وإجلالٍ، كأنها تحكي عن وليٍّ صالحٍ، وليس مجرد مجرمٍ صغيرٍ.





لم أعرف إن كانت أمه هي مَن حشا رأس كريم بالخرافات، أم أنه وُلِدَ مستعدًّا لذلك بالفطرة. في طفولته حكت له عن أبيه في الهدنات السريعة التي كانت تلتقط فيها أنفاسها وتستريح فيها من الشقاء، ليلة عيدٍ بعد أن تحممه في الطشت الصغير، وتلبسه ثيابًا نظيفةً، وتأخذه في حضنها، في غرفتهما الصغيرة ببيت أهلها. فامتلأت رأسه بحكايات أقرب إلى الأساطير عن سعدون الحلبي، الفتوة وتاجر الحشيش، الذي يُقال إن أجداده قد وفدوا من الشام إلى مصر قديمًا، وتزوجوا منها، وأنجبوا البنين والبنات، وإن ظلّ لقب الحلبي أمارةً واضحةً على الجذور البعيدة لهم. لم أعد أذكر الكثير مما حكاه لي على مدى أسابيع وشهور الحبس. لكني أذكر مثلاً أن سعدون ذلك قد حصل على قوته الخارقة عندما شرب من مياه النهر وهو ثابت، أي بينما كان النيل ساكنًا تمامًا لا تهتز له موجةٌ واحدةٌ، وهو ما لا يحدث إلّا مرة كل ألف سنة، ومن يشرب من المياه الساكنة للنهر، يملك قوةً لا يستطيع مخلوق أن يتغلب عليها.

المؤكد أن أم كريم أنجبته وهي تشارف الأربعين تقريبًا، امرأة مهتزة العقل قليلاً بجمالٍ ريفيٍّ فاضحٍ. زوجها الأول لم ينجب منها، فطلقها، وسرحتْ هي لسنوات بالخضراوات، بصوتها الريّان تنادي في حواري خورست:

ورور ياجرجير، أحلى من الموز يافجل، بنزهير ياليمون، ياخس يامليجي يا أحلى من الشهد.

أو هكذا كان يحلو لكريم أن يهمس لنا في ركننا من العنبر، مُنغِّمًا صوته بالنداء. عاشت في كنف أشقائها الغلابة، مُطلَّقةً جميلةً تلعقها ألسنة السوء في الرواح والمجيء، إلى أن رآها المِعلِّم سعدون ذات مرّةِ وهو يفتتح يومه على المقهى، فبهر بياضُها عينيه وسط هلاهيلها السوداء، فنادى عليها:

معاكي لمونه ياحلوه؟

فابتسمتْ له ببلاهة:

ما حلو إلا لسانك يامعلِّم.

وكانت تخشاه كالجميع. أمسك ليمونةً، وقرقشها كاملة بقشرتها تحت أسنانه الكبيرة، وهو يثبِّتُ عينيه على البائعة الساذجة، وقد كزّت على أسنانها في مقاومةٍ بائسة للغثيانٍ، وإن نجحت في الاحتفاظ بابتسامتها الخائفة.

بعد ذلك اللقاء الأوّل، سأل الفتوة عن أصلها وفصلها، ولأنه كان يخاف الله وحساب الآخرة، فقد أرسل إلى أشقائها رسولاً في الليلة ذاتها، وفي بحر أسبوع انضمت الست شافية، والدة كريم، إلى طابور زوجات المِعلِّم سعدون السابقات، وأخذ لها غرفةً فوق سطوحٍ غير بعيدٍ عن بيت أهلها، الغرفة ذاتها التي سيولد فيها هذا الولد الجميل، وسيعيش بين جدرانها إلى أن يهج إلى العاصمة.

لم أستطع حتّى أن أتخيّل كيف يمكن لشابٍ أن يعيش مع أمه في غرفةٍ واحدةٍ، سقفها من الطين وعروق الخشب، وبحاجة لإصلاح دائمًا، حتى أن السماء عندما تمطر، يتسرب الماء في خيوطٍ عليهما، فترصّ أمه كل الأواني الخالية تحت المواضع التي يسقط فيها الماء. يحكي كريم بلا تباكٍ ولا شجنٍ، بل دائمًا بسخريةٍ وابتسامةٍ تظهر وتختفي، وأتخيّل أنا مشهد الأوعية التي تجمع ماء المطر قطرةً بعد أخرى، بينما تظهر أمي فجأةً في ذلك المشهد الفقير، على شاشة التليفزيون الأبيض في أسود في الغرفة ذاتها، وهي تهمس لعشقيها في التليفون بأن الجو خالٍ عندها في البيت، ولابُدّ أن يأتي إليها حالاً. وكريم يبتسم من تحت اللحاف، مراهقًا يتوحّد بالممثلة الجميلة، لا بالعشيق الوسيم. إلى أن تمتلئ الأوعية، فيقوم نافخًا من ضيقه لإفراغها في الحمّام الوحيد بالطابق الأرضي، منقلاً خطواته بحذرٍ؛ كي لا تنزلق قدمه في طين السطح والسلالم.

(خاص الكتابة)

*روائي وكاتب ومترجم مصري

في غرفة العنكبوت صدرت حديثا عن دار العين


مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون