كيف خلقت الموتى (1-3)

خلق الموتى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

ربما كنت في ذلك الوقت مازلت أقرأ مجلات (ميكي)، و(سمير)، و(ماجد)، و(مجلتي)، و(العربي الصغير)، وقصص (المغامرون الخمسة)، و(المغامرون الثلاثة)، و(الشياطين الـ  (13ولم أكن قد بدأت بعد في قراءة (روايات مصرية للجيب).. ربما كنت قد كتبت قصة، أو قصتين، أو ربما لم أكن قد بدأت في الكتابة أصلاً حينما تعوّدت على التمدد في سريري، أو الوقوف في منتصف الصالة وسط حجرات البيت، محدقاً في الفراغ الثقيل، الممتد والمتجمّد داخل كآبتها، بأقصى ما يمكن أن يصل إليه حزن وخوف طفل.. كنت أقول لنفسي بيقين لا يمكن للشك اختراقه بأن شيئاً كبيراً وحاسماً سيحدث، ويضع نهاية للأمر، وأنني ذات يوم سأكتب رواية أحكي فيها كل ما جرى لنا.. لم أفكر أبداً في احتمال أن هذا الشيء الكبير الحاسم قد يكون الموت.. الموت كان بعيداً جداً، أشاهده في التليفزيون ككذبة مسلية، وأسمع عنه كحقيقة مروّضة بأذنين آمنتين.. ربما يدل على ذلك الكليشيه الذي استعرته كاسم للرواية من قاموس العاطفة والحكمة الذي يحرّك خطواتي الصغيرة: (نبض الأمل).. الطفل لابد له أن يضع التمسّك بالعدالة الفردوسية للمستقبل، وعدم الاستسلام لليأس كتعريفٍ نقيٍ للعالم مهما كان فائضاً بالآلام والشرور غير المحتملة.. كنت متأكداً من أن حياة أسرتي لا يجب أن تستمر بتلك الوتيرة البشعة، المتصاعدة من الصراع والعنف والخصامات الصلبة، وأن الزمن يدخر الحد اللازم الذي سيوقف المأساة.. لكنه ليس منقذاً بالضرورة.. حد ضبابي، غامض تماماً، يسبح فيما بين الضوء الشاحب، والعتمة الكاملة، ولا يمكن بالطبع تصنيفه خيراً أو شراً، لكنني كنت واثقاً من حتميته.. كنت أفكر ـ وهو ما نويت شرحه في الرواية التي سأحكي فيها كل ما جرى لنا ـ في أن كل فرد من أسرتي يمتلك تصوره الخاص عن (الأمل)، أي الوصول إلى دنيا أكثر جمالاً ومثالية، وأن هذا الاختلاف هو المسؤول عن زراعة الضغائن، وإشعال الصدامات، ضد إرادة النوايا الطيبة، التي هي الأساس المخبوء، الكامن في أعماق الجميع.. كنت غائباً للغاية، ومسجوناً برعبٍ متوسّل للقدر داخل الحدة المهينة للصخب المتواصل من الشجارات العامة، ولم أكن منتبهاً على الإطلاق إلى الغرابة الشخصية لوضعي الأسري، الذي لم أعثر ـ حتى الآن ـ على شبيه له.. حينما جئت إلى الحياة كان والديّ في الأربعينيات، ويفصلني عن أكبر إخوتي سبعة عشر عاماً، وعن أقربهم لي خمس عشرة سنة.. كأن أسرة عجوزا قررت أو حصلت دون قصد على شاهدٍ يختزن لحظاتها الأخيرة.. سجل توثيق بشري يجتمع فيه خلاصة تاريخ لم يعش سوى أقل فترة منه، وأصبح الآن على وشك الانتهاء.. كأنني بهذه الكيفية، وعلى نحو أدق لم أجئ إلى الحياة، وإنما إلى الموت.. كأن كل ما كنت أراه وأسمعه من حولي كان ينتمي إلى بشر لا يخاطبون الحياة بل يمهدون عبورهم إلى الموت.. دائماً أقول أنني شاركت أهلي وداعهم للعالم أكثر مما شاركتهم العالم نفسه.. بالفعل لم يُخذل المنطق، وبدأت أعيش الموت فعلياً قبل أن أُكمل العشرين من العمر.. بالطبع ذلك لم يكن دليلاً كافياً على سلامة التوقع الذي تكفلت أعمار أسرتي بتكوينه؛ إذ أن بشراً كثيرين يشهدون موت أفراد من أسرهم في سنٍ أصغر، إنما ما كان دليلاً حقاً ليس على سلامة التوقع، بل على ألوهيته هو أن الموت لم يتوقف عن التعاقب السريع بعد المرة الأولى لعمله.. مات أخي الأكبر، وبعده بأربع سنوات ماتت جدتي، وبعدها بسنة واحدة ماتت أمي، وبعدها بثلاث سنوات مات أبي، وبعده بتسع سنوات مات أخي الآخر.. ألوهية المنطق لابد لها أحياناً أن تتسم بشيء من روح الدعابة؛ فالموت لم يأخذ أحداً من أصحاب الأعمار الكبيرة أولاً، وإنما افتتح مسيرته بشاب في الثلاثينيات.. كأنه كان يخبرني بأن الطريق التقليدي الذي سيقطعه داخل البيت الذي وُلدت فيه ينبغي أن يشهد خطوة مفاجئة، حيث لا تذهب تلك الجائزة الهزلية المرعبة إلا لناسٍ مثلنا، يستحقون إثارة إضافية على الفناء.. الوعي المتزايد بذلك الترتيب، وتفاصيله، ونتائجه سيكون له الأثر الأكبر في تحويل (نبض الأمل) إلى (خلق الموتى).

 

مقالات من نفس القسم