لحية وشارب وإصبعان زائدان في اليد اليسرى

أحمد عبد اللطيف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

   أحمد عبد اللطيف

  بعد سنوات من فراقنا قابلتُ أمينة بلحية وشارب وإصبعين زائدين في يدها اليسرى وكنت أنا قد قررت أن أحلق لحيتي وشاربي للأبد منذ فراقنا في عملية تطهير ذاتي من أشياء كانت تحبها فيّ ثم اندهشتُ أن لها لحية ليست قصيرة وشاربًا ليس كخط يتيم إنما لحية كثيفة يتخللها شعيرات بيضاء متفرقة تداري بها لغدًا كان يميزها كلما زاد وزنها عدة كيلوجرامات وشارب رغم أنه نحيف إلا أنه يتدلى من تحت أنفها فاردًا ذراعيه حول شفتها العليا بتجبُّر كجني خرج في التو من قمقم ورأسه هو أنفها ذاته وأنفها كان ملمومًا كأنف نمر ينظر للأسفل في خجل لا أحد غيري يعرف أنه خجل الحيوانات الضارية وكانت لحية أمينة كطريق أسفلتي بين صحراوين العليا فيهما يتوسطها حدقة فارغة كبئر جافة يعلوها خط أسود ومستقيم وبجانبها مرتفع أقرب للتل أو الهضبة والسفلى فيهما خالية تمامًا وأكثر اتساعًا تمتد حتى تبلغ مجرى مائيًا بين جبلين ينتهيان بحلمتين بنيتين مجرىً مائيًا قد جفّ بحسب ما أظن منذ المرة الأخيرة حين التقينا في سرير صغير لا يسع إلا جسدًا واحدًا وتحت الجبل الأيسر لا شيء ينبض حتى لو بدا عكس ذلك وعند الذقن ثمة مفترق طرق وطريق علوي فوق الشارب وآخر تحت الشفة السفلية (يعلوه استراحة قصيرة كصخرة في بحر) سيؤديان لنفس المصير وبينهما هوة هي فوهة بركان سيسقط فيها من لا ينتبه إليها ليصل إلى أعماق فارغة ومحروقة وينتهي مصيره كفضلات في أي تواليت داخل بيت أو في المراحيض العمومية وعبر تواليتات البيوت والمراحيض العمومية ثمة كائنات وصلت إلى مواسير الصرف الصحي وعاشت تحت الأرض في رحلة لا تقل في إثارتها عن رحلات ألف ليلة وليلة حيث مراكب تركب نهرًا خارقًا وتصطدم بجبل يتفتح من ورائه عالم عجائبي مترع بالجن والجان والبان والملائكة والشياطين، عالم تدخله فتدرك أنك لن تخرج منه أبدًا لأن بابه الوحيد للدخول فحسب ولا أمل في الخروج إلا عبر انشقاق الأرض كما انشق بحر موسى عن جسر كائنات وقعت في الفوهة لأنها بائسة ولأن كل خطأها أنها لم تنتبه للفوهة الواقعة بين مفترق طرق، كائنات كان أمامها طريقين مرصوفين لكنها اختارت طريق الجحيم ربما اختارته بمحض إرادتها على أمل أن تجد بالأسفل وراء الجبل الأيسر قلبًا ينبض فيؤنس وحدتها ثم اكتشفت مسكينةً أن لا شيء ينبض ولا حتى يمكن الاقتراب من كائن ميت ومتعفن وأن المصير المحتوم هو العبور مع الفضلات ثم نظرتْ إليّ أمينة وشردتْ وكانت تبحث في وجهي عن لحية كثيفة بها شعيرات بيضاء منثورة وشارب رفيع لكنه يتدلى من تحت الأنف بذراعين لكنها وجدت مكانهما أرضًا بورًا وملساء صحراء وحيدة تغطي وجهي وتنزل إلى رقبتي كأن شعرًا لم ينبت فيها من قبل فكانت صحراء حقيقية لأن لوني الخمري لا يختلف كثيرًا عن لون الرمال ولأن صحراء غدت بداخلي غدا لها انعكاس ملحوظ على وجهي حد أن أمي قالت لي ذات مرة وهي تسخر من لوني إذ استحال أصفر إن وجهي يحتاج إلى تسميد وحين بحثت عن كيفية التسميد اكتشفت أن التسميد يمكن أن يتم بروث الحيوانات ومخلفات الصرف الصحي وأن نتيجته الطبيعية منح الحياة عبر اللون الأخضر وعبر الأوكسيجين وعبر الغذاء وعبر الجمال الناضح من أشكال الشجرات وطول أعواد القمح ولونها الذهبي وتراص كيزان الذرة يذكرني بصفوف أسنان طفل لم أمتلكها أبدًا لأن أسناني كانت معوجة مثل خطوط الخرائط وخطوط القدر وخطوط آمال كلما أطمأننت لها زادت اعوجاجًا وبحسب معلومات التسميد فالحياة تنبت من الموت ذاته والجمال الزاهي ليس إلا نتيجة لمخلفات الصرف الصحي ما يعني أني لو كنت وقعت في فوهة بركان أمينة ومررت بالمراحل الطبيعية في التحول إلى فضلات ثم استقر بي المصير في تواليت بأحد البيوت أو في المراحيض العمومية لكنت دخلت في رحلة أخرى وظهرت في النهاية كعود قمح ذهبي أو شجرة ياسمين هندي وليس مصيرًا حزينًا أن أختلط بمياه النهر وأن أجري في موجاته وأن أتلقى ضربات المجدّفين وربما المرور من شبكات الصيادين وأن أحتضن سمكات ستلعب بداخلي حتى أصل إلى البحر المتوسط  فأكون ملاذًا للمهاجرين يعبرون من فوقي أو حتى أغدو مقبرة لهم فأكتشف في نفسي فائدة لم أكن أتمتع بها سواء قبل الوقوع في فوهة أمينة أو بعد النجاة منها حين صرت صحراء جرداء لا شيء ينبت فيها ولا شيء تتكوّن منه إلا حبات رمل ناعمة غير صالحة حتى لتشييد بيت يسكنه رجل فقير مع زوجة ليس لها فوهة وإنما شفتان ناعمتان بينهما سرير يمكن التمدد فوقه أو لعقه كما نلعق العسل وليس لها حدقتان فارغتان إنما عينان تنظران وتبصران وتعطفان وتبكيان فتصنع من البيت الفقير سكنًا ليس هو الجنة ذاتها لكنه ليس الجحيم الكامن في محجرين فارغين يبثان الرعب في وسط النهار وفي أعماق الليل لكني انتبهتُ إلى الفوهة والسقوط ليس من البداية كما قد يتخيل البعض وإنما بعد أن وقعت في نفس الفوهة البركانية وغصتُ فيها حتى رقبتي وتعلّقت بأطراف أصابعي في حافة حادة هي أسنان مسنونة هتّكت جلد أصابعي ولحمها ونزفتُ ونزفتُ ونزفتُ وأنا معلق هكذا وليس أمامي إلا الاستسلام من أجل النجاة أو الاستسلام من أجل الموت وبينما كانت قدماي في الهواء تبحثان عن أرض عن حجر عن خشبة عن شيء يحتمل خفتي لأستقر حتى بجوار قلب لا ينبض وبينما كان الخوف يأكل خصيتيّ كحيوان شرس بأنياب من العاج انتفضتُ لأعلى بكل قوتي ومرة واحدة في حركة تسببت في بتر بنصر يدي اليسرى ووسطاها وهربتُ من الفوهة البركانية وركضتُ وركضتُ وركضتُ ولم أشعر بقدميّ إذ بلغ التنميل إلى الفخذين ولم أشعر بألم الأصابع المبتورة كأن ما يتبع البتر هو التجمد ولم أشعر إلا بقلب يختلج ليس من الخوف وإنما من الطمأنينة أو من الشعور النهائي بالنجاة أو الشعور بالنجاة من السقوط لكنه ليس النجاة من الألم وفي ساعة رَكْض بدت بلا نهاية ولا قِبلة أدركتُ أن الجحيم جحيمان جحيم أن تبقى في الجحيم وجحيم أن تهرب منه وعرفتني أمينة قبل أن أعرفها إذ وقفت أمامي وأنا سائر على كوبري الجلاء ومدت يدًا يمنى كأنها تصافح غريبًا ثم في نظرة خاطفة لليد الممدودة لاحظت اليد الأخرى غير الممدودة لاحظت يدًا يسرى نبت فيها إصبعان إحداهما بنصر والأخرى وسطى فصافحتها بظن أنها صديق قديم ربما استعار مني إصبعين صديق له لحية وشارب لكن حين دققت النظر في العينين تعرّفتُ عليها وشردت في لحيتها وشاربها وفي الطرق المرصوفة والمساحات الصحراوية الفارغة فانفصلتُ عن العالم فيما كان صوت يخترق عالمي هو صوتها ذاته وهو صوت يشبه دقات أصابع على باب إذ هو صوت رتيب ومنتظم صوت تعرف أني أكرهه لأنه يرن في رأسي كدقات شاكوش وكانت تحكي وتحكي وتحكي ثم حين دققت النظر في عينيها رأيت محجرين فارغين وعميقين ورأيت دموعًا تنهمر من العدم وتسيل حتى لحيتها وتنجرف يمينًا ويسارًا في اتجاه الفوهة البركانية ورأيت أنف النمر تطرد سائلًا يتجه لنفس الفوهة ورأيت في كل ذلك نفسي وأنا أسير في طرقها لينتهي بي المطاف في العدم فدفعتها بقوة أنا من لم أدفع أحدًا من قبل دفعتها بقوة فتجاوزتْ الحاجز الحديدي القصير ووقعتْ في النهر وركضتُ وركضتُ وركضت دون أن ألتفت خلفي وكنت أسمع بقبقة ماء يدخل في فم وقلتُ لنفسي قد تكون الحياة في الماء أفضل من الحياة في اليابسة وقلتُ لنفسي أخيرًا سأموت وأغدو سمكةً تأكلها امرأة حامل فيتغذى جنينها عليّ وأولد من جديد عبر فرج آخر لن ترى صاحبته أن وجهي أصفر وصحراء جرداء مترعة بحبات رمل ناعمة لا تصلح حتى لتشييد بيت لرجل فقير وركضتُ وركضتُ وركضت وقلتُ لنفسي أخيرًا نجت أمينة من الموت بموتها وأخيرًا نجوت أنا من الحياة بموتها وأدركتُ في هذه اللحظة أني غدوت أمينة كاملة لا ينقصها أي شيء حتى الموت ذاته وحين وقعت على الأرض عند مطلع كوبري قصر النيل رأيت نفسي طافيًا على صفحة الماء والماء يتخلل لحيتي وشاربي ووجهي يلمع تحت شمس حارقة وسمعت سارينات السيارات وشعرت بضربات على وجهي وتسلل إليّ صوت رجل ناضج يقول “غطوها يا جماعة”، وفتحتُ عينيّ لأراني محمولًا على سواعد ثلاثة رجال وضعوني بمحاذاة الحاجز الحديدي وأخرجت سيدة أربعينية زجاجة برفان ورشتها على أنفي وهي تبعد الرجال عني ونطقتُ أخيرًا بسؤال عن أمينة فحملت المرأة سؤالي وصاحت به “أمينة يا جماعة، عاوزة أمينة” وكنت الوحيد الذي أرى أمينة طافية على صفحة الماء بشفتين ناعمتين بينهما سرير يمكن التمدد فوقه أو لعقه كما نلعق العسل وليس لها حدقتان فارغتان إنما عينان تنظران وتبصران وتعطفان وتبكيان فتصنع من البيت الفقير سكنًا ليس هو الجنة ذاتها لكنه ليس الجحيم الكامن في محجرين فارغين يبثان الرعب في وسط النهار وفي أعماق الليل.           

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون