مجتزأ من رواية “سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 51
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد اللطيف

91

     يا لهول ما يحدث في المملكة.

      في القبو كانت المملكة بلا صوت، يتحرك فيها الحراس والجنود. في المملكة تحول الحراس والجنود جميعًا إلى تماثيل شمعية. تماثيل شمعية تتحرك، تسير وتجلس، تنظر وتشرئب بأعناقها، من دون أن تبصر شيئًا. أما أهل المملكة فلا يزالون مختفين عن الأنظار. لم يُدهَش أبو العلاء ولا دانتي ولا بورخس، لم يُدهشوا من تحول المملكة إلى تماثيل شمعية، ولا دُهِشوا من اختفاء أهل المملكة. لكن الشيخ دُهِش. دُهِش وصُعِق. لم يفهم كيف تحولوا إلى تماثيل شمعية، وبينما يراقبهم بورخس يقول: “طوبى للشجعان، يقبلون الهزيمة والنصر بالروح ذاتها”.

ثم سحب الشيخ أوراقًا من “كتاب الأحلام” وشرع في القراءة، فأصغوا له.

60-  أنهض من مكاني وأتجول بالبيت. أسير داخل جسدي ذاته، كمتسلل إلى أرض غريبة، وأرى بعينيّ شكل كبدي ومعدتي وكليتيّ، إنها تضاريس العالم، العالم كله غدا بداخلي، بسهوله وجباله، بوديانه وبحوره. أتلمّس بأصابعي طريقًا محاطة بجدران، جدران هي عظامي ذاتها، وفي جدار ما، أسمع نبضات وأرى نورًا، هو قلبي ذاته، ينبض ويقيس درجة حياتي، ويعيد، بقدرة سحرية، كل الذكريات بقدر ما يرى المستقبل. في هذا الجدار لا زمن، أنا نفسي سائل كزئبق، لا يمكن الإمساك بي، ولا به. أسير وأسير وأسير ثم أسقط، أسقط وأستريح قليلًا عند أمعائي، وهناك أمسح قدميّ الملوثتين بدماء المتظاهرين، بدون أن أعرف هل هي دماؤهم فعلًا أم دمائي. وبالقرب من رئتيّ وجدت صورًا مصغرة لأجدادي وأخوالي، وفي قلبي صورة كبيرة لماما الحقيقية وخالتي، بينما شغل بابا الصدر بأكمله كخلفية، صورة تشبه صورة تطلّع منها إلى المصور كمتطفل في صورة عائلية. عندما دخلت ناحية الطحال لأعد كوب شاي بينما أنظر إلى الطرق التي ترسمها أمعاء طويلة ومتعرجة، انتبهت إلى أني لا أزال في القبو، تحت الأرض. ومع أنه مسقوف إلا من فتحة كنت سقطت منها، فإن الداخل كان عبارة عن بيوت متجاورة متقاربة الشرفات، وكل من يتطلعون إلى الشارع كانوا عائلتي، أجداد وجدات وأخوال وماما وبابا. وليلى.

61- بين كل هذه البيوت كنت جالسًا بذراعين حول ركبتيّ، بينما أسمع هتافات احتجاجات تأتي من بعيد. وفي غمضة عين، أرى بابا يمر من أمامي ويعطيني عملة ورقية من دون أن ينظر إلى وجهي، ويواصل طريقه بكاميرا معلقة برقبته. حين نهضت بتثاقل، كمن يحمل حملًا ثقيلًا على كتفيه، ومشيت بخطى بطيئة، وجدتني في ميدان التحرير. حينها لاحظت أن الفيلم الأبيض وأسود تحول إلى ألوان، وسمعت شعارات الثورة التي أعرفها جيدًا. في الميدان رأيت أجدادي وجداتي وخالتي وأخوالي، ورأيت ماما تسير بجانبي بينما بابا يلتقط الصور كعادته، بدون أي رغبة في أن ينضم إلى أحد ليتصور بجانبه. كانت المجموعات كبيرة وحاشدة، وكانت تسير كمن تعرف قبلتها ومبتغاها. في لحظة ما أعطاني رجل سندوتشًا وقدمت إليّ امرأة زجاجة مياه. وبينما كنت أشرب بعينين مغمضتين، لاهثًا، ومستمتعًا بالماء البارد النازل على رئتيّ الملتهبتين رغم الشتاء، شعرت بأن الأصوات اختفت تمامًا كأنها لم تكن موجودة أبدًا. حين فتحت عينيّ، وجدتني محاصرًا بالدبابات والبنادق مصوبة نحوي. قلت لهم لم أفعل شيئًا، كنت مارًا من هنا مثل كل العابرين. ثم سددوا طلقة صوب عيني اليسرى، لا أعرف من أين أتت، ونزفت دمًا كثيرًا جدًا فوق ما أتخيل، لا بد أنه ليس دمي وحدي. كانت الكاميرا مسلطةً عليّ وفي لحظة فقدت الوعي، لكني لم أغِب عن العالم.

62-   كأني كنت في حلم، إذ رأيت نفسي أركض وأركض بدون توقف ولا التفات، كل الناس حولي كانوا مجرد تماثيل شمعية، وكانت الأرض رملية، كلما تقدمت في الخطى طُبِعت قدماي كرسم أبدي، وعلى يساري أمواج بحر متلاطمة، كنت قلقًا جدًا من البحر لأني مدرك أني في القاهرة وليس الإسكندرية، وظننت لوهلة أن البحر ليس بحرًا بل نهرًا، وكان هذا التفسير منطقيًا لأني وقعت بميدان التحرير، أي بالقرب من كورنيش النيل. وبينما أركض، ربما بعد ساعات من الركض، انتبهت إلى أن الأمواج المتلاطمة لم تكن أمواجًا، بل جنودًا مسلحين، ملايين الجنود يخرجون من النهر ويصنعون أمواجًا. ملايين الجنود يأتون صوبي ويسددون رصاصة صوب عيني اليسرى. ملايين الجنود يصوبون رصاصات نحو عينيّ ليلى فتصيب عينها المضيئة وتموت. ملايين الجنود يصوبون الرصاص نحو عين رامز وهند ويموتان. وحين أفيق، أجدني في حبس انفرادي، في غرفة مترين في مترين، على جسدي آثار تعذيب وحول عيني اليسرى ضمادة ولون أحمر ربما مركيروكروم. الغرفة لها باب بفتحة مثل كوة مستديرة، تطل منها ماما بعينين بيضاوين وتشير إليّ أن أشاهد الفيلم.

63-  سحبتُ كتابًا من رف المكتبة، وقرأت قصة “الموت والبوصلة” لـ بورخس وأنا متكئ على الأريكة أمام التلفزيون المطفأ الآن. شردتُ في جريمة القتل الغامضة، وفي المحقق الذي يحاول جمع كل المعلومات الممكنة بما فيها الكتب الخاصة بالتصوف اليهودي ويحاول فك شفرة اسم “الله” والتعرف على فرقة الحاسيديم ليفهم عقلية القاتل ومن ثم يتوصل إليه. لم تبدُ لي قصة بوليسية كما صنّفها المؤلف، إنما بدت لي قصة وجودية، قصة ميتافيزيقية تبحث عن الله بطرق أخرى، قصة بحث عن المجهول توسلت التشويق لتجر القارئ إلى النقطة التي يود تجاهلها. بتجريد القصة من أحداثها والعودة إلى مادتها الخام، ستكون “الموت والبوصلة” تقاطعًا مع “الخالد” و”الأطلال الدائرية”. أثناء ذلك، أثناء القراءة، كنت أسمع صوتًا نابعًا من التلفزيون رغم أني لم أفتحه، فأنظر إليه لأتأكد من أنه مغلق، فأجده مفتوحًا. في التلفزيون، كنت أجلس مسترخيًا على أريكة وأقرأ كتابًا لبورخس. ثم تحولت الشاشة في مشهد سريع، وعادت إلى الأبيض والأسود مجددًا، وأنا كنت في الستين من عمري على ما يبدو، والشيب غزا  رأسي حتى غدا ككتلة من القطن. لحيتي وشاربي أيضًا تحولا إلى الأبيض، لكن نظارتي السوداء بقيت على حالها، بدون أن يصيبها البياض. لم أدهش حين رأيت نفسي في التلفزيون وبيدي نفس الكتاب، وقد بلغت سنًّا لم يبلغها بابا. بمعنى آخر، صرت أنا أكبر من بابا الآن.

64-   بينما كنت جالسًا على الكنبة أشاهد الفيلم، أشاهد نفسي جالسًا على كنبة في الفيلم وبيدي كتاب، تطل ماما برأسها وبابتسامة نادرة وتقول لي “والله وكبرت يا ولد”، وتبعتها “بقيت أكبر مني يا بن الكلب”. ثم رأيت كل أجدادي وعائلتي، من أعرفه منهم ومن لا أعرفه، جالسين حولي، يمدون يدهم إلى طبق فاكهة ويأكلون. وحين نهضت لأغسل أسناني، شعرت بأني أسير مرة أخرى في جسدي، داخل جدراني، لكني فكرت أن أستريح قليلًا في مخي، ثم سريعًا ما انتبهت إلى تلافيفه وطرقه المعقدة، وظللت أراقبه لساعات لأعرف كيف تتشابك الطرق، بينما أسمعهم ينادوني ليعرفوا ماذا أفعل أنا وأتركهم بمفردهم وهم ضيوفي.

65- قرّبت الفرشاة من فمي وغسلت أسناني برفق وأنا أسمع صوتًا من الشقة المجاورة عبر شباك الحمّام، صعدت على قعدة التواليت لأطل على سبب الصخب، فسمعت جارتي تصرخ بصوت عالٍ جدًا: حرامي، حرامي. لم أفهم هل الحرامي في شقتها أم في شقتي. وبعد دقائق سمعت دقًا على الباب، دقًا مفزعًا. شعرت باستياء كبير لأنه لا يصح أن يطرق أحد الباب هكذا، مع ذلك فتحت الباب رغمًا عني وإن كانت نيتي ألا أفتحه عقابًا للطارق. رأيت أمة لا إله إلا الله في فسحة السلم أمام الشقة، وعلى السلالم المؤدية إلى أعلى وإلى أسفل. هاجموني جميعهم بسؤال واحد “إنت مين؟”. وأنا صمتُ من هول المفاجأة وهول السؤال. أدهشني أيضًا أن كل هذه الوجوه التي لا أعرفها وجوه جيراني، لكنهم ليسوا جيراني الذين كنت أعرفهم طوال حياتي. قلت لهم أنا في بيتي، قالوا لا، قالوا هذه الشقة خالية منذ سنوات وأصحابها سافروا. ثم طلبوا مني، بصيغة ما بين التهذيب والتهديد، أن يسلموني للشرطة، وأن أحضر معي ما يثبت ملكيتي للشقة. لم أحمل شيئًا معي ونزلت معهم باستياء.

66-   وأنا على الأريكة كنت أشاهد توتري في الشاشة، ولم أكن أعرف شكلي متوترًا من قبل. في الشارع لم أجد سمة من سمات الحياة. كانت الشوارع مزروعة بشواهد قبور، حتى البناية التي كنت أسكنها لم تكن بناية كما كنت أعرف، بل مقبرة متعددة الأدوار يسكن فيها، على ما يبدو، موتى. في الطريق إلى قسم الشرطة، اختفى كل الجيران الذين كانوا يرافقونني، ووجدتني وحيدًا تمامًا أتجه إلى الشرطة لأخبرهم بأن جيراني أخرجوني من بيتي.

67-   في قسم الشرطة وجدت تماثيل شمعية داخل فترينات زجاجية. كان الجو باردًا جدًا ولم  أحتمل، فنصحني أحد الحراس، لا بد أنه مجند (وكان تمثالًا شمعيًا أيضًا)، بأن أضع طبقة شمع على جسدي حتى أدفأ. حين فعلتُ ذلك أمرني بأن أدخل في فترينة، دخلتُ وجلست على كرسي وشعرت بسعادة كبيرة في البداية. بعد دقائق التفت إلى أن رؤيتي للعالم تغيرت تمامًا، حيث أتطلع إلى نفس العالم من خلف فترينة زجاجية، فترينة تجعلني أرى لكني معصوم من الأذى، ثم أنهم أصبحوا يعاملونني بتقدير لافت.

…………….

*تصدر قريباً عن دار “العين” بالقاهرة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون