«ليل أوزير» لسعد القرش: رواية التدوين الجاد للألم الإنساني

موقع الكتابة الثقافي writers 103
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود قرني

   على الرغم من المشهد الصاخب للرواية المصرية، وغزارة المعروض منها والأصداء الواسعة التي لاقتها روايات تنطوي على الكثير من المشكلات المزمنة، إلا أن المشهد ذاته سيظل يملك درجة من الوعي الذي يكفل له روائيون متمكنون قدرة دينامية تساعد على فرز غثه من ثمينه، حتى ولو ظلت أسماء هؤلاء قيد ظل بعيد، بشكل يبدو متعمدا أحيانا، بل ربما في أحيان كثيرة.

   فالمشكلات التي صاحبت هذا الصخب الروائي لا تزال كما هي متصلة ومستمرة، ولم تفلح إثارتها المرة تلو الأخرى في تنبيه الروائيين إلى المأزق الحقيقي الذي تواجهه كتاباتهم.

   فقد ظلت فكرة الكتابة الذاتية التي تنطلق من فهم محدود للسيرة الشخصية محورا أساسيا للمنتج الروائي الجديد، وهو الأمر الذي أدخل الروائيين في مأزق مبكر، سواء كان ذلك بإعادة انتاج روايتهم الأولى، أو بالابتعاد سنوات طويلة حتى يتمكن الكاتب من انجاز روايته الثانية.

   فالواقع اليومي بطبيعته متكرر وينطوي على الكثير من النمطية، لذلك فإن تخليص هذا الواقع من ثرثراته وتزايداته يحتاج إلى عين فاحصة، تستطيع التفرقة بين ما هو مألوف ونمطي وبين لحظة الخلق المضاف لهذا السلوك، وهي اللحظة التي يمكن التقاط الفن عبرها، وبكل اسف ظل هذا الوعي مستنداً الى مقولات عشوائية قاصرة حول مفهوم السرديات في التاريخ الإنساني، وهو مفهوم مطــــاطي لم يكن باستطـــاعة الكثرة الإلمام بعلاقته بافكار ما بعد الحداثة، فذهبت تلك الكثرة إلى أقــــرب النقاط غير المحصنة التي تقطع بأن التاريخ يبدأ من غرف النوم ومن لهونا مع زوجاتنا وأولادنا، وأحيانا من لحظات الغياب أو التغييب العمدي بالعقاقير وبغيرها.

   وأظن أن الروايات التي ستبقى قادرة على تجاوز هذا الوعي المحدود هي تلك الروايات التي يمكنها أن تتغلب على مفهوم التكيف والائتلاف مع اشيائنا العادية المكررة والنمطية التي لا تعيش معنا إلا لكونها أدوات وصول الى جوهر حياتنا.

   إن الفن ـ في كافة صوره ـ يعيش في الزمان طالما ظل قادرا على صياغة المخيلة وشحذ طاقاتها على الحضور والتجدد، وذلك عبر تجاوز مفهوم الواقع المعاش بكل تفاصيله، حتى لو اضطر لاستخدام هذه التفاصيل كمادة أولية لقيام عظامه ومبناه.

   لذلك سنجد الروايات التي تجاوزت مفهوم السيرة الشخصية الى عوالم اكثر اتساعا، قادرة دائما على التماهي مع معطيات مضافة تثري العالم الروائي وتعيد صياغة مفرداته على أسس أكثر شمولا مثل القدرة على استخدام التاريخ، والأساطير، والفلسفة، واستخدام المرجعيات الشعبية القريب منها والبعيد، اقول ذلك بمناسبة صدور تلك الرواية الفريدة «ليل أوزير» للقاص والروائي «سعد القرش»، التي تكتنز بخبرات تتجاوز خطوط البدء بمسافات طويلة، إنها ـ كما تطرح نفسها ـ رواية فريدة، فرادة موضوعها، وفرادة لغتها، ودقتها وحسمها، وقدرتها على التحلل من مأزق السرد الشخصي.

   من يقرأ «ليل أوزير» بعد أن يطالع المشهد الروائي المصري، ستأخذه ـ قطعا ـ تلك السردية التاريخية التي تكشف عن قيمة المكان التاريخي وقيمة العنصر الزمني.

   فالروائي يستكمل في «ليل أوزير» عالما فريدا بناه في روايته السابقة «أول النار»، حيث يؤسس «الحاج عمران» القرية التي تحمل اسم الرواية، بعد أن جرفها الفيضان وفقد فيها الرجل والقرية معا أعز ما يملكان.

   يترك الحاج عمران ابنه عامر سيدا على القرية الهانئة التي تعيش في حالة فريدة من الحب والتسامح فيما قبل حوالي قرنين من الزمان حيث تقع أحداث الرواية في فترة الاحتلال الفرنسي لمصر الذي حل بها عام 1798م.

   غير أن حياة القرية لا تستمر في الهدوء والتسامح اللذين تركهما الحاج عمران، إذ سرعان ما تتبدى التحولات الاجتماعية، في صورة السلطة الغاشمة التي يمارسها منصور رجل عامر الأول وابن قهوجي القرية الذي خدم الحاج عمران الأب، حيث تنطلق فكرة تشكل السلطة القامعة والمستغلة من لحظة ينجح فيها منصور في انقاذ عامر «كبير القرية» من اغتيال محقق على يد أغراب لم يفصح الروائي عن هويتهم، في هذه اللحظة تولدت لدى منصور فكرة التشكيل السلطوي لإدارة القرية، وبصمت وتواطؤ وهروب دائم الى الملذات لدى عامر يقوم منصور بإقامة نظام قاس للقرية يخدم بالطبع مصالحه، ومصالح ابنه من بعده، فيبدأ استكمال سور واطئ حول القرية ويضع عليه نقاطا للمراقبة، ثم يبدأ في فرض إتاوات على أبناء القرية بهدف تشكيل مقاتلين وشراء سلاح لقتال «الفرنسيس» الذين لم يكن لهم وجود حقيقي لا في القرية ولا خارجها.

   ويبدأ بالفعل في تشكيل عصابات تعمل في جمع الإتاوات بالقوة، واستخدم في ذلك مسجد القرية، وأصبح يمثل بالنسبة له وزارة الإعلام التي يبث عبرها قراراته مستخدما مؤذن المسجد في اعلانها وخطيب المسجد في تعميم الفتاوى التي يريدها، فقد فرض على الأهالي التبرع بخمس محاصيلهم كإتاوات للدفاع عن مصالحهم، وكان من يتجرأ على التحدث ضد منصور أو رجاله يختفي دون رجعة، وأصبحت حوادث الاختفاء احدى الظواهر المتكررة كإعلان خفي عن مصير من يتجرأ على شق عصا الطاعة، وبهذه الطريقة اختفت أسر بكاملها ومات بعض الرجال كمدا كردة فعل على القهر الذي كان يمارسه عليهم منصور ورجاله.

   فوق هذا ابتكر الرجل أساليب شديدة الوضاعة لتعذيب الخارجين عليه، وبأشكال لا يمكنها أن تتوفر إلا لشياطين، مثل حفر خنادق مليئة بالجثث والقاذورات البشرية وإجبار الخارجين عليه على الركود داخلها فتأكل الديدان أجسادهم ثم يقتلون في معظم الأحوال.

   إن مفردات تشكل السلطة وجبروتها في رواية سعد القرش «ليل أوزير» تعيدنا إلى واقع إنساني مرير ما زال يقاسيه المواطن العالم ثالثي، ومصر تعد على رأس هذه النماذج، ولا اريد أن أقوم بالربط المباشر الذي قد يبدو فجا بين واقع الحال السياسي والاجتماعي في مصر وواقعها قبل أكثر من قرنين من الزمان، فمثل هذا الربط ربما أوحى بأن الرواية تأتي من وإلى الشعار السياسي، وهذا فهم ـ إذا حدث ـ سيكون بعيدا عن الدقة، فالرواية تعتد اشد الاعتداد بإنتاج جمالياتها الفنية، وتسير مخلصة لها، بل يبدو الروائي واحدا من هؤلاء الكتاب الذين يشقون، بنظر رأسي، النوع الإبداعي بهدف الاضافة إليه ورفده، وليس الانتقاص منه. من هنا تبدو سخرية الرواية ودقة رصدها لعوالم القرية الصغيرة النائية في دلتا مصر قبل أكثر من مئتي سنة، انها بالفعل تقدم عالما مدهشا وفذا، رغم الفزع الذي ينتاب قارئها من جرعات العنف والقهر المكثفتين، على مدار أحداث الرواية.

   وربما تكون الثقة في انتماء الرواية للإبداع الخالص هو ما يدفعنا للمجازفة بالربط بين واقعها وواقع الحال، لأن هذا الربط لا يعدو كونه كشفا فنيا عن آليات انتاج التسلط والقمع على مدار التاريخ.

   فالملامح القاسية للسلطة لا تتغير عبر العصور وإن تعددت وسائلها، فإنتاج السلطة في «ليل أوزير» يعتمد على الآليات ذاتها القادمة لنا عبر التاريخ ـ الإسلامي خاصة ـ وفي كافة نماذجه البشرية على وجه العموم، حيث تعتمد السلطة، أول ما تعتمد، على نوع من السيطرة التي تحتمي بالدين تارة، وبالتخويف من عدو خارجي تارة أخرى، بالإضافة إلى إثارة الفتن والنعرات مثلما حدث من عسف في حق المسيحيين والأجانب وفرض نوع من العزلة على المجموعة البشرية المستهدفة حتى لا تصلها أية خطابات تنويرية بعيدة عن خطاب السلطة الحاكمة.

   وسنجد منصور في الرواية يبدأ بفرض هذه العزلة عبر إحكام قبضته على المكان بإقامة سور ونقاط مراقبة حول القرية، ثم ايهام الناس بحتمية حمايتهم من عدو خارجي هو الفرنسيس الذين لم يكن لهم وجود، ثم فرض رقابة لصيقة عبر العسس والمخبرين واستخدم أعلى أنواع البطش، وتكديس السلاح لمقاومة العدو وهو لا يستخدم غالبا إلا ضد من دفعوا ثمنه. كذلك تعمد السلطة الى تبرير عنفها وعزلتها بخطاب سياسي أو ديني أو كلا الخطابين معا، وهو في الرواية يتجسد في المؤذن الذي يمثل إذاعة خاصة للقرية وللشيخ الذي يخطب في الناس مبررا لهم في كل مرة أن ما يتخذه منصور هو لخدمة القرية والناس والدين.

   وسوف يبالغ منصور في ضرب العزلة على القرية حتى لا يصل خبر وجودها الى رجال الباشا «الذي لم يفصح الروائي عنه» هو بالطبع محمد علي الذي تولى الحكم عام 1805م، حتى لا تصل يده إلى القرية فيطيح برؤوس السلطة فيها.

   ويصطدم إدريس ابن عامر بهذا الواقع المؤلم عند عودته من رحلة تعليمية طويلة الى اسطنبول يعود منها دارسا للفلسفة، وداعيا للاستنارة ومهددا بالتالي حصون القمع والجهل والخوف الذي عشش داخل النفوس، ويبدأ الصراع الخفي بينه وبين خليفة الذي ورث السلطة عن أبيه منصور، ويبدأ إدريس في التفكير بالتخلص من خليفة لكن عامر الاب يحذره من النتائج الوخيمة لفعل غير مدروس من هذا النوع، ونراه يقول له «الأولى أن يعلم الناس ألا يخافوا الخوف، وألا ينتصروا على جلادهم بالدم، وألا ينتظروا معجزة من السماء».

   ويؤكد أن خليفة أكثر شراسة من منصور، فالأخير قاسم الناس مر الحياة وحلوها، أعد لهم القهوة، وبينه وبينهم عيش وملح يضمن بعض الحياء، أما خليفة فتربى في قلعة أبيه، ولا يعرف الناس، و«لا يطيق أن يشاركه أحد في شيء، ولو ركوب فرس» ص 288.

   هكذا تناسلت السلطة، وورث الابن الثروة والسلطة، وباتت الأسلحة الناعمة التي يملكها إدريس المتعلم المستنير لا تعني أكثر من مغامرة ستؤدي حتما إلى قتله مثل عشرات بل مثل مئات من أبناء القرية، ويلخص الروائي معنى تناسل السلطة في حديث عامر إلى ابنه إدريس قائلا: «لن يتخلى نحو أربعين رجلا هم أتباع خليفة عن مزايا تأتيهم بحكم العادة، ولا يبذلون الآن جهدا في تحصيلها، لكنهم يموتون دون المحافظة على تدفقها، إذ ضمنوا دوران الألوف، مثل ثيران مغماة، في ساقية الحياة، اعتادوا السير في مدارات محدودة، فلا يرون شيئا، ولا ينتظرون بلوغ غاية. يدورون بلا شكوى، متوقعين هبوط «فرقلة» تكوي جلودهم. إلى جوار السياط يهون شقاء يومي لا تمحوه إلا ساعات النوم، في ليال تثمر أولادا منذورين لمدارات جديدة للسواقي التي لا تروي نهم أربعين رجلا إلى عرق الفلاحين وأعمارهم» ص 225.

   وتتصاعد فكرة الخلاص والمواجهة بين عامر وابنه فيدبران مؤامرة أشبه بمذبحة القلعة التي أوقع فيها محمد علي أمراء المماليك الفاسدين غير أنها لا تكتمل وتكون النتيجة قيام رجال خليفة بإحراق القرية كلها، ونرى إدريس وهو يهرب بينما عامر يقف مع زوجته زهرة أمام منزلهما وهو يحترق، بينما يردد آخر عباراته:

   «أكان لا بد أن تتطهر أوزير بحريق يأتي على الناس والديار؟».

   إن أسطورة «أوزير» التي تعيد إنتاج لحظة ممتدة في التاريخ، ينجح في الربط الذكي بين لحظات تبدو متباعدة في عمر الظلم الإنساني، وفي عمر البغي ونشر الظلام على أسنة الرماح.

   إنها قولة الفن الذي يعني دوره الجمالي والاجتماعي في الوقت نفسه.

   بقي القول إن الرواية صادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية وتقع في 252 صفحة من القطع المتوسط.

…………….

(من ملف بمجلة “أدب ونقد”)

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم