قلولي بن ساعد
ظاهرة الإقصاء الثقافي المتفشية بين نفر من المثقفين الجزائريين والعرب لا يمكن في تصوري اعتبارها حالة راهنة أو وليدة اللحظة، بل يمكن ردها إلى جملة من الأسباب التاريخية التي ولدتها أو انبثقت عنها.
ويُخيل إلي أن لها ظلالها البعيدة في التاريخ، فبعض علامات الاستبداد والإقصاء السياسي التي ميزت مسارات بعض النُخب السياسية التي تولت مهام بناء الدولة الوطنية الشعبوية المنبثقة من رماد حرب التحرير الوطنية في ظروف وملابسات تاريخية معقدة قد ألقت بظلالها أيضا على مسارات نفر من المثقفين.
بما يعني أن ظاهرة الإقصاء الثقافي متجذرة في مخيلاتنا البعيدة ويستحيل التخلص منها بسهولة بما هي نتاج عدم مواجهة الحاضر والخشية منه، وهي من رواسب “فقه” المجتمعات الأبوية التقليدية المحكومة بإرث النظام السياسي الشعبوي في بعده الرمزي والدلالي.
فالأنظمة الشعبوية تنتج في النهاية مثقفا شعبويا يؤمن مثلها بالخطاب الأحادي والممارسات الإقصائية، وما نراه من استثناءات لدى بعض المثقفين الأحرار هي مجرد حالات معزولة أملتها جملة من التجارب الشخصية والتكوين الفكري والأخلاقي الخاص بهم خارج مدار الوعي القائم في صلب التراث السياسي الإيديولوجي لخطاب الأب السياسي والثقافي وأدائه في التعاطي مع شؤون الرعية واهتماماتهم الفردية وحقهم في الوجود والكرامة الإنسانية.
ولذلك لم يخطئ أبدا المفكر الفلسطيني هشام شرابي حين اعتبر في كتابه (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي) أن الأبوية هي مرض العصر وهي تسكن مثلما يرى “أعماق الحضارة الأبوية، والأبوية المستحدثة وتسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد وتنتقل كالمرض العضال من جيل لآخر” (01).
وهي إن كانت تسكن لا وعي المثقف العربي والمثقف الجزائري على وجه الخصوص باعتبارها نتاج إفرازات مجتمع أبوي تقليدي ورث قيم التسلط والإلغاء عن سابقيه وانتقلت إليه بالوراثة، فهي أيضا نتيجة مضاعفات أوهام كثيرة صدقها بعض المثقفين المحدودي التجربة والتكوين المطمئنين لأسئلة الوثوق الأعمى ومنها الوهم باكتمال المعنى، المعنى الذي لم يكتمل أبدا في السياقين العربي والكوني إلا مع النص المقدس، ومن الجهل والخواء المعرفي.
فالقراءة والتحصيل العلمي والإبداعي المثمر خارج المقررات المدرسية أو تلك السياقات المهنية أو التراتبيات الإجتماعية تحرر الفرد من كل تلك الوثوقيات العمياء التي صدقها وتسربت إليه بفعل فقر المحيط الاجتماعي و”عقيدة” الإلغاء المتجذرة في المخيالات البعيدة لمجتمعاتنا العربية الأبوية، وتغذي وجدان ومخيال المثقف على ما أعتقد.
وتستدعي فيه التجلي الحواري وأسئلة التسامح النقدي والحضاري والانفتاح على دبيب ورؤيا الصوت المختلف عنه سعيا منه (لاقتسام الفهم) بتعبير ميشال فوكو وعدم ( إقصاء اللاحق ) بمفهوم إدوارد سعيد ولتأثيث وعيه بالتشبع بالقيم التي تتأسس عليها روح الثقافة المعاصرة الميالة لطرح الأسئلة وعدم الحسم فيها أو الاكتفاء بالأجوبة الناجزة أو الإصرار عليها كأن روح ستالين تسكنها أو تسكن (الوعي الشقي) لحاملها المؤمن بها في وثوق أعمى لا يقبل الجدل أو المناقشة.
فلم يعد كافيا أبدا التعلق ببعض أذيال المعرفة التقنية أو الاستخدام الميكانيكي العشوائي لبعض محددات الحداثة الأدبية الشكلية في نصوص لا تحمل رؤية ولا تمثل روح العصر وثقافته التي يزعم الكاتب والشاعر المعاصر أنه يمثلها بل إنها تناهض من الناحية السياقية متكآت النص الأخرى من الداخل، إن لم تكن أشبه (بالوعي المضاد للنص ) وللقيم التي يتأسس عليها..
وهنا تتجلى المفارقة الكبرى ويصير المحمول الإبداعي في صلته بالقيم الحامل لها أو المتكئ على بعض عناصرها أمام محك المساءلة النصية والبحث عن دواعي عدم التماثل بين (النص الغائب) بتعبير جوليا كريستيفا والنص الراهن بين الناص والمنصوص.
وهي أقصى درجات الاغتراب الثقافي والولوج في دهاليز العمى الإبداعي وغياب الوعي بأهمية الكتابة الإبداعية وخطورتها، ومن ثم الاستهانة بالقارئ وتجاهله كشريك مهم على درجة كبيرة من الوعي بالأسئلة التي يثيرها النص المقروء في إنتاج المعنى والدلالة، المعنى الذي كان يرى الباحث والمفكر المغربي محمد نور الدين أفاية أنه ” يتساوق مع مجهود مصاحب لإعادة إكنشاف القيم من زاوية النظر إليها بوصفها قيما أخلاقية تكون مجموعة تفضيل أخلاقي من طرف مجموعة من الناس أو مجموعة من المثقفين ” (02)
لا تتناقض بالضرورة مع القيم التي يكرس لها المثقف الكاتب في نصوصه الإبداعية خاصة عندما لا يتعدى وجودها سطح النص الوجود الفيزيائي الذي لا يشكل قناعة ذاتية لدى الكاتب أو رؤية وجودية نابعة من موقف وقناعة خالصة..
وهي لم تعد تقتصر على بعض الكُتاب أو نفر منهم ممن ينتمون إلى جيل واحد بل انتقلت أيضا إلى بعض الرموز الثقافية الكبرى المنتمية لنفس الجيل، فها هو مفكر بارز بحجم الدكتور محمد أركون يعلن بصريح العبارة عن تذمره من زملائه المفكرين المغاربة ويسجل بكل أسف عبر كتابه ( قضايا في نقد العقل الديني ) أن زميله المفكر المغربي عبد الله العروي يتحاشى ذكر اسمه أو الإشارة إليه أو إلى كتبه، فالعروي في رأي أركون في كتابه ( مفهوم العقل ) يقدم أمثلة توضيحية وموثقة على بعض المهام التي كان أركون قد تناولها في كتابه (نقد العقل الإسلامي ) مثلما يعيب عليه مرة أخرى أنه لا يُشير إلى زميله في الجامعة المغربية محمد عابد الجابري، قائلا: ” كان عليه أن يذكره لإبراز أوجه الاختلاف بينهما وطرق المعالجة للموضوعات المطروحة ” (03).
فهذه -الاختلافات– يقول أركون أنها ” تساعدنا على رسم خريطة تصنيفية لأنماط المثقفين المغاربة ولكن للأسف المثقفون العرب والمغاربة على وجه الخصوص لا يستشهدون ببعضهم البعض “.(04).
وربما كان وراء عقيدة الإلغاء، والإقصاء المتعمد بين المثقفين عوامل أخرى نجهلها وجب علينا البحث فيها ومعالجة طرق التخلص منها تدريجيا أو على الأقل الحد منها ومن حدتها والحيلولة دونها أو دون أن تمتد لأبنائنا وإلى الأجيال القادمة، لأن بقائها أو استمرارها أمر فادح وخطير ولا يبعث على الأمل.
وأخشى ما أخشاه أن يكون المثقف الإقصائي في وضع لا يحسد عليه هو وضع من سماهم ماركس ” المهيمن عليهم من طرف الهيمنة نفسها “.
الأمر الذي يجعله في موقع يحتاج فيه إلى ممارسة نوع آخر من الإقصاء أسوة بما تعرض له من إقصاء إجتماعي وسياسي من طرف النخب السياسية الحاكمة.
وقد طال أمده وهنا المفارقة.
..
إحالات
01 ) النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي – هشام شرابي – ص14 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1992
02 في النقد الفلسفي المعاصر مصادره الغربية وتجلياته العربية – محمد نورالدين أفاية ص 132 منشورات مركز دراسات الوحدة العربية بيروت الطبعة الأولى 2014
03 ) قضايا في نقد العقل الديني – محمد أركون ترجمة هاشم صالح – ص 56 دار الطليعة بيروت بدون ذكر السنة
04 ) نفس المصدر ص 56