مقاومة التراب والنمل بكراسات الحنين (تحية لأعمال حسين عبد العليم)

محمد عبد النبي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد النبي

حتَّى ولو كان قلبك حجرًا مِن المُستحيل ألَّا تقع في غرام شخصيات حسين عبد العليم، أو ألَّا تُحب غرابتهم وأفكارهم ومخاوفهم وانعزالهم، وتعبيرهم الصريح للغاية عن طبقاتهم وبيئاتهم وأزماتهم الخاصة غير المنفصلة عن هموم وإحباطات وطن بكامله. ربما يرجع ذلك إلى أنّ الكاتب الجميل، الذي رحلَ في فبراير 2019، قد رآهم وتأمَّلهم بعين المُحب، ثم كتبهم بقلم المحبة، ورسمهم في لوحات صغيرة أقرب إلى منمنمات فنّية شاحبة الألوان قليلة الكلمات، قصص وروايات مقتصدة متقشفة، لا تعيد ولا تزيد، تؤمي وتشير غالبًا، وأحيانًا تصرّح وتصرخ، عندما يفيض الكَيل بالفَن ويقف مكتوفًا مذهولًا أمام واقع يفترسه القبح والابتذال.

في روايته شديدة العذوبة والرقة (فصول من سيرة التراب والنمل)، نلاحظ أنَّ السيدة عايدة بسادة مهاود، حَرم الطبيب النابه عزيز بشري فانوس، تحتفظ بكرَّاسات تجمع فيها قصاصات من الصحف والمجلات، عن الملك فاروق وعن زيجته الأولى، ثم الثانية، عن شقيقاته الأميرات، وتصنع ألبومات أيضًا فيها صور فوتوغرافية وأشياء أخرى تعتبر تذكارات. سوف يرث عنها ابنها فاروق هذه العادة، وهو المهندس (نصير العُمَّال كما كان يسميه أخوه فؤاد مازحًا) خائب الرجاء في طموحات ثورة يوليو والمأزوم وجوديًا، وسوف يسجل من وقت لآخر ملاحظات حول ما يحيط به في العالَم، أو يسجّل على شرائط كاسيت بعض نشرات أخبار في لحظات حاسمة من تاريخ البلاد مثل هزيمة 1967 وغيرها. وبنص الرواية وتعبير فاروق نفسه: (أيامها كتبَ في أوراقه: تلك أشياء ثمينة … أخشى عليها أن تنفلت، وتضيع مني في حركة الزمن وأنساها).

تلك العادة في جمع الصور والقصاصات والأغراض القديمة مثل شرائط الكاسيت وخلافه حاضرة كذلك في أعمال أخرى عند حسين عبد العليم، مثلًا في روايته الروائح المراوغة نجد أن محمود يُسري أيضًا غارق في أشياءه القديمة وكراساته، كراسات الحنين إلى الماضي مبدئيًا، وصونه من الزوال والإشفاق عليه من مخاطر الطمس والتشويه ومِن جحافل المحو والنسيان التي لا تُبقي ولا تذر.

لم يسعدني الحَظ بلقاء الأستاذ حسين عبد العليم عن قرب، ولم ألتق به ولو مرة عابرة، ربما لأنه كان في حياته عازفًا تمامًا عن الظهور والأضواء، ولعلَّ هذا سبب في تجاهله نقديًا وجَهل عظم القراء به، ورغم ذلك أكاد أشعر أنني أعرفه مِن كتابته، وأكاد أجزم أنه يشبه شخصياته، وربما مثلهم كان هو أيضًا عنده كراساته القديمة وتذكاراته وصوره الفوتوغرافية وقصاصات الصحف والمجلات والأسطوانات وشرائط الكاسيت، يستعيد عبرها زمنًا آخَر أجمل وأرحب. لعلَّ روايات النحيفة (السفيّفة) الرقيقة هي أيضًا كراسات شخصية، كتب فيها عن شخصيات آتية من حياته أو مِن خياله أو بين بين، كراسات حنين تقيّد العابر بالكلمات وتحفظ المنسي في متحف الأدب الذي قد يدوم طويلًا، كراسات تتأسَّى على ما آل إليه الحال في هذا البلد، وترصد منحنى التدهور الهابط بلا نهاية.

تلك الرغبة في استعادة وتأبيد الماضي تصل إلى درجات من الهوس يدفع الراوي في بعض كتابات عبد العليم إلى انتهاز كل فرصة ممكنة لكي يكتب وفقط بعض الأسماء، أسماء فنانين وأعلام من اليهود المصريين في روايته الروائح المراوغة، أو أسماء أماكن للسهر والانبساط، أو حتَّى أسماء بعض الأشخاص لم يظهرن في السرد على الإطلاق، كما عندما تتذكر السيدة عايدة زميلاتها أيام مدرسة الراهبات، وكأن مجرد الإبقاء على الأسماء وترديدها وتدوينها تعويذة تحميها من الزوال والنسيان.

بعد موت السيدة عايدة، تاركة زوجها الطبيب وابنيها الشابين لمصيرهما، يبدأ زحف التراب والنمل على البيت، كأن الروح قد هجرته، كأنه يحزن لفقدان الست الجميلة، وتبدأ مسيرة الرجل وابنيه في محاربة ذلك الغزو اليومي الرهيب، بلا جدوى، رغم تجربة مئات الطرق والابتكارات. الست جازية التي أتت للتنظيف تدلي بدلوها في معضلة التراب والنمل، فتقول للطبيب الشاب فؤاد، الذي يراقبها بينما تعمل لكيلا تطول يدها على شيء ورغم ذلك سوتيانها مكتظ بالرفايع: (التراب يا دكتور زي أي حاجة وحشة … وعاوز حد يقف له باستمرار…) فيصرخ أخوه الباشمهندي فاروق من حجرته: (الله.. دي بتفهم في الفلسفة يا فؤاد … مقاومة التراب عندها بتعادل الحياة.)

لكن النمل يهزم دكتور عزيز في المشهد الأخير والجميل من الرواية، إذ يرقد ميتًا على جنبه في وضع جنيني وقد تضاءل حجمه بعد أن شارف التسعين، ورآه ابنه فؤاد والنمل يدخل من فتحتي أنفه وأذنيه. روايات وأعمال حسين عبد العليم عَمل مِن أعمال مقاومة التراب والنمل، ليس بالمعنى المباشر للتراب والنمل، بل لكل شرٍ لحوحٍ وفَج لا ينفك يهاجمنا من كل جانب.

ربما لا تكون لغة بعض رواياته وقصصه بالإحكام والدقة المنشودَين، وربما يتغاضى عن اعتبارات بناء وحِرفة كثيرة، وقد لا يستسيغ البعض خلطه الفصحى بالعامية بلا حساب وأخطاء النحو والكتابة المنتشرة في بعض أعماله والتي أتمنى أن تُستَدرك عندما تصدر له أعمال كاملة تليق بقيمته ومسيرته، سواء في دار نشر خاصة أو من جهة نشر حكومية، غير أنَّ ذلك كله لا ينتقص شيئًا من عذوبة سرده ورأفته بشخصياته ومِصْريته النقية الخضراء، في جميع كتبه الرقيقة التي لا تزال تنتظر المزيد من القراءة والإضاءة، وليست سطوري هذه إلَّا دعوة إلى ذلك وتحية لكراسات الحنين وصاحبها الحنون.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم