ليلة رائعة لقطار

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 3
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ثروت

الآن

الساعة السادسة تماماً، كل شيء يدور دورته، تفاصيل رتيبة مجهدة، بلا أي نوع من اليقين. في السادسة مساءً الأخرى، السادسة مساءً التي تخص الغد، سيكون كل هذا مختلفاً.

سينطق الأبكم، ستشتعل المواقد تحت فناجيل القهوة المُرّة، سينسكب الكحول النقي أنهاراً صغيرة بين المقاعد الخشبية القصيرة، فوق قطع الإسفنج المزركشة، وستنهمر الحروف من كل صوب، بلا قيد أو معلمين عابسي الوجوه، فكل شيء تم ترتيبه.

الحقيقة المبهجة أن البداية ستكون قبل ذلك بست ساعات كاملة، في السادسة صباحاً، بعد اثنتي عشرة ساعة من الآن، ستكون أولى الخُطى، حين يتحرك قطار العاصمة حاملاً بين عرباته المتصلة، كل أفكاري. يضم روحي الحقيقية وجسدي الذي لن يعود غريباً عني.

سأصل محطة القطار في الخامسة تماماً، قبل موعد انطلاقه بساعة كاملة، سأكون في الشارع الرئيسي، أوقف عربة التاكسي السعيدة في الرابعة والنصف. في الرابعة ستكون حقيبتي فوق ظهري، ألاعب فنجان القهوة المحلاة، الأخيرة في هذا المكان، أراجع تذكرة القطار لمرة جديدة، وأقضم قطعة الشيكولاتة التي أعددتها لهذه اللحظة. في الثالثة تماماً سيهتف منبه الهاتف الخلوي داخل السمّاعة المتصلة بأذني، سأطفئه في هدوء أحاول جلبه من صمت المكان، سأغسل أسناني ووجهي، وسأدعك جسدي بكل قوة بالصابونة الجافة، سأبدّل ملابسي قطعة قطعة، ثم سألقي بالملابس القديمة في علبة القمامة الضخمة. سوف أتحرك كآلي بُرمجت كل خطواته بدقة مذهلة، سأقلّب البن بالسكر، ثم أضيف الماء يسيراً فوقهما، سأشعل الموقد، وأنتظر.

أمامي ست ساعات أُعّد فيها كل ما يلزم، في منتصف الليلة تماماً أنام، ثلاث ساعات يكفينني للنوم. في الغالب لن أغفو حتى، لكنني سأظل ممدداً فوق سريري منتظراً اللحظة الفاصلة.

حقيبتي السوداء فقدت زهوتها منذ زمن طويل، لها يدين قصيرتين. عرفت أن “الهاندباج” الرخيصة لن تتحمل كل شيء؛ فاستقر قراري على اختيار الأهم، أقرب الاشياء لقلبي. أرتبط بشدة بالأشياء الساكنة، بينما لا أرتبط بالبشر هكذا أبداً. في الحقيقة لا أحب أن أحمل أي شيء من هنا، لكنها جهوزية عقلي لكل الاحتمالات، كل الخطوات في الغالب ستتم في أول يوم، رغم ذلك، سأحاكي النمل، وأعّد نفسي للنجاة أياماً احتياطية، هذا عين العقل وتمام الحكمة.

مؤكد أن “اللاب توب” يحتضن زمناً كان كحياة ما. لوحاتي البائسة، أفكاري التي لم تكتمل أبداً، وأفلامي المقدسة، كل هرائي اللازم لأكونَ ما كنتُ. ليس مناسباً أن أحطمه هنا والآن، سأضطر لاصطحابه، لكنني لن أفتحه أبداً مرة أخرى، سأتخلص منه بعد وصولي مباشرة.

حقيبتي ستضم ثلاثة كتب، لا أحب غيرها، ولن أقرأ سواها. سأحتفظ بألبوم الصور القديم، ألبومي الضخم الذي اقتنصته من أبي في لحظة سعادة نادرة، لحظة غياب عن الواقع. سأترك لهم كل الأوراق الصفراء والبيضاء، الملساء والخشنة، فليحرقوها أو يستخدموها في حماماتهم الخاصة، لا أهتم. فكل شيء تم ترتيبه.

المأوى الذي ينتظرني ليس فندقاً، فالكلمة غير معبّرة عنه حقيقةً، لا أظن أن هذه التكلفة يقبلها فندق حقيقي، على الأرجح سيكون “لوكاندة” حقيرة، لا يهم. المهم أنه يقع في منتصف كل شيء، يصل كل مكان بكل مكان آخر، كما تنام أمامه عربة فول ثابتة، ومقهى رخيص يرقد جواره، هذا كل ما أريده في تلك الفترة الفاصلة. حسبت بالظبط تكلفة المواصلات الداخلية للذهاب والعودة، من “اللوكاندة” للمكان المنشود، نظمت أيضاً نقود الطعام والقهوة. لقد أكدوا لي أن كل ما يلزم سيتم في أول يوم، لكنني أخذت احتياطاتي؛ تحسباً لأي تغير في الأحوال. كل شيء تم ترتيبه.

أتذكر أن

 الحب، هو مجرد مصطلح، تعريف، مفهوم لغوي، كما تعلمت. أنا ذكر وهي أنثى، ربما نتكامل في أشياء كثيرة، ربما بيننا مشتركات عدّة. التقينا في بيئة محدودة الوقت والمكان، فمن المنطقي أن نكون حبيبين. لا أفهم غير هذا. بينما الحب بالنسبة لها، تجربة. تجربة خاصة ولّدت تعريفها المتفرد، تجربة مرّت بمثلها منذ طفولتها حتى لقائنا، انقطعت التجربة الثرية مرّة واحدة، فكنت البديل. كانت تشبه جنة بلا حدود. علاقتها بأبيها هي النموذج المعرفي، والممارسة الحقيقية، التي تعلمتها لكلمة “الحب”. كانت تحب أباها لأنه منحها حبه دفعة واحدة، دون شروط، دفقات متتالية لا تنتهي. تذكُر يوماً كان محتماً أن يعاقبها، لقد ارتكبت جُرماً، تمرّدت على تعاليمه، واندفعت خارج الطريق الذي خطّه لها. لم يعاقبها أبوها، لم يخاصمها أو يعبس في وجهها، ارتسمت على وجهه أجمل ابتسامة عرفتها، واحتضنها.

لا أذكر من علاقتنا إلا يوم ابتعَدتْ، لحظة انشقت عنّي. أخبرتني أن ما شجعها على قبول محادثتي الأولى، هو شكلي. ملامحي. أنفي المستقيم ذو العظمة البارزة، عيناي النصف مغمضتين، شعري المبعثر عن قصد. ملامحي هي هي ملامح أبيها. قالت أنني أشبهه تماماً، لكنه شبه ظاهري، “أبي لم يكن متعصباً لرأيه مهما آمن به، لم يكن رافضاً للآخر، وبالطبع لم يكن عنصرياً”. أخبرتني أن تصرفاتي التلقائية كشفت هويتي، إنها أفعال وردود أفعال طبيعية. صرخت في وجهي “أنت تكره نفسك، من يحمل كل هذه الكراهية للآخرين، هو شخص يكره نفسه”.

لم تتحرك عيناي ولم تنبس شفتي، ظللت أنظر نحوها. انتظرت حتى هدأت نبرة صوتها المرتفعة.

 

انتهيتِ؟

انتهيتُ.

هل تحسبينني عنصرياً، لأني سخرتُ من امرأة حافية؟ لأني كنت مشمئزاً من ابنتها المقززة؟ هل تعلمين أن كل من يستطيع أن يمارس عنصريته البغيضة عليّ-يومياً وكل لحظة- يمارسها. دون أن أكون أَسْوداً أو جنوبياً، دون أن أكون فلاحاً أو فقيراً أو مريضاً. المنتصر يتقزز من المنهزم دوماً. رئيسي في العمل، ضابط المرور، حتى أبي بلسانه الثقيل وكلماته البطيئة، بذاكرته المخادعة. أمي بصمتها الدائم، الذي تعوضه بعنف جسدي نحوي. المُخبر والبواب وموظف التذاكر. كلهم يمتطون روحي بالتناوب، يسلطون عصيّهم فوقها، فأجمع كل قهري، كل كَبتي وكل الضغوط على روحي، أفجرها مع أول فرصة. يتلقاها الأضعف الذي يقف في طريقي. ليس ذنبي أنني وسط الحلقة، في منتصف سلسلة الاحتقار، إنها كسلسلة الغذاء تماماً. أنتي لا تفهمين ما أفهم. لم تخرجي من عالم أبيك أبداً. الكون ليس أبداً هذه الجنة الموهومة. الكون سلاسل غذائية متقاطعة، نلتهم بعضنا منذ الأزل. لستِ ملاكاً ولستُ شيطاناً. أنتِ فقط لم تعيشي بعد، لقد سجنك أبوكِ في جنة صناعية، لا مثيل لها في الحياة الحقيقية، نالَك منه أذىً، أكثر بكثير من حبه.

قالت دون أن تنظر نحوي:”انتهيتُ منك. سلام.”.

انصرف كل منّا في اتجاه، لم ينظر أحدنا خلفه مرة أخرى.

المحطة

ارتفع صوت المؤذن فجراً، تقاطع مع أصوات صفارات القطارات، كان يصدر من زاوية صغيرة للصلاة في ركن المحطة. انطلق قطار الخامسة بركابه، تاركاً من لم يلحق به للقطار التالي، أو من رتّب وصوله غير عابيء به، حيث يعرف الراكب المتمرس أن القطارين يصلان “القاهرة” في ذات الموعد تقريباً.

تناثر عدد قليل جداً من المنتظرين على رصيف المحطة رقم واحد. أمّا صاحب الكشك، المحاذي لسلم النفق، فكان يعدّ كوبي شاي لرفيقيه-حارسي المحطة-، فلا يتبق في هذا الوقت عادةً غيرهم، حتى عمال التنظيف يرحلون مؤقتاً. أمناء الشرطة يتبادلون نوباتهم. بينما يظل الثلاثة سوياً. أحياناً أخرى يكون وحده. فقط هو والقطارات وصفاراتها. إنه يعرف كل حكايات القطارات، أحلامها وحروبها، يعرف أيضاً قراراتها الخفية. أخذ كل حارس كوبه واتجه لمكان حراسته.

وقت ليس طويلاً تبقّى على موعد القطار التالي، نظر صاحب الكشك لرصيف المحطة الفارغ، لا أحد غير الهواء البارد وصفارات القطارات البعيدة، اتجهت عيناه للسماء المظلمة. “ليس عليك سوى البقاء وحيداً، فرداً، لا تعرف أحداً ولا يقترب من مساحتك المحدودة أحد، لا عليك إن أحاطوك بحديثهم المتقطع، أو المتصل، وضحكاتهم التي بسبب وبلا سبب، لا تبتئس ولا تتراجع إن أوجعوك بنظراتهم الحادة، التي تحفر داخل روحك خندقاً ذا رائحة عفنة، كل ما عليك أن تبقى وحيداً وسوف ترى ما يُسمح لك. لكنك لم تعد جزءاً من اللعبة، من الحدث الهام، استحققت مقعد المتفرج الأول عن جدارة، المُشاهد الأصلي الذي لا يتفاعل مع الحدث ولا يغير النهايات؛ فهو يعرف جيداً. كن فقط مخلصاً لدورك الممنوح لك بعناية، كن شاهداً”.

أمامي كانت سيدة سمراء بملامح ذكورية، تعبر ممر التفتيش القصير، محتضنة جسد الطفلة، الممدد من كتفها الأيسر حتى نهاية خمارها المغبر بالتراب، تسندها بذراعها اليسرى، بينما يقبض كفها الأيمن حقيبة يد متهالكة، أشار لها الجندي بالعبور، سمح لها بذلك دون تفتيش حقيبتها. لم تستطع الوقوف في طابور التذاكر؛ فقد أنهكها الحمل الثقيل، ارتمت فوق المقعد البارد مؤقتاً، حينها تغلب ألم ذراعيها على ألم البرد، تنهدت، ثم قبّلت جبين الطفلة النائمة بعينين مفتوحتين.

 تنظر لنوافذ القطار الساكن أمامها، مغلقة، لم يضيئوا مصابيح عربات القطار بعد. تذكرت العبارة المكتوبة على جدار جارتها المتشقق، في الحارة العتيقة، بطبشورة زرقاء، “سيتم قفل اللمبة كل يوم الساعة 12م، مع تحيات أم عبدالله”. المحطة كلها لا يضيئها سوى ثلاثة مصابيح متباعدة، يحيطها ظلام مُقبض، هسيس الركاب المبكرون، إنها لا تختلف عن الحارة كثيراً. تنظر لوجه طفلتها الساكن لحظات النوم، لا تنسى آلامها طوال اليقظة، “لن تُشرق الشمس هذا الصباح يا طفلتي، كيف تجروء على الظهور دون أن تمنحك الدفء، هي تعرف أن جسدك سيظل بارداً. لن يبتسم القمر هذه الليلة، هو يعرف انشغالك بغيره، يغار جداً، لكنه سيكتئب و يحزن، حين يعلم أنك مشغولة بجسدك، الذي يحطم نفسه، تدمره خلاياه التي من المفترض أن تحميه. كم أتمنى أن لا تستيقظي أبداً. أكره نفسي حين أفكر في هذا. لكنني أريدك نائمة دوماً حتى ترتاحي، تهدأي، يعفو جسدك عن نفسه”.

اليوم الذي سبق الليلة بخطوتين

ابتسمت فاتحاً فمي بأقصى زاوية ممكنة، أظهرت سروراً بحكايته وانبهاراً بشجاعته وحنكته. لم يستغرق الأمر سوى دقائق من الابتسام وادعاء الاندهاش من روعة التصرف، حملتْ ورقتي توقيعه في سلاسة، ثم نظر لي من أسفل زجاج نظارته، “سيكون لك شأن جليل يوماً، أنت من الموظفين الموهوبين”، نظرت لقدميه وأنا أؤكد أنني تعلمت منه كل ما أستطيع.

لمّا عدت لمكتبي، ارتميت على المقد الجلدي متأوهاً من ألم ظهري، ضممت ذراعيّ فوق المكتب الخشبي بعد أن أزحت الأوراق جانباً، ثم أغمضت عيني ووضعت رأسي فوق ذراعي.

تندفع صور رئيسي في العمل متقاطعة مع صور لمصفحات بوليسية غامضة، تسقط حولها من كل مكان صور لأبي وأمي ومُعلّمي الصِغَر، بينما تندفع من الأسفل تيارات هوائية ساخنة، تحرك الصور وتقذفها في كل اتجاه، كل صورة مختلفة عن الأخرى، لكنهم جميعاً بإطارات زرقاء وخلفيات مظلمة. هناك مسدسات وأوراق حكومية مختومة، وأقلام حمراء تجوب الفراغ، تقطع الصور من منتصفها، أو تغطيها تماماً.

 هزّةٌ حركت رأسي وأنّت في أذنيّ، كان عامل “الكانتين” يضع القهوة فوق المكتب، ذُهلت لحظات من الهزّة، ثم عدت مرة أخرى لعالمي. هذه آخر لحظات الوظيفة الحكومية، الخطوط الأخيرة للعدو تنهار أمام خطتي المتزنة المحكمة.

ساعات قليلة تفصلني عن العودة لروحي الحقيقية، الالتصاق بمبادئي فعلياً، والالتزام بأحكامي الأخلاقية، سأطبق ما أؤمن به على نفسي أولاً. لن أحاكم أحداًمرة أخرى. سأعيش حياتي التي أريدها وأكتبها وأرسمها، لن أحيا حياتين مرة أخرى، سأعود واحداً، إنساناً واحداً فقط، بعقل واحد، بروح واحدة، سأقبل نفسي أخيراً، لأجبر بقية العالم على تقبلي.

 

ثلاثة كتب وألبوم عتيق

ألبوم الصور. لحظاتي المثبتة، انعكاسات الضوء والابتسامات المخطوفة أو المفتعلة. اهداءات الكتب الثلاثة. كل كتاب منهم يحمل في بدايته إهداءًا واضحاً، من حبيب لحبيبته، من صديق لصديق عمره، ومن أب لابنته. الكتب قديمة، وأغلفتها خشنة. ملقاة وسط أكوام من الأدب والتاريخ والسياسة، بين تلال من الضجيج، من العلاقات المركّبة. احتفظت بالكتب، وأعدت توجيه الاهداءات لنفسي. أنا من أستحق أن تُهدى لي تلك الكنوز المخبوءة، أنا من عثرت عليها واحتفظت بها وحافظت عليها، لم أمح الإهداءات الأصلية، لكنني خططت أسفلها-بخط غليظ- إهداءات جديدة، أستحقها. سقطت دمعة غلبت عزمي، تملّح خدّي فمسحت الدمعة سريعاً بظهر كفي، ثم تصفحت الألبوم بسرعة، لكنني توقفت مرة أخرى، تلك الصورة الوحيدة التي لا أستطيع تجاوزها، ربما من أجلها احتفظت بالألبوم كله. كانت أكبر الصور حجماً، اصفّرت واكفهرت وانثنت، لكن اللحظة ظلّت ثابتة، لا تتقدم ولا تتأخر. نصف ابتسامة ملتوية من أمي، في طرف الصورة الأيمن. أبي كان في منتصف الصورة تماماً، بابتسامة واسعة وذراعين يطوقاني وأخي. كنت محدقاً كأبله لمنتصف الكاميرا. بينما أخي، الذي يبكي إن رآني سعيداً أو هادئاً، كان ينظر في حزن واضح لأمي، بدت نظرته اعتذاراً صريحاً، كمن يقول “آسف يا أمي، لم أستطع منع ذراعه الثقيلة من التوغل فوق جسدي”، وهي كانت تفهم مبرراته دوماً، وتقبل منه كل شيء. كنت وأخي كذئب وأسد جبلي، كلب وقط، لا تنتهي معاركنا. أمنا تنتصر له، بينما كان أبينا غائباً عن الحقيقة جُلّ الوقت. هناك صورة لي يوم خطبتي، احتفظ أبي بنسخة منها جوار قلبه، كان يضعها في جيبه دوماً، يظن أن خطيبتي ستنقذني من هذه “المعجنة الخبيثة” كما كان يسميها، كان سعيداً بها أكثر من سعادتي، لم أكن سعيداً في الواقع، “يا ابني بص لها وبص لامك، انت بكل الأحوال كسبان”.

أقلب صفحات الألبوم للأمام والخلف، لم أتوقف عند صورة أخرى بعينها. لا أرى صورة مهمة، سوى صورة أسرتنا المصابة باللعنة. لعنة الطبقة الوسطى. منها وُلدت لعنتي الخاصة، لعنتي المُركّبة. نمت وسط جيل اعتُصر بين جيلين، يمثلان تضاداً في كل أشكال الحياة، الأفكار، الأحداث، الواقع والخيال. لم يستطع جيلنا المحايد، الانضمام للسابقين أو اللحاق بالقادمين، لم يقبل كل التقاليد والأساطير البالية، ولم يقو على اللحاق في ذات الوقت بكل هذا التطور المتسارع، التكنولوجيا التي لا تتوقف أو تهمد. حتى طفولتي كانت نصف طفولة، ليست مبهجة وليست قاسية.

أنا شخص متوسط الذكاء، من جيل واقع في المنتصف بين حياتين، جئت وسط أسرة تنتمي لطبقة تجاهد السقوط، وتحبو نحو الارتفاع. كل شيء حولي في المنتصف، في الوسط. ليس الوسط المركزي المهيمن، الوسط الحاكم المدبر، لكنه وسطٌ مائع، ومنتصفٌ راكد. بقية الصور كانت وسطية أيضاً، لا تسجل لحظة فرحة حقيقية، ولا تحمل حركة تؤكد الزمن وقتها، كلها صور عادية، لا تتذكرها، ولن يتذكرها أحد.

أمنية أخيرة للقطار الباهت

كان هناك قطار ضخم طويل ثقيل، يعدو مسرعاً فوق قضبانه. صدم القطار جسداً رقيقاً، حتى أنه لم يفهم تماماً سبب “التكّة” الصغيرة، التي شعر بها قبل نهاية مساره بنصف دقيقة. ولم تشأ القطارات الآخرى تنبيهه. ارتمى الجسد أمامه في نصف ثانية، كان يقف وسط بني جنسه، متناثرين، متزاحمين، ينتظرون قطاراتهم. وكانت القطارات تنتظر ركابها. القطارات متحفزة تنظر لبعضها في تحدٍ، كل واحد يرجو انتصاراً وتتويجاً بين رفاقه، كشافات القطار الثقيل أظهرت له طريقه واضحاً تماماً، رغم ذلك لم يكتشف الجسد إلا بعد ارتطامه. أكانت المفاجأة والسرعة فقط، أم أن غضب القطار واندفاعه، قد أعمياه عن الرؤية في الوقت المناسب. سريعاً كان وغاضباً من تأخره، أكواب الشاي تستعد لإحاطتها بالكفوف الباردة، عشرات البشر متناثرون فوق رصيف المحطة وجوار أبوابها الزجاجية.

حادث مصرع الشاب أمس تحت القطار، لم يؤثر في مساري، لم يُخفني، فأنا لم أعد أنتمي لهذا النوع. النوع الذي يتفاءل ويتشاءم بالأشياء والبشر واللحظات الغريبة. ليس هناك تحذيرات أو رسائل خفية. الحياة تسير كما نخطط لها؛ إن حددنا الطريق وبدأنا العمل فوراً. ليس هناك قَدَر محدد مسبق، وإلا فالكون كله لعبة عبثية. فما الفائدة أو المتعة، ما الفكرة من إعادة الشريط أمام من يحفظه، من صنعه في الأصل.

حين جلست على المقعد الخشبي لكافيتيريا المحطة، ضممت حقيبتي بين فخذي، اطمأننت على التذكرة للمرة الألف، ثم طلبت من الشاب الباسم قهوة مُرّة. خلعت شريحة الموبايل من مكانها، ثنيتها وكحتها، ثم رميتها في بلاعة صغيرة مفتوحة جانب المقعد، وضعت الشريحة الجديدة، رقم جديد، عالم جديد، إنها خطوات الانفصال تمشي في ثبات، تهرول، تعدو، ثم تسابق اللحظة. اتصلت بهم، طمأنتهم أن بداية الرحلة تنفصل عني بدقائق، سأصل في الموعد تماماً، فكل شيء تم ترتيبه.

لم يستطع القطار الباهت أن ينسى ثأره، فحكاية قطار الأمس هي الفائزة حتى الآن، كان الرهان مفتوحاً بين القطارات، القطار الذي مرّ بالحكاية الأفضل، يستحق الجائزة. لم تكن هناك قواعد محددة للأفضلية، فقط ما يتفق عليه الجميع، يجب أن يتفق الجميع أن هذه الحكاية هي الأفضل، كل قطار أحدث ضجة أكبر، هابه البشر أكثر، من حقه الاشتراك في المنافسة، الاشتراك في الالتهام. طعام القطارات البشر، يدهسونهم في صخب، ثم يلعقون دماءهم في روية. قرر القطار الباهت أن يشعل الأحداث أكثر، أن يلهب السباق. انزوى على نفسه في جراج المحطة يستعد، ليس عليه أن يخبر السائق ماذا ينوي، إنهما ليسا أصدقاء. يحاول السائق دوماً السيطرة عليه، ترويضه فوق القضبان المحدودة المسار، لكنه اليوم سيؤكد انتصاره بمهابة تدوم زمناً.

 

نسيم هاديء قبل البداية

نسمات باردة متقطعة تلمس وجهي، فأسرح قليلاً قبل التحرك، أتذكر ما كان ومالم يكن، ماذا لو حدث ما لم يحدث، أكان العالم سيتبدل؟ كنت سأبدأ مسار نجاتي من البداية، وليس بعد كل هذه السنوات. لم أكن سأحتاج تذكرة القطار، أوألقي ملابسي وسط القمامة. لكن التجربة تحمل آلامها، وتُطور ذاتها. لم يجرؤ التكرار أو العادة على قتل روحي، فاستطعت النجاة في اللحظات الأخيرة. لا أخجل من ضعفي طوال هذا الوقت، لا أختبئ من جهلي أو انصياعي للسائد والمرغوب، كل هذا عجين التجربة، دقيقها وسكرها.

كيف يتيسر للمرء أن يجلس على الحافة، بين العالمين، إلا إن كان معتاداً على هذه المخاطرة، إنني ابن المنتصف دوماً. ليس مفهوماً أن تتغير حياتي فجأة، لكنه وضع حقيقي. فكل شيء تم ترتيبه.

لقد بدأَتْ رحلتي تقريباً، منذ وقت قصير جداً، لكنني أرى حياتي السابقة، من خلف زجاج مغبش بأمطار لا تتوقف، لم أعد أتذكر أي لحظة بشكل جيد. أستطيع أن أؤكد أنني لا أستطيع تمييز وجه أبي، ولا صراخ أمي. لم أعد قادراً على صنع القهوة لرئيسي، أو سرقة الوقت لرسم لوحة لأمي، لوحة لها وهي تُرضعني في حنان أُمٍ حقيقية. لا أعتقد أنني سأكتب قصائد أخرى لحبيبتي السابقة، لن ألتفت لأخطاء تمت فعلياً، ولن أعذب نفسي بسبب ذنوب اقترفتها في حق الآخرين، كل ما مضى قد مضى، وكل ما هو آت آت.

غبار المشاهد ينتشر ويتلاقى، يفترش أرض الواقع، أو يرسم سماء الحلم. لو لم يشرب أبي هذه الليلة حتى الثمالة. لو سَكِر كعادته، ولكن أمي لم تستيقظ لحظة دخوله، في نفس لحظة ركله الباب بقدمه. لو استيقظت لكنها لم تلتق به، لأنه ذهب لينام جواري. لو أنها استيقظت والتقته، لكن أحزانها لم تكن قد بلغت الذروة بعد، لو لم تر في مرآتها عينيها الحمراوين وأنفها المرتعش. لو تصاعد غضبها والتقته لكنه لم ينطق. آه لو صمت. لو أجابها بما تريد أن تسمع. لو لم أخرج في هذه اللحظة القاتلة لتتأمل وجهي، فتشاهد زوجها متكرراً، مُعاداً في العالم مرة أخرى. لو لم يحدث أي من هذا، أية تفصيلة انقلعت من مسارها، وانفصلت عن الدوران في الخط المقدّر. لكان خبر مختلف. تلك لعبة الاحتمالات اللانهائية. لعبة الكون.

القطار الباهت يبدو من بُعد، مضغوطاً ككتلة حديد واحدة، بدت نظرته واثقة، متأكدة من حسم الأمر.

في لحظات انهيار أمي-وهي لحظات متعددة متباينة لانهائية- ينطلق أخي في البكاء، فلا يوقفه غير فعل واحد، أن ترفع أمي حذاءها، ثم تنطلق خلفي حتى تحاصرني، في زاوية المطبخ الصغير. تقبض شعري بيد، وتضربني بكل ما بها من غضب وثورة باليد الأخرى. لا يصمت أخي حتى أصرخ من الألم. تستمر هي لتتأكد من رضاه وصمته، ثم تجرني حتى بلاط الحمام القذر، تخلع عني ملابسي، ثم تركلني تحت مياه لا تتوقف.

تصدر زمجرات من القطار الباهت، منخفضة، قصيرة المدى، يبدو واضحاً أنه حدد هدفه جيداً، يبدو واثقاً متحفزاً، ينظر من الطرف نحو القطار الثقيل، ثم يخبئ ابتسامته في محركه الأمامي الضخم، ويخبئ مفاجأته بين عرباته.

ذروة التجربة، ولُبّ الدوران، حين جريت أحملها مفرودة أمام صدري، مفعم بالحلم ممتليء بالحياة، أصرخ في فرح نحو أمي، “أنهيتها يا أمي، تلك رسمتي الأثيرة”، كان أبي يتبعني فرحاً بانجازي، غير مهتم أنني رسمتها هي وليس هو. هو الذي يحبني أكثر من نفسه، يحميني أحياناً من تقلبات مزاجها، من انتقامها منه في جسدي. يبدو أن أمله لم يخب، إنه فرح أنني أنجزت شيئاً أحبه. استقبلتني بحذاء طائر التصق بجبهتي فوراً، كان أخي يبكي وكنت مبتسماً، أبي الذي كان خلفي، انسحب في لحظة نحو غرفته، وهي لم تكتف بضربي أو بتقطيع اللوحة. كورتها بين يديها، ثم ألقتها في حوض الغسيل، سكبت فوقها الجاز النفّاذ، ثم أشعلت النار. لمّا توقفت مذهولاً صامتاً، هددتني إن لم أنسحب خلف أبي، بوضع رأسي بين نيران اللوحة.

تمدد القطار المنكمش تدريجياً، انطلقت عجلاته بسرعة هائلة مرة واحدة، اصطدم بالقطار الثقيل الضخم. كان الباهت يحتضن خزانات من الزيت كتأكيد لانتصاره. شرارة الاصطدام الرهيب اندمجت بخزانات الزيت، فكان لهيب وصوات وأنين. المحطة جحيم بزغ فجأة. في الركن البعيد صاحب الكشك المشتعل يرفض الهرب، لن يترك كراتين البسكويت وثلاجة الكولا يذوبان في الفراغ دونه، إن لم يكن هناك مفر لأكياس الشيبسي وعلب العصير، فلا مفر له، إنها كل ما يملك، يجب أن ينقذ عمره، شقاه وكدّه، إمّا أن ينجو الكشك، وإمّا الزنزانة وضرب القفا، الجوع والرعب من كل صوت، ستلعنه زوجته وترميه في الشارع فوراً، كساذج فرّط في الحياة. رأيته يضم أكياساً وكرتونة ضخمة بين ذراعيه، يهبط سلالم النفق متعثراً، ثم يعود بعد لحظتين، محترقاً، شعلة من نيران تأكل نفسها، لا فرق فيها بين جسد آدمي أو كيس صناعي، كانت كتلة من لهب تركض في كل اتجاه، حتى سقط أمام كشكه تماماً. سقط الكشك فوق جسده.

 عرفتها من بروز جسد ضئيل فوق صدرها، كانت المرأة ذات الملامح الذكورية متفحمة ، كشعلة نار منطفئة حديثاً، مثل كثير حولي، كانت تحتضن طفلتها وكأنها تحميها من كل شرور العالم، أكان غريباً أن نظرة اندهاش أو شكر تعلو جثة الأم؟

 يتجه الخلق للهروب من فتحة الخروج خلفي، بينما من أمامي، تتضخم النيران فوق القضبان، وجوار سلم النفق تطحن الكشك بصاحبه طحناً. زاوية الصلاة الصغيرة، لم يكن لها أي تميز عن بقية المكان، لم تنقذها قوى خارقة، ولم يهبط فوقها مطر مقدس، اللهيب يحيطها من كل اتجاه، وهي ساكنة قد قبلت الوضع، مثلي. فلم تكن النيران تقترب مني، ولم تكن تبتعد أيضاً. كنت في المنتصف ككل حياتي.

 أنهيت فنجان قهوتي، وضعت الحساب على المنضدة، ثم تركت بقشيشاً بسيطاً. وقفت أمام المنضدة أنظر. للحظات بسيطة، استعدت كل حياتي، مرّت أمام عيني مترابطة مسلسلة، كانت لوحة أمي تصطدم بوجهي، تغلق عيني، بينما كانت زجاجات أبي تنهمر فوق رأسي، وأخي يصرخ بلا حدود. كنت متمسكاً بحقيبتي فوق كتفي، متمسكاً بجسدي. لم أفكر كثيراً، فقد فكرت كثيراً طوال حياتي، كل شيء أخذ أكثر من وقته بكثير، أخذ حياتي، تلك حياة لا يجب أن أدافع عنها، ليس لي حق في النجاة. اندفعت جارياً بكل قوة، ملقياً نفسي وسط المطهر الملتهب.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون