ليلة سفر .. رصد تغيرات الواقع بشاعرية  

ليلة سفر .. رصد تغيرات الواقع بشاعرية  
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

على الرغم من قصر هذه الرواية نسبيًا (130 صفحة) إلا أن "محمد ناجي" قد تمكَّن أن يرصد من خلالها ببراعة عددًا من التغيرات المجتمعية التي حدثت في "مصر" لا في جيل واحد بل في ثلاثة أجيال متعاقبة، وذلك من خلال الوقوف عند اللحظة الفارقة التي تمثل بداية الانفصال أو "القطيعة" بين الماضي متمثلاً في الجد "عبد القوي" والحاضر والمستقبل متمثلاً في الحفيد "نصر" الذي يقرر أن يسافر تاركًا لجده بيتًا مليئًا بالشروخ والذكريات!

 

 شخصيات محمَّلة بالدلالة والتاريخ

تتوزع على الرواية ثلاث شخصيات رئيسية هي الجد “عبد القوي” وحفيده “نصر” وجارتهم “كوكب”، ثم عدد من الشخصيات الثانوية التي تحمل كلاً منها دلالتها وأهميتها مهما بدا أنها هامشية، ذلك أن “محمد ناجي” يرسم لوحة متكاملة المعالم ويضعنا عبر تصويره الدقيق في قلب ذلك العالم النابض متفاعلين مع شخوصه وما مروا به من أحداث، إذ تبدو الرواية حريصة على رصد عالمٍ مضى وتوديعه بشيءٍ غير قليل من الشجن والحنين، يتبين ذلك من خلال استعادة البطلين الرئيسيين للرواية “عبد القوي” و”كوكب” لأحداث حياتهم الماضية، وكيف تفلتت منهم رويدًا رويدًا، كل ذلك بمشاهد حيَّة مفعمة بالشاعرية، مثل ذلك المشهد الذي يرصد حالة الجد “عبد القوي”:

( صلَّى الجد “عبد القوي” العشاء جالسًا وسط الجماعة، صلّى ونسي نفسه، أيقظه خادم المسجد بعد أن أطفأ الأنوار وتأهَّب لإغلاق الباب.

كان مصباح الشارع يعبر من الرصيف المقابل إلى داخل المسجد راسمًا طريقًا مضيئًا بين الباب والمنبر، و”عبد القوي” في آخر ذلك الأنبوب المضيء، جالسًا جلسة التسليم قرب المنبر الخالي وقد مال رأسه على كتفه، ركبه ظل الخادم خطوة خطوة، وهزته يده:

 ـ وحدوه

انتبه “عبد القوي” للصيحة، فهبَّ من عتمته، وختم صلاته:

ـ السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ورحمة الله.

ثم تساند على خشب المنبر وجاوب الصيحة وهو ينهض:

ـ أنا عبد القوي، الله ربي، الإسلام ديني، والقرآن دليلي، ومحمد شفيعي.

ضربته لفحة باردة فانتبه إلى أنه لايزال في الدنيا، ورأى الخادم يستدير فجأة .. فتبعه خارجًا وأكمل تسبيحه همسًا ..

سانده الخادم على العتبة وهو ينحني ليلبس حذاءه، وثبَّت قدميه على أرض الشارع، تحسس بلل الأرض بعصاه، وواصل زحفه البطيء إلى “صنارة” تحت رذاذ المطر)

“عبد القوي” الموظف الملتزم بوزارة الصحة الذي ابتعد منذ شبابه عن السياسة ودهاليزها عملاً بنصيحة صهره الوفدي “نعيم أفندي” وسار ـ بما يرضي الله ـ لا يمينًا ولا يسارًا، يمشي مع اللوائح والتعليمات لا يحيد عنها ولا يفكر في مخالفتها، تزوَّج مبكرًا من (الغالية) التي أنجبت له ابنه الوحيد “مصطفى” ثم ماتت فبقي على حالة الوفاء لها وتذكر أيامها بالخير، لكنه لم يتمكن من كبح جماح “مصطفى” الذي سافر لعائلة زوجته في “السويس” وخرج عن طوع والده الذي لم يمانع لسفره، وتأتِ الرياح لما لا يشتهي، إذ يموت مصطفى وزوجته في إحدى غارات الحرب في “السويس” تاركين للجد ابنهم “نصر” يربيه ويتعهده حتى يكبر ويشب عن الطوق!

وفي الجانب الآخر “كوكب” وعالمها الذي يتقاطع تارة مع “عبد القوي” ويختلف عنه تارة أخرى، فهي “الناظرة” التي تربت في بيت “بابا عدلي” ـ كما تحكي عنه ـ ولم تتزوج وتركها أخوها (وليم) وتزوج وابتعد عنها وأصبح كل ما يشغله هو تلك “الشقة” المتبقية من إرث والده! “كوكب” التي حلمت بالحب والارتباط بالمدرس الفنان “يوسف” الذي أخذته أحلامه عنها بعيدًا وفوجئت به يودعها يوم سفره، تعيش الآن على التقليب في دفاتر طلابها القديمة الذين توقعت أن يصبحوا عباقرة ومشاهير وتبحث عن أسمائهم في الجرائد لتراقب ماذا فعل الزمان بهم، ولم يبق لها في نهاية المطاف شقوق الجدران التي تراقب منها شقة “عبد القوي و “إبر التريكو” وشال الصوف الذي أتمته ليلة سفر حفيده:

(عندي كوفية قديمة، لا ليست قديمة، وإن كنت اشتريت خيوطها منذ زمن بعيد، صوف خالص، لا أعرف لن كنت أنسجها، الليلة أتممتها، هي لك، كنت جنبي طوال الوقت فلماذا لم أفكر فيك؟ سأحضرها وبعدها يمكننا أن نفكِّر فيما يمكن أن نفعل مع “ابن الصاوي”

كانت الشروخ تضيق وتتسع في وجه العجوزين وهما يحاولان الابتسام!)

 “نصر” ذلك الشاب الذي فتح عينيه على صوت دوي الانفجار ـ كما يحكيه له جده ـ ذلك الانفجار الذي أودى بحياة والديه ورماه بين يدي جده، وبقي أسيرًا لأفكار ذلك الجد وتصرفاته، كان يحلم بالهندسة ولكن مجموعه ذهب به إلى كلية العلوم ليلحقه جده بوظيفة حكومية أخرى في إحدى المستشفيات، وهناك يتعثر ب”سهام” ويحاول أن يربط حياته بها، ولكن أحلام الانعتاق من جده ومن البلد كلها تخايله حتى يجد أخيرًا فرصة السفر تلك.وبدت شخصية “نصر” على طول الرواية غائمة غير واضحة الملامح، وربما يكون ذلك مقصودًا للتعبير عن هذا الجيل الذي يحب فجأة ويهجر فجأة ويتخذ قراراته المصيرية فجأة بدون دراسة أو تروٍ ..  

الرواية والواقع

لا يمكن لقارئ “ليلة سفر” أن يخرج منها دون أن يتصوَّر عالمها وشخوصها وكل ما فيها يرمزون لحالاتٍ واقعية نعرفها ونعيشها جميعًا، فشخصية مثل “عبد القوي” بكل ما تحمله من ثراء تعكس ذلك الماضي الذي كان جميلاً وهاهو يرحل في هدوء وتنفلت الأشياء من حوله، ذلك الزمن الذي كان جميلاً بكل تفاصيله، يموت حاضره (المتمثل في الابن الذي مات في الحرب) ويغادره المستقبل (ذلك الحفيد الذي يسافر) ويبقى هو محاطًا بذكرياته وبأحلامه التي لم يكن لها أن تتحقق ..

بل وحتى الشخصيات الثانوية التي لم تأخذ مساحة كبيرة في السرد، مثل “الصاوي” ذلك التاجر المتجول الذي يتمكن من توسيع دائرة تجارته ويشاركه فيها أبناؤه الذين يمثلون ذلك الجيل الجديد من الملاك الجدد الذين يريدون أن يشتروا بأموالهم كل شيء ويستطيعون أن يفعلوا ذلك بمهارة، إنهم طبقة المستهلكين الذين بدءوا في التحكم في كل شيء واستطاعوا من خلال أموالهم ونفوذهم أن يسيطروا على الواقع الجديد ويفرضوا شروطهم عليه.

 و “صنارة” ذلك “اللقيط” الذي لا يزال يبحث له عن اسمٍ وعن هوية، وعن مكانٍ له بين أهل المنطقة، ويحاول التاجر “الصاوي” أن يتبناه، ولكن أبناؤه يعارضون ذلك التبني المفاجئ ويسخرون منه، لتتحول تلك الشخصية إلى معادل موضوعي لروح المنطقة التي تبدو مذبذبة غائبة لا تعرف لها مستقرًا منبتة الصلة بماضيها، ولا يمكنها تقبل ذلك الحاضر المرتبك ولا القبول بشروطه الاستغلالية المجحفة!

وإذا كانت الشخصيات في الرواية تحمل تلك الدلالات الهامة فإن الراوي قد تعمد أيضًا أن يضعهم في أحداثٍ مهمة وفارقة على مدار السنوات التي تدور فيها أحداث الرواية بين الأزمنة الماضية والحاضرة، فالجد الذي عاش شابًا أيام نزاع “الوفديين” و”السعديين” وآثر الابتعاد عنها  يتذكر  بشيءٍ من الأسى ليلة الحرب التي استشهد فيها ابنه “مصطفى” أيام حرب الاستنزاف بالسويس عام 1976 ثم هاهو يعيش حتى يهدده زلزال 1992 وما واكبه من تغيرات في المجتمع المصري بعد الانفتاح الاقتصادي الشهير وبدأ سفر المصريين للعمل في الخارج .. ذلك السفر الذي ـ كما رأينا ـ يشكل تلك القطيعة القاسية مع الماضي والهروب من أرض الوطن بعد أن ضاعت أحلامهم ـ بل وربما أحلام آبائهم أيضًا ـ فيه! وكأن ذلك الزلزال لم يتوقف عند كونه حدثًا واقعيًا بل أصبح حدثًا دراميًا يهدد “الطبقة الوسطى” كلها بالدمار والتشرد!

ولعل أجمل ما فعله “محمد ناجي” ـ رحمه الله ـ في هذه الرواية أن كل هذا العرض والتحليل لمتغيرات الواقع والمجتمع بدءًا من السبعينات حتى أيامنا هذه عبر هذه الأجيال كل هذا يأتي من خلال رواية قصيرة بسيطة مشحونة بالمواقف والمشاعر المعبرّة والدالة والتي تحيل القارئ إلى عقد مقارنة بسيطة بينها وبين ما نعيشه اليوم ليجد كثيرًا منها تتطابق مع حياته الشخصية!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الرواية صادرة في روايات الهلال عام 2010

 

يمكن تحميلها الكترونيًا >> من هنا

مقالات من نفس القسم