في عشق الصورة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

(1)

قُبيل المغرب، صعدت بأكياسي الثقيلة إلى عربة الرجال، الأخيرة، بترام الرمل من محطة “سوتر” في الاتجاه العائد للبيت “بكامب شيزار”. كنت مُجهَداً، مُحبطاً، قليلاً، لأني لم أجد كتابي، المُنَتظر معروضاً بمعرض الكتاب المُقام بأرض “كوته”، كما وعدوني، وراضياً، قليلا،ً عن الغلة التي اقتنصتها شباك لهفتي، وطمعي، بعد البحث والتنقيب والتطواف الطويل بأروقة المعرض وأجنحته.

في الترام، غير المزدحم بذاك الوقت من اليوم، رحت أهدئ خواطري، مردداً على مسامع قلبي أنه لا فرق، بالمرَة، في الحساب الأخير، بين أن يلحق الكتاب بالمعرض، أو لا يلحق به، بل وبين أن يصدر الكتاب، من الأساس، أو لا يصدر، وأنه، وبعد كل شيء أو قبله، من ذا الذي ينتظر صدور كتابي؟ وما حاجة العالم، في الحقيقة، للمزيد من الكتب؟ أو ليس فيه ما يكفي، وزيادة؟.

المدهش، أن تلك التساؤلات، وغيرها الكثير على منوالها، لم ترد على بالي بأدنى إحساس بالتألم الذاتي، ولا بالإشفاق على النفس، بل، وعلى النقيض تماماً، بشيء، غير قليل، من الراحة و الشعور بالتخفف، وبقدرٍ من التجرد، وكأني أفكر في أمر شخص آخر غيري، حتى أني خِفتُ من حالتي، فقررت الانصراف عن متابعة التفكير، ومددت بصري، خارجاً من عتمة مغارتي الداخلية، باتجاه العالم، المنير الصاخب المتوتر، من حولي.

بالجهة المقابلة لصالون عربة القطار، وقف سرب صغير من بنات الجامعة، يهدلن يضحكن ويتشاحن، عقب خروجهن من محاضراتهن المسائية بمجمع الكليات النظرية. شابات لذيذات متفتحات كزهرات تخرج، لتوها، من أكمامها، لتبعث في النفس بهجة خفية، ومتعة سرية، ووعود منسية، وذلك على الرغم من مظهرهن البسيط، وملابسهن الشائعة الرخيصة، وحجابهن غير الملتزم. دقيقة بعد أخرى، شدني عالم تلك الفتيات إليه، فشرعت أفكر، مستفهماً، في أحلامهن وانشغالاتهن، في أفراحهن وآلامهن، في المبتدأ والواقع والمآل، أو باختصار في كل الأشياء التي بدت، لي، غريبة متنائية عنهن اللاتي لُحن مهمومات، جداً، بالتقاط صور “السيلفي” بكاميرات هواتفهن المحمولة؛ هذه الهواتف التي تراءت لعيني، أغلى ما بحوزتهن، وأغبى ما لديهن.

فجأة، وعلى نحو متخارج، كلية، عن المزاج الهادئ، المفعم بوشوشة الصبيات ومعابثاتهن اللاهية، اختض سلام العربة صوت صراخ وحشرجات وعويل غريب. التفت الجميع، بذعرٍ، إلى مصدر الصوت، المتألم المؤلم، ليبصروا صبياً طويلاً نحيلاً، لا يكاد يتجاوز الخامسة عشر من عمره، تقلص عضلات وجهه تشنجات فظيعة، فيما تحاول أمه، في الأغلب، أن تضمه إليها، وتربت على رأسه، وتهمس مناشدة إياه أن يهدأ، بلا طائل. صمتٌ ثقيل حطَ على القطار لثوانٍ، وانطلقت بعده همهمات ومصمصات شفاه واستفهامات واستغفارات واسترحامات، لكن الصوت، ما تحت الآدمي، ظل يتعالى، مهشماً سلام الغروب الهش، ومستعجلاً قدوم الليل، كذئبٍ، وحيدٍ ضال، فقد أثر قطيعه، وأدرك يقين رعبه وضياعه.

مستعجلاً محطة نزولي، حملت أكياس الكتب، وتقدمت نحو الباب المغلق، متذكراً ما كتبه “فنسنت فان جوخ” إلى أخيه “ثيو”، ذات يومٍ، من أن الحزن سيبقى للأبد.

(2)

لطالما أثار استغرابي ذلك الحرص، المبالغ فيه، الذي يبديه غالبية الناس لالتقاط الصور التذكارية. ذلك الحرص الذي استحال لنوعٍ من الهوس، حد الخبال، بعد انتشار الهواتف المحمولة الذكية بأيدي الصغار والكبار، بكاميراتها عالية “البكسلة”، وبإمكانيات تقنية الاتصال، السحرية، على تحميل و”تشيير” الصورة عبر الفضاء الرقمي، اللا محدود ولا المتعين، في اللا زمن. لم أكن يوماً من المفتونين بتخليد عبوري الزمني، العارض والقصير، في مسالك هذا الوجود، بسجنه، أعني الوجود، وراء قضبان من نقاط طول وعرض، سواء رقمية أو ضوئية. أتذكر أن آخر مرة قصدت فيها “ستوديو” لالتقاط صورة فوتوغرافية شخصية لي كانت بالعام 2000 لعمل جواز سفر، ومن يومها وأنا أستريح، تماماً، لفكرة استخراج ما أحتاجه من صور شخصية انطلاقاً من “النيجاتيف” المحفوظ لتلك الصورة بأرشيف المصور الذي، ولله الحمد، لم يغلق “الاستوديو” حتى الآن. حتى خلال مهام عملي التي كانت تفرض علي، أحياناً، أن أقف متسمراً، ومبتسماً ابتسامة صغيرة بلهاء، بوضعية التصوير، فقد كنت لا أحرص على الاحتفاظ بها بعد التقاطها، والهرب منها، كلما أمكن، متعللاً بأن مكاني الصحيح، حسب قواعد العمل والمهنية، أن أكون خلف الكاميرات لا أمام عدساتها. على الأرجح، مجرد حيلة وحجة للتهرب والفرار من الصورة. قال لي أحد الزملاء، متعجباً ومتشككاً:

– لولا كتاباتك، الدقيقة، عن البلدان التي خدمت فيها لما صدقت أنك عملت هناك؛ ولا صورة واحدة يا مؤمن؟!.

– أنت قلت؛ الصور بالكلمات.

أتذكر أيضاً، أن أول كاميرا فوتوغرافيا امتلكتها في حياتي، كانت تلك التي اشتريتها من “أثينا” وعمري نحو ثمانية عشر عاماً، أثناء رحلة لأوروبا مكافأة لي على تفوقي بالثانوية العامة، وكانت من ماركة “زينيت” الروسية العتيقة. قرابة المائة دولار أمريكي دفعتها ثمناً لكاميرا لم ألتقط بها سوى عشرات الصور التي، ربما، ما ظهرتُ في واحدة منها، مكتفياً بتصوير الأماكن والأشياء، الأمر الذي أثار حفيظة أشقائي، حين رجعة أول عضو في العائلة، من أوروبا الحلم الكبير، دون أن يخلد لألبوم العائلة وقائع تجليه في ذاك الحلم، والنتيجة أن سحب شقيقي، المغتاظ، الكاميرا مني جزاءً وفاقاً على فعلتي الخرقاء.

وحتى اللحظة، وحين تبادر زوجتي بتفريجي على تلك الصور اليومية، التي تبعث بها ابنتنا، لحفيدتنا الأثيرة، أجدني أنخرط في الفرجة بغير حماس شديد، وعلى الأرجح بقلب موجوع. بطبيعة الحال، ليس حبي لحفيدتي موضع شك ولا تساؤل، ولا كذلك لهفتي على كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد، لكن شيئاً ما، يظل متأبياً على التفسير، ألقاه يحول بيني وبين الانفعال بالصور، على نحو ما يحدث لغالبية الناس، إن لم يكن لجميعهم.

هل ثمة استثناء لذلك؟

ربما استثناء وحيد، خارق معذب وغير مفهوم، وموغل في القدم.

من مقتنيات الأسرة، التي تم توزيعها على الأبناء عقب وفاة الوالدين، احتفظت من أغراض أبي بكوفيته الصوفية الزرقاء، التي دائماً ما ألفها حول عنقي في الأمسيات الشتوية الباردة، فتعيد لي الإحساس الشامل بالدفء، وبالحضور المطلق للرعاية، وللحماية. صحيح أني عشت طويلاً، بما يكفي، عاجزاً عن الوقوع في شرك الافتتان بأبي، أو إدراك حضوره الكلي، شبه الربوبي، بأناي، مستنيماً إلى ملاسة خشونة حقيقة أني لمَا طلبته في طفولتي ما وجدته، وأنه آثر الغياب الذي أورثني الخذلان والعذاب، إلا أن كوفيته، من بعد موته، دامت تعني لي ما هو أكثر، بكثير، من مجرد وسيلة لاتقاء برد الشتاء.

أمَا عن أمي، فقد ورثتُ ما هو أغلى بكثير، وأعمق إثارة لحيرتي واستغرابي: صورة زفافها، بالأبيض والأسود، في إطارها الخشبي المتآكل القديم، الذي رممه لي أحد أمهر المتخصصين، وبكرتونها الأبيض المصفر بفعل مرور قدم الزمن الثقيلة عليه. لماذا هذه الصورة بالذات؟ ما الذي تعنيه لي بالضبط؟. لا أعرف، لكن شيئاً ما، سحرياً، يظل يجتذب مشاعري ومخيلتي لتأمل، وإعادة تأمل، تلك العروس الصغيرة، بفستان زفافها الأبيض، غير الثمين، وطرحتها المسدلة فيما وراء ظهرها وخصرها النحيل الممشوق، وبنظرة عينيها، المتلامعتين اللوزيتين، المفتوحة على حلم برئ عريض زاهٍ، حلم لم يتحقق، حلم انقلب لكابوس من هجران وخذلان ومرض وندم، لن يعيد جبر ما انكسر، ولا لحم ما انفسخ.

 (3)

الاصطفاء المُدبَر، وحبس سيال الزمن.

أحسبها ترتكب جريمة نكراء في حق الحقيقة؛ الصور. تنبني الصورة على أبعاد مكانية، بالأساس. لكنها، وبالمقابل، لا تطمح إلا لخلق وابتداع علاقات زمنية، بالضرورة.

هل ثمة معنى، في ذاته، لقيامنا بحبس أنفسنا، أو الآخر، أو أي غرضٍ ما، داخل إطار، محدد، من الخشب أو الضوء، أو ما شاءت لك التقنية، وفوق سطح، بعينه، من الحجر أو الورق أو الومضات الإلكترونية أو ما لا نعلم طبيعته بعد؟. لا، ليس هنالك معنى لذلك، في ذاته. ونحن حين نحبس ما نحبس عبر الصورة، فإن استهدافنا ليس المحبوس، بكثافته المادية، بجسدانيته، بأبعاده في المكان، بل لحظته، أعنى زمنيته، حقيقته السيالة الموارة المتدافعة المتقلبة المتغيرة الهادرة. وفي ذاك يتجلى، ما أعتبره، الجرم الأكبر، ما أعتقده، الإنكار الأعظم.

إنكار ماذا؟

إنكار عرضية وجودنا، هشاشته، تفاهته المكينة، لا لزوميته، أو بمعنى آخر لا حقيقيته.

ثم؟

ثم التأله، السعي الخائب لتجاوز وضعيتنا البشرية، والتشبه بالآلهة، وذلك بعد اغتيال الإله بداخلنا.

ربما لهذا السبب، سبقت فنون التصوير والتجسيم الأديان. وربما لهذا السبب كذلك، تناهض الأديان الفنون، كلٌ على طريقتها، وبحسب نظامها العقيدي وأساليبها الخاصة.

في كتابه المُلهَم “الإنسان المتمرد”، يتحدث “ألبير كامو” عن شئ قريب من ذلك خلال تأمله في رائعة “بروست” المعنونة “البحث عن الزمن المفقود”. يقول “كامو”:

“لقد أمكن القول إن عالم بروست هو عالم بلا إله. فإذا صح ذلك، فليس لأن الحديث لا يدور فيه أبداً عن الإله، بل لأن هذا العالم يطمح إلى أن يكون كمالاً مغلقا، وأن يُكسِب الخلود سيماء الإنسان. إن الزمن المستعاد، في مطمحه على الأقل، هو الخلود بلا إله. ومن هذه الحيثية، يتراءى إنتاج بروست على أنه المحاولة الأكثر إفراطاً ودلالة، التي يقوم بها الإنسان ضد وضعه الفاني”.

فهلا تنظرون! أخطر الصور، قاطبة، تلك المرسومة كلاماً.

 (4)

عاش حياته، جلها، يعمق بداخله صورة الفنان الذي زهد في كل شئ آخر عدا الإخلاص التام، والتفاني الكامل، والتجرد المطلق لفنه. يعمقها بروحه، أولاً، ثم يسعى لبيعها للناس. وفي سبيله لتحقيق ذلك، لم يكن أمامه إلا تجرع كؤوس المرارة، مرات ومرات، وهو يرى أقرانه ورفقاءه يخرجون للعالم، الشرس القبيح المعادي لكل أبناء العالم، بصدورهم العارية، وباستعدادهم الجسور لتأدية الثمن المطلوب لقاء الحياة؛ فإما عيش بكرامة ونجاح، وإما موت بإباء واستعلاء. أمَا هو، وكما قوارض الغابة، فقد آثر، دوماً، الاختباء والاحتماء، معتبراً أن سلاحه الأهم، في تلك المواجهة الدموية الدائبة، هو التدرع والتذرع. وكان لديه من الذرائع ما يكفي لسد حاجته من الانتصار عبر آلية اللعق، النجس المتواصل، لغرور أرباب وربات العطايا من المشوهين والعاطلين والمعميين عن إدراك مواطن الجمال الأصيل.

في البدء كانت الصورة؛ الشاب الريفي الفقير الموهوب، العائش في عتمة التجاهل والفاقة والنسيان، التواق إلى التعلم، الراغب في التجويد، والمدرك لآفاق ومديات وحدود ومهاوي ما ينخرط فيه من مغامرة روحية لا ينتج عنها، في الأغلب الأعم، إلا استمرار التجاهل والفاقة والنسيان.

وفي الختام، استحالت الصورة للكاتب الكبير الذي نجح، بالكفاح والجهد والمثابرة والإخلاص والموهبة بطبيعة الحال، في تسجيل هدف الفوز الغالي بمرمى الحياة.

وما بين البدء والختام، لا يتوقف أحدٌ كي يسأل بصدق:

هل تم إحراز هدف الفوز حقاً؟

ووفقاً لأية مقاييس يُعتبر، في أوطاننا السعيدة تلك، وبزماننا الرائع ذاك، الفوز فوزاً والهزيمة هزيمة؟

ثم ماذا عن الحقيقة؟

دع كل كل الآخرين يصدقون، فهل تصدق أنت؟!.

ثمة جريمة محققة، فعشق الصورة يغري بارتكاب أبشع الجرائم طراً، فيما يتشح المجرمون بأوشحة البراءة. كتاب كبار يجاهرون بالاعتراف بمشكلتهم الكبيرة مع اللغة التي بها يكتبون، بل ولربما يتباهون بذلك، ويناقشني أحدهم:

– يقول “توفيق الحكيم” عندما تحدثني عن أغلاط لغوية وتتجاهل محتوى المضمون الذي أقدمه، فإنك مثل الذي يتوقف عند إصبعي وأنا أشير لك به نحو القمر.

– هل قال ” الحكيم” هذا الكلام حقاً؟

– نعم قاله.

– إذاً كان “الحكيم” مخطئاً.

أجيب بغير وجل، ثم أتابع:

– وكيف لي أن أصعد للقمر بصاروخ “الحكيم” المعطوب ذاك؟ كيف لي أن أرى وجهه بعيني “الحكيم” المترمدتين في هذه الحالة؟

أجل، أجل، فلتقل لي يا صديقي مثلاً مثلاً:

كيف لي أن أقبل ما تكتبه، وأنت الكاتب الكبير الذي شابهت “بورخيس” في عزلته وقيامته، المترهبنة، على الكتب والمكتبات، وشابهت “آيتماتوف” في اضطراره للعمل كسائق أجير، لا لشاحنة روسية عتيقة فوق جبال “قيرغيزستان”، بل لتاكسي “لادا” قديم في شوارع وأزقة مدينة مصرية صغيرة بقلب دلتا النيل، وحتى شابهت “توماس مان” و”نجيب محفوظ” – تقول- فيما أدري ولا أدري….إلى آخر القائمة، أقول كيف لي أن أمرر، بتسليم كلي، كما يفعلون، كتابتك على هذا النحو:

– أتجول في أركان السطح.

لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يتجول في أركان السطح، لا أرجائه، ولا أنحائه!

– صوت المطر لا يزال يهطل.

حتى أصغر الصبية يعرفون، دوماُ، أن المطر هو ما يهطل، وليس صوته!

– كان الكرسي محشواً بالقطيفة.

ربما لا تعرفون أنتم أيضاً، ككاتبنا الكبير، أن الكراسي تُكسى بالقطيفة، لا تُحشى بها!

وكيف لي أن أقرأ فقرة قصيرة، من سطرين ونصف السطر لا غير، لأجد حرف الجر “في” يتكرر سبع مرات من أصل أربع وعشرين كلمة بالفقرة؟

أو كيف لي أن أجد الجملة الحوارية الواحدة قد صيغ نصفها الأول بالعامية التي لا تخالط الفصحى، ونصفها الثاني مصاغاً بالفصحى التي لا شبهة فيها لأي استخدام عامي؟

ربما هو الاحتجاج بكلمات ” الحكيم”، لا أعرف إن كان قالها فعلاً، وربما هو الجهل الذي ساد الموقف؛ الجهل المسربل بالغرور وبالتعامي، الجهل المنتشي بأهداف “شحاته أبو كف”؛ الجهل الذي أباح لأحد نقاد الأدب الكبار، ممن يحملون شهادات الدكتوراه ويشاركون في كل المؤتمرات والمهرجانات واللجان، أن يجيز لنفسه، قبل دقائق معدودات من انطلاق ندوة “بالمقهى الثقافي” بمعرض الكتاب منذ سنوات، وعلى مرأى ومسمع من عيوننا وآذاننا معاً، أن يتصفح رواية، سيعتلي المنصة، فوراً، ليحللها ويقدم لها نقداً عبقريا ما بعد حداثي، نعم، هو الجهل، لكن قبل الجهل وبعده، وبشكل قطعي، هي غواية الصورة، في عالم يتمترس خلف إرادة التفاهة، أو ربما ما هو أنكى وأمر، وما يعف اللسان عن النطق به.

 (5)

– وأنت، أية صورة ترغب في بيعها لنا عن نفسك، يا عزيزي؟

يسألني الصديق القديم، مبدياً شكوكه وتخوفاته في نزوع، مثالي تطهري، قد يرتدي ثوباً عقلانياً متفلسفاً، أو في ميلٍ، تصفوي مرائي، قد يتشح بمسوحٍ علمي موضوعي.

– ربما صورة قاتل، يا عزيزي.

– حتى لو! أليست صورة أيضاً، كغيرها من الصور؟

أطأطئ رأسي، وأغرق في الصمت، مبتعثاً صوت “أفلاطون” من الذاكرة. كم كنتَ حكيماً يا فيلسوف كل العصور حين لم تُقصِ من جمهوريتك إلا الشعراء، حين لم تضع موضع السؤال سوى الطبيعة الكاذبة المخاتلة للكلام، ثم حين أنزلت الجمال منزلة فوق العالم بأسره!.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار