قوانين جديدة للصباح

محمد صفوت
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد صفوت*

بدأ الأمر في شتاء ما بعيد ،أتذكر أنني كنتُ ارتدي سـُترة جلدية، فيما أخذتْ السماء ترتجل دُفعات غير مـُننظمة من المطر بمجرد أن خرجتْ رأسي من مدخل العمارة، لم يمنع هذا من أن أشتري علبة سجائر كعادة صباحية من كشك على ناصية الشارع،كنتُ متعجلا، لدرجة أنني نسيتُ الباقي،أعادني صوت البائع،أشار لي بجنيه معدني في يده،خطفتُ منه الجنيه،وأعدتُ النظر إلى ساعتي،السابعة والربع،طابور الصباح في السابعة والنصف،سأذهب متأخرا على موعد الطابور بخمس دقائق،وستبخ مديرة المدرسة في أذني قصيدة الصباح عن ضرورة الالتزام بموعد الطابور،وستُخرج لي مديرة شئون العاملين دفتر التأخير،انزلقتْ مني علبة السجائر،وتبلل غلافها،أخرجتُ منديلا ورقيا،دعكتٌ به علبة السجائر وأنا أواصل المشي ناظرا إلى ما تفعله يدي،كدتُ اصطدم بمن يسير في الاتجاه المقابل،عيناي وقعتْ على بوت من الجلد بكعب عال، بآلية غيّرت اتجاهي لليمين،لكن صاحبة البوت الجلدي اتخذتْ نفس القرار،وبآلية عدلتُ اتجاه خطواتي لليسار،فوجدتها فعلتْ نفس الشىء،رفعتُ نظري لأعلى مـُعتذرا،أطلّتْ علي بابتسامة رقيقة كأنها مسروقة من بهجة صباح جميل،أشرتُ بيدي إلى الاتجاه الذي سأسلكه تفاديا لاصطدام مـُحتمل،فأشارتْ بيدها لنفس الاتجاه،تعالتْ دهشتنا،فخرجتْ مني ابتسامة صغيرة،أستطيع التأكيد بأن هذه الابتسامة الصغيرة خرجتْ دون إرادتي،اضطررتُ أن أُفسح لها الطريق،فمرتْ بجانبي بخطوات سريعة نشطة،اصطاد أنفي عطرا رقيقا غير مألوف.

استمعتُ إلى قصيدة الصباح من المديرة ووقعتُ في دفتر التأخير،وعدتُ المديرة أنني سأكون غدا في موعدي قبل الطابور،في الصباح التالي استيقظتُ متأخرا عن موعدي ربع ساعة كاملة،هذا معناه أن استغني عن فنجان القهوة كطقس صباحي مقدس،أشربه مع سيجارة وأنا أصفف رأسي أمام المرآة، لكنني فضلتُ عدم التخلي عن طقسي،بغض النظر عما سيحدث،اشتريتُ سجائري الصباحية المـُعتادة،ثم أكملتُ سيري، فوجدتها مرة أخرى في طريقي،التقتْ عيوننا في صمت،على وجهها نفس اِبتِسامتها السابقة،مرت بجانبي،بعد أن تركتْ بأنفي رائحة عطرها المُذهلة،لا أستطيع التأكيد إن كانتْ ابتسامتي قد خانتني هذه المرة وقفزتْ على فمي أم أن جدية الصباح قد قمعتها .

ساعتي تـُشير إلى السابعة والربع،سأصل متأخرا لليوم الثاني على التوالي،لم يحدث هذا من قبل طوال فترة عملي، أسرعتُ الخـُطا،في الطريق كنتُ أفكر هل هذه الرائحة الرقيقة المـُنعشة هي رائحة عطرما خلاب،أم هي رائحة أصيلة تنبع من جسدها؟  

كان الطابور قد تحرك،فاستمعتُ إلى قصيدة المديرة ووقعتُ في دفتر التأخير،كررتُ وعدي السابق،ممهورا هذه المرة بقسم صريح أنها المرة الأخيرة،في الصباح الثالث،استيقظتُ على مغص شديد مصحوبا بإمساك،كلفني ذلك بعض الوقت في الحمام،كما استدعى أن أغلي كوبا من النعناع بالإضافة لفنجان القهوة،كنتُ في قمة الغضب والخجل من نفسي،السابعة والربع،سأصل متأخرا عن موعدي للمرة الثالثة على التوالي،سأحتفظ بكأس الإهمال للأبد،سأضُطر للتنازل عن كأس المعلم المثالي لزميل آخر أكثر التزاما،انتبهتُ على وقع خطوها السريع،في نفس المكان والموعد،بنفس الابتسامة المـُعتادة،التي تؤطر شفتيها، وبالرائحة العذبة التي بتُ متأكدا من أنها افراز خاص لجسدها،دون أن يكون لدي أي دليل على ذلك.

هذه المرة صدحتْ المديرة بقصيدتها بصوت نحاسي مـُجلجل،ظل صداه يتردد في الفناء والطرقات لفترة طويلة،كما أضافتْ لها بيتا جديدا،تهدد فيه بإحالتي للشئون القانونية، في المساء قررتُ أن أنام مبكرا،لأصحو مبكرا،تأكدتُ من ضبط المنبه،وضعتُ رأسي على الوسادة،تذكرتُ فتاتي الصباحية،استعدتُ ملامحها الرقيقة،وتلك الابتسامة التي تصاحبها كل صباح،قليلون هؤلاء الذين يمتلكون القدرة على الابتسام صباحا،أنا أعتبر الابتسامة على الريق مجانية وغير مـُلائمة لجدية الصباح،وخلال عشر سنوات من العمل،أقطع طريقي بخطوات سريعة ووجه جاد وصارم،لكن ابتسامتها هي عذبة، فطرية،كأنها مخلوقة بها،مثل وحمة،وحمة على هيئة ابتسامة،في الغد سأكون محروما من هذه الابتسامة،ومن رائحتها الخاصة،لأنني كي أصل قبل موعد الطابور،يجب أن اجتاز في السابعة تقريبا نقطة لقائنا المـُعتادة،أي قبل ربع ساعة كاملة من موعد بزوغها الدقيق كما حدث طيلة الأيام السابقة،جفاني النوم،تقلبتُ،وضعتُ الوسادة فوق رأسي،عشر سنوات كاملة من الصباحات الجدية،من الالتزام التام،والتوقيع في دفتر الحضور دون لحظة تأخير واحدة،سجل عملي نظيف تماما من أي جزاءات،ومن أي ابتسامة متهورة،لكنها عشر سنوات أيضا خالية من صباحات مـُعطرة بابتسامة كتلك،ومن رائحة كهذه،بماذا سأقامر،كلا الخيارين مر،عدتُ أفكر ماذا لو لم تبزغ صباحا عند السابعة والربع؟

ربما الأمر تكرر طيلة الأيام السابقة كصدفة مؤقتة،حسمتُ أمري، قمتُ بتأخير ساعة المنبه عدة دقائق،في الصباح كنتُ قلقا وأنا أشتري علبة السجائر،نظرتُ في ساعتي ثم اتخذتُ طريقي،فهلتْ إشراقتها في الموعد،هذه المرة قفزتْ على فمي ابتسامة واسعة،نعم أستطيع تأكيد ذلك،كنتُ مـُنتشيا لدرجة أنني لم أقف أمام المديرة وهي تـُلقي قصيدتها،لم أشغل بالي عندما تسلمتُ خطاب تحويلي للشئون القانونية، سأحكي للمـُحقق الأمر بكل صراحة،سأقول له بماذا تُقامر لو كنت مكاني؟،سيتعاطف معي بكل تأكيد،سيشفع لي تاريخي الوظيفي المُشرف.

 ظل الأمر يتكرر يوميا في السابعة والربع،وفي نفس المكان،أصبحتْ ابتسامتها ورائحتها جزء من طقوس يومي،صارتْ ابتسامتي عريضة وأكثر اتساعا،صرنا وجهين متآلفين، كانتْ عيني تـُلقي عليها تحية الصباح،فتردها بنظرة صامتة خجولة، حفظتُ ملابسها تماما،لدرجة أنني كنتُ أراهن نفسي،هذا اليوم سترتدي القميص الكاروهات،هذا الصباح ستأتي بالبلوزة الزرقاء المـُنقطة بنقط بيضاء صغيرة،اليوم جيب،وغدا بنطال،كنتُ أكسب الرهان دائما،وهو ما أضاف لي متعة جديدة،أطلقتُ عليها اسم صباح،رغم عدم تحمسي لهذا الاسم إلا أنه كان متناغما مع إشراقتها، كنتُ أسأل نفسي بمرور الأيام،هل تدرك صباح وجودي؟ هل أطلقت عليَ اسما؟،صـُبحي مثلا،أتشاركني هذا التواطؤ الصامت بيننا؟

 لم تكن لدي إجابة شافية عن هذه الأسئلة،وهو ما فتح الباب لأسئلة أخرى أكثر تعقيدا،هل صباح هذه لها وجود واقعي فعلا،لماذا لا تكون شيئا افتراضيا من صـُنع خيالي؟

كيف يمكن لصُدفة أن تستمر في الحدوث كل صباح طيلة ثلاثة أشهر كاملة في نفس الموعد والمكان؟

قررتُ متعمدا التأخر بضع دقائق عن موعدنا،مجرد تغيير لشروط الصدفة،كانتْ السابعة والثـُلث عندما رأيتها قادمة بإشراقتها،هل يـُعقل أنها كانتْ تختبر الأمرمثلي، تأخرتْ عمدا كما تأخرتُ؟

كررتُ الاختبار في الصباح التالي،كانتْ السابعة تماما،وصباح تمرق بجانبي،من العجيب هذا التوافق،أو قل هذا التواطؤ بيننا،حتى في الصباح الذي أصابتني فيه حـُمى طارئة شديدة منعتني من النزول،وقفتُ قبل السابعة والربع في شرفتي التي ترى ناصية الشارع والتي ستقطعها صباح حتما في طريقها،لكنها وحتى السابعة والنصف لم تمر،أتكون هي الأخرى قد أصابتها حـُمى منعتها من النزول؟ في الصباح التالي للحـُمى تبادلنا ـ بجانب الابتسامات ـ نظرات تـُعبرعن الوحشة،مع بعض الاعتذار عن الغياب،وتأكيدات متبادلة على عدم حدوث ذلك مـُستقبلا، في مرات عديدة قررتُ أن أقف وأتكلم مع صباح،أسألها عن عملها،عن انضباطها في مواعيدها،عما إذا كانتْ مندهشة مثلي من هذه الصدف الغريبة بيننا،كنتُ أتراجع في اللحظة الأخيرة،خوفا من أن يفـُسد ذلك الأمر،أن تـُغير موعدها أو طريقها، كنتُ أفضل الاستمرار في التمتع بتلك الطقوس الصباحية الجديدة، واستمر الأمر،ينتهي الشتاء،يأتي الربيع،تتخفف صباح من ملابسها،في الصيف ترتدي قمصان خفيفة،أو تيشرتات نصف كم،وكالعادة أراهن نفسي على ما سترتديه وأكسب الرهان،ملابسها الجديدة كنتُ أضعها ضمن قائمة خياراتي التي سأراهن عليها،ابتسامتي الصباحية تتمدد كل يوم،حتى أنني كنتُ أفكر بأنها ذات يوم ستتمدد بحجم المدينة كلها،المديرة استسلمتْ للوضع القائم،قالتْ تعبيرا مجازيا بأنها قد وضعتْ يدها في الشق مني،لكنني كنتُ أمثل بانتظام أمام المـُحققين، بمرور الوقت أصبح كل المـُحققين في الشئون القانونية أصدقاء لي،يقابلونني بابتسامة،نتبادل الأخبار، ثم يستكملون أوراق التحقيق بهدوء وصمت،من غير س،ج،ظهرتْ شُعيرات بيضاء كثيرة في رأسي، نبتْ لي كرش مـُعتبر،أصبحتْ صباح أكثر امتلاءً،تمشي ببطء مع انحناءة واضحة،تغيرتْ أشياء كثيرة من حولنا،تهدم كشك السجائر وحل محله كشك كهرباء كبير،تعرفتُ على أصدقاء جـُدد في الشئون القانونية،ووضعتْ مديرات مـُتتاليات أصابعهن في الشق مني،لكننا حافظنا أنا وصباح على هذا التواطؤ الصامت بيننا،كما حافظتْ ابتسامتي على تمددها الا نهائي.

………….

*روائي مصري

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون