“مستر نون” لنجوى بركات.. رواية لعوب تضع العنف لعبة في يد المخلص

مستر نون
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

ينبغي القول بداية أن رواية “مستر نون” للكاتبة اللبنانية المبدعة نجوى بركات، الصادرة عن دار الآداب، واحدة من الروايات التي ليس من السهل الكتابة عنها. لماذا؟  لأنها موجعة إلى حد الألم، وتاليا لتقديري أن أية كتابة لا يمكن أن توفي نصّاً مكثفا وذكيّاً كهذا حقه. بالإضافة إلى أنني تأثرت به عاطفياً لدرجةٍ تحول بيني وبين تأمله بعين العقل المحايدة والباردة، ومع ذلك فلا بد مما لا بد منه.

 تستدعي الرواية قدراً كبيراً من آلام واحباطات ومخاوف وكوابيس المستر نون؛ الكاتب المتبطل الذي يعاني من متاعب نفسية شديدة، والذي يتجشم آلاماً يصفها بأنها لا تُقارن بأي أذى بدني أو ضرب مبرح أو عنف جسدي مما يمارسه البشر إزاء بعضهم بعضا، فالألم ليس في الخارج، كما يقول، بل عميقاً في الداخل.

عذابٌ نفسي تعاظم وتكدس لسنوات من جراء النبذ غير المبرر، من أمٍّ قاسية لا ترى في العالم إلا صورة ابنها الأول “سائد”، الوسيم الذكي الذي تليق به كل النعم، ولأجله يُبذل الحب والحنان. وبسبب ضعف الأب؛ طبيب الأطفال، الذي ينحاز لزوجته ثريا بميوعة عاطفية، ضد الصغير “نون”، وإن غلّف ذلك بالعطف والرقة أمام الصغير الذي لم يكن اسمه نون آنذاك.

 وجد نون الطفل في مربيته ماريّا، أو مريم العذراء كما يسميها، أمًّا بديلة، يستدفئ بحضنها ليلا حين تداهمه المخاوف وما أكثرها، ويجد في صوتها الرحمة والعزاء، وفي يدها الخشنة على ظهره بلسماً يعالج البقعة التي افتقدت التربيت الذي يتلقاه كل مولود على ظهره من يد أمه الحانية، لأن الأم أو ثريّا، كما يسميها، لم تهتم بأن تربت على ظهره أو أن تتلقاه أساسا، إذ أنه لم يولد فتاة كما أرادت، ولأنها لا تحتمل أن تكون أمّاً إلا لصبيّ واحد. وهكذا تعلقْ رائحة ماريا، المزيج من الأعشاب البرية وروائح أخرى، بذاكرته الشميّة للأبد، لأنها الأم التي تمنى أن تكون أما حقيقية له.

وبأثرٍ عميق من قسوة الحياة بين أفراد عائلةٍ كهذه، وبسبب الإحساس بأنّه نتوء زائد عن رغبة الأهل، قرر أن يقطع الحبل السري بينه وبين العائلة، لكن حتى الحياة في الخارج لم تمنحه تعويضاً عما افتقده، ولم توفر له يداً حانية مثل يد ماريا تزيل الحكّة عن تلك البقعة في ظهره، باستثناء بعض علاقات لم تصمد كثيرا أمام اختبار الزمن.

في الخارج سيواجه نون العنف وجهاً لوجه. وإذ يُباغَت به في البداية، فإنه لاحقاً سوف يتأمله منفعلا، بل سيجد فيه تطهراً وخلاصاً من ذنوب لم يقترفها. فاستحال يطلب هو العنف، يذهب لاستفزاز التافهين والغاضبين من أنفسهم ومن الحياة والعالم، بإصرار، بنظرة متعالية أو تعليق متكبر، كما لو أنه يدعو المجرمين والساقطين والداعرين وآكلي لحوم البشر، لكي يوجّهوا غضبهم، ركلاً وصفعاً ولطماً تجاه جسده المريض المتعب المنهك، فيتلقى بغضهم وكراهيتهم راضياً، رغم الدم والقيح والألم المبرح. لماذا؟ لأنه ارتضى لنفسه دور المخلّص، الذي يمنح جسده للمتعبين والغاضبين وضحايا القمع والقهر والحرب، ويصور لنفسه أن من يتعرض للصلب عانى مثل ما عاناه هو من ألم!

كأنه من فرط تلظيه بلهيب القسوة والإنكار أصبح يستعذب دور الضحية، وإن أبدى هنا أنه يذهب بنفسه إلى الجلاد، وسوف نرى في مشاهد عديدة من سيرته وحتى حين يبتسم له القدر ويجد يدا حانية، أنه يسلك سلوكا غامض الدوافع، يبدأ بالحوم حول الجلاد، كما لو أنه لم يعد قادرا إلا على أن يقدم لذاته مزيدا من أسباب التعاسة، أو ليبرر لنفسه ربما ما يتعرض له من أذى!

لكن على القارئ أن يدرك أن أي إشارة لتفاصيل أو لمضمون هذا العمل لا يمكن أن تقدم صورة وافية عنه، لأنه لا يقدم حكاية، بل موجزا فلسفيا لمعاناة البشر، عبر هلاوس المستر نون الذي كان كاتبا، لكنه توقف عن الكتابة، وفقد رغبته فيها، من أثر الإنهاك العصبي الذي تعرض له في طفولته، والذي تعاظم واستفحل مع تراكمات المصاعب والتعقيدات، وافتقاد الحب، حتى وجد نفسه، بعدما استفحل انهيار أعصابه، بين أيدي المعالجين النفسيين ووفقا لإرادة أخيه، وإلى حيث ينتقل أخيرا موهما نفسه أنه يعيش في فندق.

رواية لعوب ومخاتلة لأنها تمزج العنف البشري في أشرس صوره مع الإنسانية والرهافة التي يرى بها نون العالم. تتلاعب بالقارئ عبر نون وهلاوسه وخفة ظل تأملاته للعالم، كما تتلاعب بالنص نفسه، فيلتبس الأمر على القارئ بين آن وآخر: أهو تخييل أم واقع؟ أهذه هلاوس رجل مريض أم أحلامه وكوابيسه، أهي رواية تسبق الألم النفسي أم أنها النص الذي وجد فيه الراوي خلاصه والعلاج؟

ورشة كتابة متقنة، لا تترك مجالا إلا وتخوض فيه. الذاكرة وكيف تعمل وتستدعي التفاصيل، تداعي الذاكرة، رؤى الطفل لأحلامه والكيفية التي يستعيدها بها في عمر النضج. تأثير العناد على العقل المنهك بالمرض النفسي الذي ييسر له أن يرى الحياة، أو مواقف معينة فيها، بعيني طفل، فإذ يمتنع عن حضور عزاء أمه التي لا يعترف بأمومتها، فإنه يهرب إلى الحمام، موصدا الباب، متوترا، متأملا ذاته في المرآه راجيا إياها أن تطلب من أخيه الرحيل لأنه لا يريد أن يذهب. ثم هناك الحضور الدائم للطبيعة التي تتم أنسنتها في ذهن نون الذي كان يتمنى في طفولته أن يكون شجرة وأخفق لأن أحدا لم يجبه عن السؤال الصعب لماذا لا أكون شجرة؟

تأتي اللغة عنصراً رئيساً في نصّ يتمتع بطله بخيال خصب، ليس فقط بسبب الهلاوس النفسية، واختلاط الواقع بالوهم، بل لأنه كاتب، يرى أن الكتابة هي أن يضع الكاتب قدما في الواقع وأخرى في الخيال، وبالتالي نرى باللغة هبوطاً لنون من أعلى شجرة الكراهية، أو اندلاقاً لمياه السماء على البشر، وانسكابا للضوء من النافذة، أو صعوداً لصوتٍ عال إلى السقف. وأحياناً نسمع انفلات قطعان الزمامير التي تدوس بحوافرها على البشر، أو نشعر بالنعاس يدب في ساق تمشي، ونرى سماءً عابسة تنزل إلى اللاجئين مكفهرة لتُغرقهم من دون ذنبٍ ارتكبوه. أما البُرج الذي شُيّد عالياً أمام بناية أهل نون، وأغلق الأمل وأذهب السكينة عن المستر نون فهو لم يشيد بل نبت. حتى لون العيون يوصف أحياناً بملامح من الطبيعة مثل الأخضر كالزيتون المر والمالح، وغير ذلك من التصرفات اللغوية التي تجعل الطبيعة عنصراً مشتركاً في السرد بفضل اللغة الموظفة ببراعة لهذا الغرض.

لعل مرجع ذلك إلى تعلق مستر نون بالحروف وبالكتابة، وهي العلاقة التي أصابتها الهلاوس في مقتل، ففقد الرغبة في الكتابة وتوقف عن تدريس الكتابة الإبداعية، بعدما سقط في براثن الاكتئاب، والهيستريا والذهان، واستباحت العقاقير ذهنه وذاكرته فأثرت حتى على علاقة الحروف ببعضها، إذ كان يراها تفقد ترابطها وتفقد معناها بالتالي، فتسيل مثل شمع مصهور.

يبدو النص كما لو أنه توثيق سيكولوجي بارع للنفس البشرية، خصوصاً تلك التي تعاني من المتاعب النفسية، في تصورها عن العالم وفي علاقاتها بالمحيطين بها، وفي الصورة التي تتشكل في ذهنها عن العالم من حولها.

سنرى ذلك في مواضع عديدة في النص، وكذلك في التلصص الذي مارسه نون طفلا على ثريا وهي تتأنق للخروج، نهارا أو ليلا، كاشفاً عن ‏حبه المكبوت لها كأم أخفقت كل محاولاته في لفت انتباهها أو إسعادها أو تأكيد امتثاله وتفوقه، ويكشف أيضا عن آثار التلصص على رؤيته لكل شيء بالتعلق بالتفاصيل، الروائح، لون العيون، مزق صغير في جورب مس زهرة، يحيله إلى ‏جوارب مربيته ماريا، وغيرها.‏

يذهلنا الراوي ويباغتنا باستمرار بشطحات خياله، بأحلامه الغريبة، بالطريقة التي يرى بها عالما قاسياً عنيفاً وبائساً. بطرافة إجاباته على أسئلة يطرحها فيما يتذكر أو يستدعي أو يهلوس. يقرر أن ينزل إلى قاع المجتمع كما يسميه، ليتعرف على من يسميهم “مواشي الرب” الذين لفظتهم الحياة فباتوا يحيون على هامش الهامش؛ في فقر مدقع وقذارة تشبه النفايات. يطلقون العنان لأحقادهم فيغدون مجموعة من الجلادين الذين يجلدون بعضهم بعضا؛ بأسواط الغل والعنف والكراهية.

في الكارنتينا اجتمع البؤساء الذين لفظتهم مدن العالم. جاءوا إليها بالأمل فلم يجدوا إلا واقعاً فقيراً يعيش فيه أموات يمثلون أنهم أحياء، بينما لا يبعد صخب حيوية حياة أخرى سوى خطوات قليلة، أو ربما شارع أو جسر، تفصل بين عالمين؛ أحدهما يعلن عن نفسه بالنفاية والروائح المنفرة، والآخر عالم البرجوازية التي يمثل جانبها الأناني “سائد” الشقيق الأكبر لنون.

عالم بورجوازي يبدو كزنزانة خانقة مهما اتسع، لا ينسى ماضيه العنيف إلا من أجل أن يولد صورا أخرى، جديدة وبديلة، لكنها لا تستبدل موضوعها الرئيس: العنف الذي استفحل في مرحلة فتحول إلى غمامة من الكراهية المقيتة القاتلة عنوانها حرب طائفية، بحيث تحول العنف إلى لون من الحرب الضمنية لأسباب مختلفة.

“مستر نون” رواية سيكولوجية بلا شك، ولكنها رواية فلسفية أيضا، وهي تمتح من الواقعية القذرة، وتستعير الميتا فكشن في الأسلوب، لكنها تضاعف الفكرة بسؤال الهوية الذي يأخذ حده الأقصى مع آخر سطور الرواية.

هذه رواية ليست لكل أحد، بسبب العنف والقسوة التي تواجه بطلها، وبسبب خصوصية أسلوبها وبنائها، لكنها أيضا رواية للجميع لأنها تدور حول الإنسانية في براءتها وفي ذروة انحطاطها معا. تتناول ضحايا بؤس العالم وسخافات وعقد البشر، وغرورهم ونقائصهم، وبينهم آباء وأمهات يدمرون حيوات أبنائهم بوعي أو بلا وعي. وهي أيضا رواية المباغتات والمخاتلات والمفارقات التي تفاجئ القارئ بين صفحة وأخرى.

رواية عن العزلة. عزلة الكائن داخل نفسه المنهكة من فرط الألم والإحساس بالظلم من جراء التجاهل والنبذ، وعزلة الطبقات البورجوازية داخل طبقتها على حساب الطبقات الأخرى التي مرغ الفقر وجوه أبنائها في تراب الجهل ووحل الطائفية، وداس غياب القانون على رؤوسهم فلم يجدوا وسيلة لمواجهة العالم إلا بالعنف، والبقاء للأقوى، لكنه بقاء هش وكاذب لا يملك إلا إعادة إنتاج العنف والقسوة واليأس.

ولعل النص كما تدور أحداثه تجري في بيروت، لكنه أيضا يقدم في طبقاته مرايا لمدن كثيرة في عالمنا العربي، بل وربما في مدن عالمية أخرى كثيرة استهلكها رأس المال وتوحش فاستوحشت.

رواية عن الخوف، والأمل، والرعب، واليأس وعن الهشاشة البشرية التي تتقنع بالعنف لتستر ضعفاً يتحول معه العالم، يوما بعد آخر، إلى كابوسٍ لا يُحتمل ولا يُجدي معه إلا الهروب بأي وسيلة.

وأهم من هذا كله أنه نص استثنائي، في حب الكتابة والشغف بها، كاشف لقدر هائل من احترام فعل الكتابة، يمنح للكتابة السردية ألقا وبهاء، تستحق كاتبته المبدعة نجوى بركات لأجله الكثير من التقدير. ووثيقة أدبية مهمة على الوحل الذي جرت البشرية نفسها إليه من دون أن تتوقف يوما عن الكذب على ذاتها أو تأمل صورتها في مرايا الذات، وهي الصورة التي يكشفها مستر نون ببراعة.

 

مقالات من نفس القسم