مدينة الحوائط: استعارة العالم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد اللطيف

يحكي ريكاردو بيجليا، الكاتب الأرجنتيني الشهير، عن مصور عجوز يسكن سطح أحد بنايات مدينة بوينوس آيرس. المصور يمتلك ماكيتًا عن المدينة، لكنه لا يشبه المدينة الحالية. لقد عكف المصور على صنع الماكيت منذ سنوات لا ليحاكي صورة المدينة الحالية، إنما صورة المدينة القديمة، وحين فعل ذلك لم يكن المنتج النهائي حتى مدينة بوينوس آيرس القديمة، بل مدينة أخرى قديمة شوهتها الذاكرة وشوهها الخيال، لقد عمل كلاهما، الذاكرة والخيال، من أجل خلق صورة ربما أكثر حقيقية عن المدينة التي عاش فيها ملايين البشر. من أجل ذلك سكن المصور على سطح بناية عالية ليتيح للزائر التطلع إلى المدينة الحديثة عبر شرفة، ليعرف أن المدينة التي تحمل نفس الاسم ليست هي المدينة نفسها. لذلك، كان شرط المصور لمشاهدة مدينته أن يشاهدها كل شخص منفردًا، وكل شخص منفردًا سيخلق صورته الخاصة عن المدينة، وكل شخص منفردًا سيخلق مدينة مشوهة من المدينة المشوهة، وهكذا إلى ما لا نهاية. وعلى غرار مدينة المصور، يخلق طارق إمام في مجموعته "مدينة الحوائط اللا نهائية"، مدينة متخيلة أيضًا، تجمع بين جدرانها أناسًا متخيلين، وتجري فيها أحداث متخيلة، فإذا كان إطارها الحوائط، فقوامها امرأة ذات عين واحدة، وقرصانة، وساحرة معمرة وصانع فخار وفتاة لا تنظر لأعلى، وجارية وعصا ملعونة، وعاهرة باعت شعر رأسها ليلًا، وامرأة لا تغني، وطباخة السم، وزوجة صائغ تكره الذهب، وامرأة ديسمبر، غرابة نساء المدينة تضاهي غرابة رجالها، رجل لم يحلم أبدًا، وإسكافي مجنح وحذاء يتكلم وساعي بريد وخطابات خالية، ورجل يقرر ألا يصير وحيدًا، وعجوز يتذكر المستقبل، وبحار يخشى الغرق في البر وخادم يعيش في لونين وعجوز أغضب الموت ومصور عاش مستقبل جارته، وبائع الوجوه الذي بلا وجه وعجوز من الورق المقوى، كل هؤلاء وغيرهم أبطال، أو سكان مدينة تبدو متخيلة، إلا أنهم جميعًا، مثل مدينتهم يتقاطعون مع مدينة المصور في حكاية بيجليا. يمكن أن نتخيل راوي الحكايات وقد أطل على القاهرة، مثلًا، عبر سطح وصنع ماكيت، لكنه ليس ماكيتًا من الخشب، بل من الحكايات، ماكيتًا، مثل ماكيت المصور، يقوم على عنصري الذاكرة والخيال. لنسأل بعد ذلك أي المدينتان أكثر حقيقية، المدينة الواقعية التي نتجول فيها كل صباح، أم مدينة الحوائط؟ وإذا كان مصور بيجليا عمد لصنع ماكيت للحفاظ على ذاكرة المدينة، فـ إمام لم يصنع الماكيت لنفس السبب، بل لإعادة إنتاج المدينة، إعادة إنتاجها في شكل نموذج مصغر، بمصطلح كلود ليفي شتراوس، كاستعارة للعالم باتساعه.

مدينة الحوائط تتكامل مع الليالي       

     وعند إنتاج هذا النموذج، تتقاطع مدينة الحوائط مع ألف ليلة وليلة، كتاب التراث الإسلامي السردي الكبير والأول، لكن التقاطع في الغرابة يأتي من زاويتين مختلفتين. أبطال ألف ليلة، أو شخصياتها، أفراد عاديون يعيشون في مدن عادية، يتنقلون بين القاهرة والبصرة وبغداد وبلاد الشام، مدن محددة جغرافيًا، تحدث لهم أحداث غريبة. إنهم بشر عاديون يواجهون مصائر محتومة في مدينتهم، أو ينتقلون إلى أرض غير أرضهم ومدينة غير مدينتهم حتى يحدث لهم الأمر الغريب، فيما تغدو شخصيات مدينة الحوائط هي صانعة الغرابة في ذاتها، الحدث الغريب يتواشج مع الشخص الغريب في مدينة غريبة، لأن المدينة نفسها، على عكس مدينة ألف ليلة، نموذج مصغر، أو ماكيت. استعارة العالم في الليالي تأتي من الحدث، واستعارة العالم في مدينة الحوائط تأتي من الشخصيات. الحدث يرويه راوية معلنة هي شهرزاد، أما الشخصيات فيروي عنها راوية خفية هي شهرزاد أو من يستعير صوتها، من هنا ينطلق كتاب الحوائط من “بلغني”. الليالي، إذن، انشغلت بالحدث الغريب، فيما انشغلت مدينة الحوائط بالشخصية الغريبة، وهنا يأتي التكامل بينهما، كما تأتي المفارقة. إنهما وجهتا نظر من زاويتين مختلفتين للعالم: العالم كمنتج للغرابة ويتلقاها الإنسان، والإنسان، ذاته، هو المنتج للغرابات أو مصدرها فيما يتلقاها العالم. من هنا تأتي المواجهة بين الكلاسيكية والحداثة، بين حكايات كُتبت في العصور الوسطى وأخرى منتج لزمن حديث: القوى الخفية التي تدير شؤون العالم في تضاد مع كون الإنسان إلهًا يستطيع بنفسه أن يكون منتج الحدث، لكن مدينة الحوائط تروح أبعد من الحداثة، إنها تؤمن بالإنسان كفرد، في مقابل الخطاب الجمعي في الليالي، لكنها لا تراه الإنسان المنتصر في الحداثة الأوروبية، بل الإنسان المشوه، ربما كمنتج لنفس الحداثة، أو الإنسان “الناقص” لما بعد الحداثة، في مواجهة الإنسان “الكامل”. لذلك تخلق مدينة الحوائط فلسفتها من داخل فلسفة نقد الحداثة الأوروبية داخل حكاية تتناص مع التراث السردي العربي في مدينة حديثة، صورة مصغرة من مدينة حديثة، فتبدو كأنها، أو هي بالفعل، منتج فلسفي يطوّع تجريد الفلسفة لتجسيد الحكاية، لكنها أثناء مرحلة المرور للتجسيد تحتفظ لنفسها بالتجريد الكافي لجعلها لوحة سوريالية متعددة الدلالات، لوحة توازي مكتبة بورخس أو برج بابل أو تمثال بيجماليون أو جزيرة ابن طفيل، وفي نفس الوقت تتمتع بخصيصة الحكاية القديمة: الحدوتة المسرودة القريبة من الشفاهة، المطعمة بالمجاز، القادرة على القبض على المعنى، أي معنى يلتقطه أي مستمع، أي مستمع يبتسم في نهاية الحدوتة لأنه فهم مغزاها، لكنه لا يشترط أن يكون الفهم الوحيد. تقترب من الحكاية القديمة أيضًا في قدرتها على الخلود، في تحولها مع الوقت لجزء من الحكاية الشعبية، وهو أيضًا ما امتاز به كتاب الليالي، وهو، على عكس آراء أخرى، يبدو لي كتابًا منذ البداية، ثم سرى سحره في الثقافة الشعبية. بذلك، تتسق بنية الليالي مع فلسفتها، خطابها الجمعي بمواجهة البشرية للمخاطر مع تنقل المدن ومسرح الأحداث، وفي المقابل تتسق مدينة الحوائط في بنيتها مع فلسفتها، خطابها الفردي مع تحديد المدينة، حتى لو كانت مدينة متخيلة، لأنها في النهاية نموذج مصغر من العالم. والمدينة المتخيلة تطرح أيضًا سؤالًا آخر: ألم تكن مدن ألف ليلة مدنًا متخيلة؟ ألا تشبه الماكيت الذي صنعه المصور في حكاية بيجليا؟ متخيلة ليست فقط الأرض التي كان الأبطال يرتحلون إليها، بل كذلك المدن المعروفة مثل القاهرة والبصرة، لقد شيدتها شهرزاد من الذاكرة والخيال، كما شيد المصور الماكيت، وكما شيد طارق إمام مدينة الحوائط.

    غير أن مدينة الحوائط تلتقي مع ألف ليلة في نقطة أخرى جوهرية: أن كلًا منهما رواية تم تصنيفها على أنها قصص. هل أرادت مدينة الحوائط أن تضلل قارئها متبعةً تصنيف الليالي التي لم تفعل ذلك بمحض إرادتها؟ لقد ظهرت الليالي، على الأقل كنصوص متفرقة أو حكايات شعبية قبل العثور على مخطوطاتها، قبل ما اتفقوا على أنه الرواية الحديثة، ذات البنية المتماسكة والأبطال المحددين، فلم يكن ممكنًا حينها تصنيفها كرواية، ولعل السب في ذلك، كما أشار أحد المستعربين، إلى “حركة الأبطال”. غير أن المتأمل في بنيتها، من حكاية إطارية وعوالم سردية وحركة أبطال في سياق مسرحي مختلف عن الرواية الحديثة،، يلاحظ أنها رواية بذات المعايير، وهو ما يتفق معه المستعرب الإسباني سلبادور بينيا. ومدينة الحوائط أكثر روائية، إنها أحداث تدور في مدينة واحدة، يركز الراوي الضوء على فرد أو أكثر في كل حكاية، والشخصيات يمكن ان تظهر في اكثر من حكاية. لكن ليس في ذلك فقط تستحق روائيتها، إن البنية السردية وفلسفتها لا يمكن فهم كليتها ما لم تقرأ في سياقها الروائي، ومع أن اكتمال كل حكاية يتحقق بانتهائها، إلا أن الاكتمال الكلي للكتاب يتحقق بانتهاء الكتاب ذاته، وهو ما يختلف عن فلسفة المجموعة القصصية أو حتى الكتاب القصصي. ومدينة الحوائط طبقًا لهذا المنظور رواية ما بعد حداثية في بنيتها، كما هي ما بعد حداثية في فلسفتها، ومن هنا يأتي انسجامها، ولعل ميزتها هي هذه التوليفة ما بين التراثي والما بعد حداثي، ما يمنحها طابع “الرواية العربية”، أي الرواية ابنة الثقافة العربية والممثلة لمخيلتها. إنها إحدى الخطوات لتأسيس سردية عربية متحللة من الأثر الغربي، حتى لو استعارت فلسفته.

إن مدينة الحوائط، في تقاطعها مع كتاب الليالي، يمكن أن تكون كتابًا لا نهائيًا، انتهى فحسب لأن المؤلف قرر ذلك بأن أسكت الصوت الراوي بعد أن بدا له اكتمال الحكايات. مثله مثل مؤلف ألف ليلة الذي سلّم الصوت لشهرزاد ثم قرر أن ينهي الكتاب، بعد حوالي 270 حكاية، بالإنجاب والنجاة من الموت. ولعل ما ضمن لكليهما هذا السرد المفتوح هو تكنيك توالد الحكايات ذاته، وهو تكنيك يستعير الحياة نفسها في استمراريتها، فإذا كانت الدنيا لا نهائية (على الأقل حتى الآن) فالحكاية التي تقرأ الحياة قادرة على البقاء، مثلها. إنها إحدى صور الكتابة أيضًا، إذ كل كاتب مهما تعدد منتجه الكتابي يظل يكتب في كتاب واحد، يعيد فيه ويكرر ثلاثة أو أربعة هواجس، تشكّل في نهاية المطاف عالمه السردي، موجز العالم بالنسبة له. إنه تصور لكتاب واحد مفتوح، هو العالم ذاته، كل الكتب ليست إلا فصولًا فيه. والفصول ليست إلا البيوت المشيدة في مدينة نتطلع إليها من سطح بناية، وبداخل إحدى غرف البناية ماكيت للمدينة، أو للكتاب، ينبغي أن نبصره منفردين ليشيد كل منا مدينته الخاصة، المدينة المتخيلة والمشوهة، التي تمثل خيالنا كمشاهدين. هذا شرط المصور، هذا شرط المؤلف لقراءة مدينة الحوائط.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم