في محبة الفن

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سحر عبد الله *

منذ أن كنت طفلة صغيرة تفتحت عيناى على لوحات ابهرتنى واظن اليوم انها التى قادتنى لمحبة الفن ، فرحت ارسم والون مفتونة بلعبة الألوان إلى أن التحقت بكلية التربية الفنية فأخذت تلك اللعبة شكلا اكاديميا .

وعشقت عيناي أعمال جورج البهجورى ،جاذبية سرى ، زينب السجينى ،تحية حليم ...وأن استطعت ولو سمحت لى السطور لكتبت كل من ساهمت اعمالهم في تشكيل وجدانى وجعلتنى اكثر تمسكا بمحبة الفن .

فكلما وقفت امام أعمال جاذبية سرى افكر في تلك المراحل المتعددة التى مر بها انتجها من الواقعية الزخرفية إلى الواقعية التعبيرية ثم مرحلة البيوت والصحراء واخيرا الجمع بين كل تجاربها السابقة . وقليلا مانجد من الفنانين من يمتلك تلك القدرة على التنوع والانتقال من مرحلة إلى اخرى . وفي معرضها الاخير تجسد “بقاعة الزمالك” لا تملك إلا أن تآسرك تلك الألوان المبهجة وترى الشخوص وقد تحولت إلى بيوت ، فالأشخاص هم من يعطون للبيوت دفأ ، روحا ..فتحيا. وتنصهر معا في الشكل والمعنى ليذوب المكان أو ليتحول إلى زمن مستمر ، فيتولد كل من الاخر في حيوية. فالشخوص المحدقة بعيونها نوافذ صامتة حزينة واحيانا فرحة صاخبة فتصنع عالما غنى تتداخل فيه التفاصيل.

أما جورج البهجورى فيخرج علينا بحيلة فنيةجديدة اسماها رسم على رسم” بقاعة مشربية”. حيث يذهب ، يفتش ،يغوص ويعيد اكتشاف الأعمال العظيمة وكأنه يمتلك اشعة حمراء أو فوق بنفسجية تجعله يرى ما لانراه ،فيقدمها بعيونه، يتحاور مع هؤلاء الفنانين ليصنع رؤيته الخاصة للعمل السابق للابداع ، فقد راى نفسه في البورتريه الشخصى لرمبرانت وجعل الموناليزا تخرج عن سكونها مكسبا اياها حياة . ومن منا لم تبهره تلك الأعمال العظيمة ، فقد قدم بيكاسو اعادة صياغة للأعمال فلاسكيز ومانيه في السيتنياتومازالت مسرحية كهاملت أو عطيلمصدرا لالهام المبدعينفي مختلف الفنون التعبيرية ،وكل منهم يختلف في طريقة تناوله وتقديمه لهذه الأعمال والتى بدورها تكشف عن افكار ومعتقدات وثقافة من يعيد صياغتها . وهكذا يقدم جورج البهجورى لنا درسا في اهمية تدريب عيوننا على اكتشاف الأعمال الفنية العظيمة.

 

وفي “قاعة بيكاسو” والتى قدمت هذا العام معرضين مرجعيين أحدهما للراحل سمير رافع أحد رواد السريالية والذى ترك بصمة قوية في مسيرة الحركة الثقافية المصرية، والذى تتنوع موضوعاته بين تكوينات يلعب فيها شكل الرجل دورا اساسيا فيصوره تارة مع سمكة ، طائر ، امراة أو رجل أخر وقليلا ما يصوره مع كائنات اخرى كالعصفور و الحصان و في تكوينات اخرى يصور المراة مع كلب أورجل ،وسمير رافع يجمع بين الاسلوب السريالي وبين استلهام عناصر الفن الشعبى .والاخر للراحل أحمد صبرى رائد فن البورتريه واحد رواد الجيل الاول ، والذى كان أول رسام وجوه مصرى حيث عشق الوجه الانسانى وبرع في تصوير البشرة وملمسها واظهارحيويتها سواء رسمت بالباستل أو الوان الزيت أو الماء ،فيضع لمسة بعد اخرى وكأنه يبث الحياة اذ تتحرك فرشته في رقة متناهية، فيجعلنا شديد الدهشة والاعجاب والرغبة في مزيد من التامل ، ومن منا لا يذكر بورتريهات السيدات الارستقراطيات بملابسهن الرسمية وزينتهن الكاملة وجلساتهن ونظراتهن المترفعة واوضاعهن المحسوبة. ولم يعن أحمد صبرى كثيرا برسم المناظر الطبيعية مقارنة بالصور الشخصية وتكوينات الورد والاوانى التى كان مقلا فيها وان كانت الاقرب اليه بعد الصور الشخصية فمن خلالها استطاع أن ينقل الينا احساس النضارة والحيوية حتى كاد يبعث لنا بأريجها .

 

 

وتسيطر على الفنان أحمد نوار لحظة العبور، وقد عكس الفن التشكيلى بطول التاريخ الانسانى لتلك الأحداث شديدة العنف في الحرب من صور الصراع والتطاحن فكانت بمثابة وثائق بصريةضد العدوان أو راحت تصور المقاومة والاستبسال اذ تاثر العديد من الفنانين باجواء الحرب ومنهم جويا الفنان الفرنسى والتى عكست أعماله فظائع الحرب الأهلية الفرنسية وكذلك تعد الجرنيكا لبيكاسو من اعظم الوثائق التشكيلية ، ويتضح في أعمال حامد عويس ترجمة لانجازات ثورة يوليو. وقد عاش أحمد نوار كل تفاصيل لحظة العبور ، فاتجه الى التحوير والرمز وإعادة تشكيل وتنظيم الأشكال باسلوب يجتذب حواس المتلقى ويستنهض خياله.اذ يعالج موضوعه من منظور بانورامى تتعدد فيه الرؤى والمستويات .فثم حياة تدب في تلك الأشكال العجيبة السابحة في الفضاء فلم يعد الشهيد بشرا بل كائنا يخترق السماء مفعما بالحيوية في فراغ قاتم فيحاول نوار بذلكالبحث عن هذه الطاقة الكامنة وتجلياتها مرة من خلال” صعود الشهيد”وعزفه انغام وطنية ..ومرةاخرى من خلال ” ثلاثية الهرم” المتصاعدة وكان ذلك الشكل المثلث المتكون من مجموعة من المربعات ممثلا للهرم يصعد متحررا بفعل طاقة داخله دفعته الى أعلى، فاللوحات الثلاثة مكملة لبعضها البعض ، أو البحث في “الطاقة ” ذاتها ونبضها . فيخرج من اعماقها -اللون الأحمر والأبيض والأسود –الوان العلمالتى سيطرت على معظم اللوحات وقد تناول الفنانان فكرة العلم كالفنان الأمريكى “كسبر جونز” في لوحة بعنوان ثلاثة اعلاموكذلك الفنان وليام كوبلى في لوحة نموذج للعلم الأمريكى ، اما عند نوار فقد جاء استخدام العلم كايقاع بصري .. ثم تكتمل الملحمة بمعزوفات النصر والتى تلتحم فيها الصواريخ بالنوتات الموسيقة فينهى ملحمته بغناء فرح نشيد النصرالذى يقودنا الى”الممر”، حيث تتداخل الاضاءة والموسيقى والمجسمات فنرى اجساد الأبطال الذين فقدوا اجزاء من اجسادهم واحدهم يعزف معزوفة النصر فتشعر بأنهم احياء ..وتلك المرايا الممتدة بطول الممر تجعلك جزءا من العمل فيحدث ذلكالتوحد ويزيد من تلك الحالة الاضواء الحمراء واصوات نبضات القلوب والتنفس الشديد لتعبر الممر بعد ان ترى العلم يرفرف عاليا فتكون قد اصبحت ممن عبروا..وذلك يدفع المتلقى للبحث داخله عن الطاقة التى قد تدفعه إلى ما هو افضل ..و لا ازال اتذكر عمله منذ عدة اعوام بمجمع الفنون”فلسطين52 سنة من الاحتلال” وايضا ذلك الرجل مغطى الراس الذى يعزف مقطوعة موسيقية يتداخل فيها اصوات الصواريخ والقنابل والتى ابرهتنى في قدرته على جعل فن التجهيز في الفراع والفن المفاهيمى اكثر قربا من المتلقى ..مبتعدا عن الاتجاهات الغربية .

 

 

بينما يكتشف عصمت داوستاشى الكنوز”بقاعة اكسترا” ويجدها في الأشياء المهملة وما نستخدمه ونقوم باستهلاكه يوميا كالاقلام والغطيان والعلب والكرتون والعرايس، فيعيد تشكيلها مضيفا اليها بعض الالوان ليصنع مجسماته على مسطح ،فيخلق من خلالها قيما جمالية ويجعلنا نعيد تقيمها بصريا ، وهو ما يعرف بالواقعية الجديدة أو “البوب ارت ” وهو الفن الشعبى الامريكى الذى يتم فيه استخدم تلك العناصر الحياتية ليصنع عملا فنيا يقترب به من المتلقى ..

 

 

ويحلق جورج فكرى بعين طائر صانعا زوايا رؤيا جديدة على مسطحات لوحاته بنوع من الحنين لطقوس مصر، فيجمع بين فطرة التعبير الانسانى البسيطة والعميقة معاشديدة الثراء الغنية بنبض آسر يتبدى في ملامح الوجوه الهادئة من ناحية وفي التناول السردى التعبيرى للطقوس المصرية بلغة الشكل البليغة. فراح بعد امتلاك ادواته التقنية يرسم الأشكال الانسانية والعناصر تتجاور وتتزاحم وتتكدس كيفما شاء لها في حرية محافظا فيها على سجية الفطرة وتلقائية التناول ،كى تنتظم الشخوص بوجوهها البسيطة الهادئة وعيونها المحدقة في محور التكوين فتكون بطل العمل لديه . والواقع أن سخونة التعبير الانسانى لمفردات الحياة اليومية هو جوهر معرضه “بقاعة الزمالك للفن”، ففي اللوحات تتكدس الشخوص والتفاصيلفيما يشبه التكتل ضد الفراغ المحيط وكانما هى عملية صراع بين بؤرات مليئة بالتفاصيل تصنعها الأجسام والوجوه المكدسة و بين مساحات شاسعة تحيطها او تحاصرها . فتصطبغ السطوح بالألوان الساخنة الخارجة من مساحاتضوء ابيض ثلجى شاسع فالتعامل التقنى والتركيبى لشرائط الورقية اكد على حالة الصخب.

 

 

قد تكون تلك رؤية بانورامية لبعض معارض الفن التشكيلىبنوع من الحيادية ، اذ أن المشهد يحفل بالعديد من الأعمال التى تستحق الوقوف امامها وتاملها والتى تتنوع في فروع الفن التشكيلى عامة ..فالحركة الفنية في مصر جديرة بالمتابعة والتوثيق .. واذا كان الفن يسهم بصورة أو باخرى في تشكيل وجدان متذوقه ،خالقا له عينا عاشقة محبة.. فهو ايضا يعكس صورة المجتمع الذى نحياه ،اذ ينبع منه

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فنانة تشكيلية مصرية

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم