في ذكرى رحيله.. حوار مع الشاعر محمود درويش

محمود درويش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

قيل لنا إنه يسكن فيما وراء تلال الزئبق المنتشرة على طول الخط الأخضر.  ولم يعثر عليه أحدٌ من صحبه القدامى. وقيل لنا بأن الشاعر المذكور يتكتم على محل إقامته في السموات،  منذ أن بدأ بمراجعة قصائده وتصحيحها من جديد. ثم قيل أيضاً،  إنه يأخذ دروساً بعلوم تفكيك الغرائز على سطوح أبراج خاصة ياليوغا،  تقع فيما وراء حقول الأسلاف المنشورة في الضواحي الخلفية من مناطق التيه الأعظم.
ومع كل هذا وذاك،  لم تدم عمليات البحث عنه غير ساعات،  بعدها وصلنا إلى القصد،  مثلما وصل هو من قبل إلى القصيدة صاخباً بدرجة عالية من الريح الصارخة من أيامه الأولى: سجل: أنا عربي.
كان الشاعر محمود درويش، مطلوباً للحوار عن الشعر والموت والخطابية والصفصاف السياسي والخطوط الحمر والقفص الذهني والمنافي المُكررة هجرةً ومهاجرين.  وموتاً وقتلى.  وتعذيباً ومعوقين لم تسلم حتى أحلامهم الصغيرة من مغادرة تلك التوابيت التي أُعدت لها مسبقاً.
عندما وجدناه في حديقة الفراشات والأشباح،  جالساً على كرسي أمام فنان مستغرق برسمه،  رأيناهُ جسداً بديناَ إلى حد ما. فلقد نال بحبوحة من الصحة.  فيما اختفت نظارته الطبية عن عينيه،  ليظهر له حاجبان أشبه بسعفتين وقع عليها فعل التشذيب للتو.
بينما كان رأسه معتمراً قبعةً من قبعات مشاهدي سباق الخيل التي عادة ما تظهر في مهرجان أسكوت السنوي لسباق الخيل في بركشاير القريبة من قلعة وندسور للملكة البريطانية.
وما أن تفحصنا الشاعر جيداً وعن كثب،   رأيناه مثبتاً ذلك السيجار الكوبي بين أصابع يده اليمنى،  بينما تأنق إلى جانبه من اليسار،  كأسٌ مترعة بنبيذ أحمر مع حبات من الفستق السوداني.
لم نتحدث مع الشاعر محمود درويش مباشرة. . تقدمنا خطوة وخطوتين،  إلى أن وقفنا خلف الرسام. استطلعنا العمل الفني للرسام الذي كان منغمساً به بلذة واضحة.
ولم ننتظر طويلاً،  فما أن انتهى الرجلُ من الرسم ومعالجة ذلك البورتريه على برنامج الفوتو شوب،  حتى ظهرت للعيان صورة مليئة بجموع من المستمعين في احتفال ما،  وهم في حالة من الهياج أمام الشاعر. اعترفنا بأن الفنان نجح بجعل البورتريه لوحة تستدعي التفكير،  بعد أن دمج الشخصي بالعام.
س/هل هي استعادة الرغبة من جديد،  ليشتبك الشاعر بجمهوره، كما تكرسها الصورة الآن؟
ج/ذلك حلم سبق وأن تحقق على الأرض،  ولا مانع من أن يتكرر بين طبقات السموات التي نحن بين صفحاتها.
س/هل لأنك شاعر شغوف بالخطاب،  أم لا تريد أن تكون وحيداً في القصيدة، فتستدعي جمهوراً يخفف عنك وطأة الوحشة؟
ج/لا يمكن لشاعر أن يدخل في مجرى الشعر دون بشر. هذا ليس اعتقاداً،  بل هو أمر قائم على جدلية الصوت والصدى كقانون ربحي،  يستفيدُ منه الطرفان،  ليدخل كل منهما من ثقب المعني إلى الرغبة التي تنتظره في أعماق النفس.
س/إذا كنت تعني بأن ثمة لذةً تُنجز لكل طرفٍ،  فما جني القصيدة؟
ألا تصبح قرباناً سيئاً لتلك العلاقة القائمة على الصوت والصدى،  بغياب قوى اللغة الجمالية التي عادة ما تستغني عنها قصائد الخطابة لتربح التصفيق فقط على سبيل المثال؟
ج/ومن قال بأن تعطيل ظل القصيدة –الجمهور- هو الشيء الذي يراهن عليه الشاعر. الفلسفة والبلاغة والمجاز والتأويل والمعاني العميقة،  قد تقدم نصاً بارعاً،  ولكنها لا توقظ الشعوب المصنوعة بالأصل من الصدى العميق لصوت القهر والرماد والدمع والأنين.
س/عندما كتبت الشعر للمرة الأولى،  هل اعتبرت ذلك انتصاراً لك أم للغة؟
ج/شعرت بأن ذلك الانتصار العفوي البريء لم يكن لي ولا للغة،  بقدر ما كان لتربة الشعر التي وجدتها تحتل جل مساحات جسدي.
س/وكيف كانت سقايتك لتلك التربة؟

ج/لم أفكر آنذاك بالطرق التي يمكنني بها سقاية القصائد،  لأن الينابيع التي كانت مخبأة في دواخلي،  كانت تفعل ذلك بشكل أوتوماتيكي. بعبارة أدق،  كان زمن الشعر الداخلي هو الذي أخذ على عاتقته تلك المهمة،  ودون أن يورطني بعمل من ذلك النوع؟
س/وهل تعتبر عملاً مكملاً للعمليات الإبداعية ورطةً أو توريطاً؟!
ج/ليس بالشكل الذي تتحدث أنت عنه. فما قصدته أنا،  أن تلك تربتي الشعرية كانت خصبة،  وربما أية زيادة بالسقاية،  ستتحول إلى طوفان يدمرني ويدمر القصيدة.
س/ثمة من يعتبر التدمير جزءاً من عملية البناء الشعري. إعادة خلق للغة؟
ج/لا. أبداً. التدمير في العملية الشعرية،  سواء الخاصة بأنظمة الشعر أو قواعده،  أو ذلك الذي يدمر من أجل التحديث في المعنى،  إنما يقوض حقيقة كون الشعر خادماً للأهداف التي نكتب من أجلها.
س/كيف يفسر لنا درويش ذلك؟
ج/كل عمل يجرؤ الشاعر على فعله ضد القوانين التي تؤسس للشعر أنظمته وترعى حياته،  يعني في واقع الأمر تدميراً للأهداف التي يقوم الشعر عليها حياتياً. الدادائيون فعلوا ذلك. ثم جاءت السوريالية لتكمل التدمير،  لتحل الفوضى بديلاً عنه.
س/ولا يؤمن الشاعر محمود درويش بضرورة تحرير الشعر من الأهداف القصدية مثلاً؟
ج/ لا استطيع الرد بالإيجاب.
س/هل لأن الشعر الفلسطيني ولد في أقفاص المقاصد السياسية العسكرية،  ولا يستطيع مغادرة تلك الالتزامات التي وجد نفسه أسيراً لها في ذلك القفص الكبير؟
ج/ليحرر لنا أحدٌ الأرض،   لنحرر لك الشعر من التزاماته الوطنية.
س/ولكن ألا يمكن للشعر أن يطور من لغته وهو حبيس تلك الأهداف السياسية التي تنال من قوة الشعر وبلاغته؟
ج/أنا فعلت ذلك أولاً،  فيما تركت الآخرين يغرقون بسياسة النص وتسيسه إلى درجة السبات. لقد لعبت بتلك الأهداف الصلبة،  وحولتها إلى نشاط جمالي داخل كل نص.

س/ربما بسبب الجمهور؟
ج/ماذا تعني؟
س/أعني إنك في البدايات،  كنت خزاناً خطابياً للشعر المقاوم، ومن ثم أدخلت نفسك في تحولات جديدة بطريقة عالية الجودة،  دون أن تحرق المراكب مع العوالم الإيقاعية؟
ج/ولماذا نهتم بحرق تلك المراكب مثلاً،  إذا كان الباطن الفلسطيني يلتهب بتلك الإيقاعات،  أو يعيش على وقعها المهلك والمدمر يومياً. الإيقاع ليس ذنباً،  ولكنه ما زال وليد الحروب المتكررة على الأرض،  ويرتبط بقوة الآلة العسكرية التي تحتل بلادي.
س/وهل وجد الشاعر محمود درويش بأن الخيال حبل غسيل واهٍ لا يعول عليه تعليق قصيدة.  لأنه شيء غير الإيقاعي،  وبالتالي فهو لا يضيف للنص الشعري أية طاقات جمالية أو تعبيرية متفوقة مثلاً؟!
ج/أنا في قرارة نفسي متمرن حيوي على حبال الخيال،  ولكنني لا أعول عليه. لأنه من الصعب عليك أن تؤسس للمستمع أو للقارئ عالماً طوباوياً،  بينما قدمه فوق اللغم.
س/كونه يُبعد عنك الناس ويُحجم كثافة التصفيق؟
ج/ليس هذا فقط،  بل لأنه يُرهق القصيدة ويخرجها عارية من ثيابها. وأنت كما تعلم،  بأن الحشمة مطلوبة عربياً.
س/ولكن الحشمة في الشعر،  هي الأمية في جانبها المظلم والمُدمر؟
ج/الحرية في الشعر نوع من الانتحار أحياناً.  تأكد من ذلك كما أقول.
س/هل هي بمثابة الشيطان برأيك؟
ج/وأهم من الشيطان نفسه،  لأنها الصيرورة التي يستمر فيها كل بناء عبر التحولات العميقة.
س/وتخاف على القصيدة فيما لو تستمر؟
ج/كل ما كتبته كان تعبيراً عن خواص ما تزال تئن في باطني. وأنا خائف منها حتى الآن.
س/خواص تعمل ضمن نوع من الديالكتيك النفسي تقصد؟
ج/أنا أعتقد بأن منشأ كل شعرية،  إنما هو صراع خفي ما بين مختلف التيارات العاطفية والسياسية والاجتماعية. ولكن الكثير من الشعراء لا يدركون أن حقيقة الشعر هي بالأصل لاهوتية. وأنا تعلمت الشعر من سفر التكوين ومن الأساطير والألواح أكثر مما تعلمته من مدارس الشعر الواقعية أو الاشتراكية أو السوريالية أو الرمزية.
س/هل من المنشأ الذي تحدثت عنه،   يرى بعض النقاد بأنك وقعت تحت تأثير وسطوة التوراة والشعر العبري وذلك من خلال استعانتك بالإشارات والاقتباسات التي تقود إلى حقيقة من ذلك النوع الخطر. هل كنت متعاوناً مع التاريخ القديم،  دون خوف من الحاضر؟
ج/لا أنكر بأنني شاعر تقمصي لمختلف الرموز والإشارات. لقد عملت على تشغيل محرك التاريخ،  وإطلاقه في كل قصيدة.  فما من شاعر يقيم على أرض يتنازعها شعبان ويبقى بريئاً. والتاريخ الفلسطيني المتداخل مع الورق التوراتي،  يضع الشاعر في مكان سحري لإغواء الكتابة بتحديث المعنى القديم.
س/ ربما لذلك قال عنك القس متري الراهب: إن درويش كان متعلقا بسفر الجامعة.  وكان ملما بالعهدين القديم والجديد إلى درجة أنه وصفك بأنك كنت لاهوتيا.
فهل تعتبر التوراة أحد مصادرك الشعرية؟
ج/قد لا تجد مفراً من أن تكون قارئاً ملتهماً لمختلف الأسفار والأناشيد والأساطير. ثم، وبعد مرحلة الهضم العظيم لمختلف ثقافات العهود الغابرة تلك،  يأتيك يوم التأليف الجديد على غرار ما لمسته من كل ما مر وما غاب من تاريخ ما بين العهدين القديمين،  وبطريقتك الخاصة.
لذلك فإذا كنت منغمساً بالتوراة،  فذلك يعني إنني منغمس بالرب الواحد الأحد. وهذا يعني أن بداخل كل إسرائيلي فلسطيني،  مثلما بداخل كل فلسطيني إسرائيلي.
س/وماذا يفعل أحدهم بالآخر. أقصد في ذلك الداخل الملتهب دماً ونارا؟
ج/نفس ما فعله الأنبياء بتاريخ الأرض من قبل. فكل نبي كتب الله بطريقته الخاصة.
الأديان على الأرض واحدة،  لكنها تختلف بأساليب وضع النصوص ليس غير.
س/وماذا عن الدم الملتهب في تلك الأجساد المتصارعة.  أقصد الدم الذي فشلت الأديان بتبريده أو إخماد ناره؟
ج/لا أتصور بأن الله سيرسل لنا نبياً من أجل أن يوجد لنا حلاً مع الإسرائيليين. لذلك فسيُعالج الدم بالسياسة.
س/ولكنك سبق وأن رفضت التفاوض السياسي مع الآخر،  كما ورد ذلك في قصيدة (عابرون في كلام عابر) !!
نعلم بأن ثمة تراجعات سجلت حول تورطك بكتابة تلك القصيدة،  ولكنها هي الأقرب للواقع من كافة أشكال التفاوض مع إسرائيل. فـ ((يوسي ساريد هو وزير التعليم الإسرائيلي السابق الذي اقترح في الكنيست عام 2000 تدريس قصيدتين لدرويش اختيارياً في مناهج التعليم الإسرائيلية.  ذكر في الحفل أنّ الشاعر الراحل عبّر على مسامعه عن «ندمه» لكتابته قصيدته «عابرون في كلام عابر» في 1987،   و «تبرّؤه» منها،   لأنه لا يحبها وكتبها في «لحظة غضب،   وحقّ الغضب مكفول للجميع».  وكما قال ساريد: أن درويش أبلغه: «أنتم لن تذهبوا إلى أي مكان،   مثلما أننا لن نذهب إلى أي مكان.  نحن هنا لنعيش معاً)).
ج /ما وجده النقادُ بشعري من تعابير وجمل شبه كاملة كمقاطع من كتاب التوراة،  إنما كان استخدامها بهدف تحطيم نرجسية الفلسطيني كمالك وحيد للأرض. فأنا أعتقد بأنك إذا ما قمت بفحص الحمض النووي ((DNA)) لتربة فلسطين،  سيظهر لك وجود طين جُبلَ بدم مشترك،  وبذاكرة موصولة بالجانب الآخر من السكان.
س/هل تعتقد بأن على الشعري أن يفاوض قبل السياسي؟
ج/بكل تأكيد. فالشاعر قد يتضمن السياسي بشكل مطلق،  ولكن السياسي لا يحتوي الشعري أو يتضمنه. بعبارة أدق:في كل شعري نواة سياسية،  فيما من النادر أن تجد عند كل سياسي نواة شعرية.
س/ولكن على من يفاوض الشاعر عادة؟
ج/على تدفق كلماته في التربة،  من أجل أن لا يكون الوطن طيناً فقط.  نريده قبل ذلك لغةً يكثرُ فيها العسلُ والزنبقُ والحبُ. لغة غير قابلة للمحو.
س/هل يُشغل بال محمود درويش موضوعُ العدم كما نجد ظلال ذلك في نصوصه؟
ج/أعتقد بأن موضوع الموت أو العدم،  إنما هو حاضن استراتيجي لكل نص يحاول البقاء في ذاكرة الشعوب أطول فأبعد. فالشاعر،  وإن يستنكر التدخل المباشر للفلسفة في الخلايا الشعرية،  لكنه طالما يختبر لغته من خلال الحضور الخفي لتلك الفلسفة في الشعر.
لذا فتذكير الحياة بالموت،  هو حضور للروح أو تحضير له،  كي يكون الروح مع بقية مواليدها في عمق النص،  مثلما هو طيوف موجودة في بعض مناطق الجسد الفريدة.
س/هل تعتقد بأن الشعر عدمُ العدم؟
ج/هذا صحيح. ولكنه يتحقق بشكل شيطاني لذيذ.  فليس أعظم من العدم الشعري في قارئ غبي عابر. وليس أهم من أن يلف العدمُ مخلوقات طاغوتية كريهة،  تنجبها أنت في النص،  ولا تعرف كيف تتخلص منها،  لأنك لا تريد ممارسة أي نوع من الجريمة ضد خصومك داخل اللغة.
س/ألمْ تمارس الجريمة في تاريخك يوماً؟
ج/كل كتابة كما أعتقد،  هي نوع من أنواع الجريمة،  أحياناً بحق الحب،  وأحياناً بحق الدين أو التراب أو اللغة أو الشيطان أو سفر حزقيال.
س/ثمة من حاول النيل منك،  وأسماك قاتلاً للفنان ناجي العلي. أليست تلك جريمة؟!
ج/التفاصيل والشروح التي عادة ما كان يهمش بها رسومه الكاريكاتورية هي من قتلت ذلك الفنان.
س/وليس النزاع الذي كان بينكما مثلاً:أنت تحت عباءة الزعيم عرفات،  وهو تحت خيمة المنفى التي كانت بلا سقف؟
ج/ليس أمامي إلا احتقار تلك الظنون والاتهامات. محمود درويش لا ينكمش أو يصغر أمام كائنات ذبابية ليس لديها ما تفعله غير صناعة الطنين ونقل مكروبات الأمراض.
س/وهل تخاف على الشعر من الأمراض؟وما هي برأيك المكروبات الأشد خطراً على الشعر؟
ج/سوء الفهم.
س/هذا يقودنا إلى الوقوع في فخ التبسيط الذي هو في جوهره قتل للنص،  مقابل لذة التصفيق.  فهل يسعى درويش إلى إدامة الشعر الخطابي،  وتكريس عبودية من نوع خاص.
ج/العبودية التي تحدثت عنها،  تعبير جميل. وهو ما سأمضي به حتى في هذا العالم الآخر. فقد لا يحتاج الشاعر في بعض الأحايين إلا إلى قارئ غبي ومستمع كامل الدسم بالأمية.
س/يعني أنت تختار الأيادي وتنفرج بالعقول الفارغة مثل قناني الكوكاكولا؟
ج/لقد منحني تصفيق المتلقين السياسيين وفاقدي الحريات بطولات يحلم بها كبار الشعراء. بعكس المثقفين تماماً. فهؤلاء سرعان ما يتحولون إلى نقاد يحملون بأيدهم السياط لجلدك والاقتصاص من النص حتى لو كان من تأليف الملائكة.
س/ولكن ألا تعتبر نفسك كبيراً بما فيه الكفاية؟!
ج/ما من كبير ويتنازل عن كومة الأحجار التي يقف عليها منتشياً وهو يلقي بشعره. الارتفاع الأدبي ضرورة لا يمكن أن تكتمل إلا بسذاجة عوام الشعوب وبساطتهم المتناهية.
س/ألا يحمل هذا الرأي شيئاً من التحقير للمتلقي؟
ج/لا يمكن للشاعر أن يتعامل مع القوى الباردة –أقصد المتلقين- باحترام فائض القيمة. عليك أن تكون مهيمناً ليس على الكلمات وحدها،  بل على من يحملون تلك الكلمات في نفوسهم أيضاً.
س/ الحمّالون العبيد!!
ج/ليس بذلك المعنى الدقيق،  ولكن من يتعامل مع شعري،  على ظهره أن ينوء بحمل ما في الشعر من صخر وأحلام ومشانق ورصاص ومراكب.
س/هل أوصلتَ صخرتك إلى أعلى الجبل كما تعتقد؟
أم صخرتك شبيهة بما كان عند سيزيف،  ما زالت بتساقط مستمر لتعذيب القدمين؟
ج/أنا لم أحمل صخرة شبيه بصخرة سيزيف في يوم ما. أضحك من كون الأخير،   مارس التعذيب المازوخي بحق نفسه. كان عليه أن يحمل الصخرة الكبيرة بخياله،  وينقلها صعوداً،  حتى تكتمل المهمة. ويقبض جائزة العتالة.
س/ولكنك قليل الإيمان بالخيال،  ولم تجعله يوماً ركناً من أركان شعريتك! فكيف تطلب من سيزيف ذلك الفعل،  وتحجره على نفسك؟
ج/الخيال بئر علوي بلا حدود،  وأنا طالما خشيت من التعامل معه بحذافيري الشعرية. الخيال نظام اللا نظام. إنه متعة تجعل اللغة طيراً لمحاكاة الأساطير المبتكرة. فيما شاعر اليوم محطم،  ويكاد يعيش على فضلات الواقع وحدها.
بعبارة أدق،  الواقع الضيق المر العدمي عند شاعر اليوم،  انتزع منه الخيال بشكل مبكر،  لا بسبب صعوبة مدارسه،  بل لأنه يشكل نوعاً من الاضطراب للنص. الناس في عالمنا العربي غير خياليين،  ولا يؤسسون حياتهم الأدبية على أسس من ذلك النوع.
س/أليس من مهمة الشاعر أن يقود القارئ إلى عوالم التنبؤ والحلم؟
ج/ذاك كان في زمن العالم الرومانسي. يوم كان الهدوء والحب من سمات العصور القديمة،  وليس كما تتطاير الرؤوس بحق في الشوارع. العصر الدموي هذا،  لا يعني غير استشراف للموت الكلي. المدن العربية راهناً،  لا تنجب غير هلاك سكانها بشكل مروع وعام.
س/هل تعزو ذلك بسبب الرياح الناهضة من المدافن الأصولية أم ماذا؟
ج/أجل. فالإسلام السياسي سبق جميع ديانات الحضارات في التاريخ،  بدءاً بالحضارة السومرية والمصرية القديمة والفينيقيه والاغريقية والرومانيه،   وذلك عندما حقق نقلة نوعية في العنف والتقتيل لا مثيل لها عند شعوب الأرض من قبل.
نحن لم ننس بأن مختلف الديانات وحركاتها السياسية،  قد مرت بمراحل وصراعات،  ولكنها لم تكن بهذا القدر من العنف المخيف والإبادة العلنية التي يمارسها الأصوليون والتكفيريون والجهاديون والحماسيون اليوم.
س/هل تعانون في السموات من أوضاع شبيهة بما يعانيه أهل الأرض؟
ج/أجل. فبعد أن حاول البعض ابتكار ديانات جديدة خاصة بأهل الجنة،  لم تلق دعواتهم تلك إلا الاستهجان،  لأن الناس هناك يعيشون في ثمالة مطلقة،  لا تعكرها سيوف المذاهب ولا تحط من شأنها أفكارُ شياطين الفراديس الجدد،  ممن تم القبض عليهم وأودعوا جهنم بشكل قانوني.
س/وأين محمود درويش. .  هل هو في الجنة أم في النار؟
ج/ما زلت في المنطقة الوسطى كما ترى. لا هنا ولا هناك. فالشعراء الذين هم من صنف الشيطلائكة،  عادة ما يتم الاحتفاظ بهم في الترانزيت الإلهي الذي نحن فيه الآن،  وإلى أن تكتمل صورة كل منا عند ربه.
س/هل ارتبطت بعلاقة حبّ مع حورية في هذا المكان؟
ج/ليس بعد.
س/ربما وجدت من ينتقم منك الآن، من كثرة قصص الحب التي عشتها على الأرض؟
ج/ومن قال لك بأنني عشت حباً أرضياً،  ليُطرح عليّ سؤلاً بهذا الحجم؟
س/لكن تاريخك الأرضي،  كان ممتلئاً بنشاط لتجارب غرامية وجنسية كما كانت الوقائع تشير!!
ج/لقد دخلت مراثون من التجارب المختلفة،  دون أن أحصل على حب بالمعنى الشمولي. كنت هدّاماً سريعاً لكل ارتباط غرامي.
س/لماذا جرى ذلك؟
هل بسبب نرجسيتك التي ربما تتفوق بها على نرجسية المرأة مثلاً؟!
ج/قد يبدو هذا الاستنتاج صحيحاً. فالشاعر الذي كان بداخلي،  إنما هو بتكوينه الأعظم أنثوي،  بما يمنع المرأة من أن تتمترس في مناطقي العميقة.
س/وتلك الزيجات.. هل كنّ ضمن ملف التجارب الفاشلة أيضاً؟
ج/لقد ورثت الفشل في الزواج من نجاحي في الشعر. وبالاختزال،  فانا لم أتزوج غير واحدة:رنا.  ولكنها لم تخلصني من حداثة نرجسيتي وضلالاتها،  فانتهيت والحب بشيخوخة مبكرة.
س/ولكنك في ردك هذا تخون للمرة الثانية والثالثة والرابعة زوجات أخريات؟
ج/يمكنك اعتبار البقية من ((حريم السلطان)).
س/هل تعتبر الحب كابوساً مرافقاً للشاعر. يفرض السيطرةَ عليه تأليفاً وتعشيقاً حتى حدود الدمار؟
ج/ليس كل حبّ قابل للتحول إلى كابوس من النوع الذي تتحدث عنه.  ولكن لكل امرأة من النساء نون نسوة خاص بها. وتلك هي الشيفرة التي على الشاعر فكّ رموزها وإشاراتها وأرقامها.
س/وماذا بعد عمليات تفكيك تلك الشيفرات مثلاً؟
هل تستعيد النون عملها بأجساد النسوة؟!
ج/عند يتمكن الشاعر من بلوغ تلك المرحلة،  سيحدث التطور الأعظم في العلاقة ما بين الطرفين،  وذلك من خلال حضور القوّة السامية التي تدمر الجسدين،  ومن ثم تعيدهما في جسد واحد مشترك لممارسة مختلف الألعاب.
س/وأين سيكون الشعر من تلك الحالة:تحت السرير؟
ج/نفي الحب عن الأمكنة الخطرة كالشعر أمرٌ صعب. لذلك فأنا أجد الشاعر من المنتمين المبكرين لتلك الجينات الخاصة بالحب وتوليفات الغرام. فالحبّ يتعلّم من الشعر كيف يكون بليغاً ومؤلماً ولذيذاً وشفافاً وصاحب كآبة نبوية.
س/ألا تعتقد بأن هدف الحب في الشعري،  إنما يتعلق بشأن واحد،  هو توفير الاضطراب للشاعر كطاقة،  تخدمُ في أثناء عمليات الخلق؟
ج/الاضطرابات الشعرية التي تحدث في أثناء عملية التأليف،  ليست حذلقة،  بقدر ما هي تصحيح لمسار النص من الانحراف عن السلوك الواقعي،  أو السقوط بالركاكة.
جلّ شعري استفاد من تلك الاضطرابات التي مررت بها في حياتي،  فكنت أكتب كل يوم بمعنى مختلف عن الآخر.
س/ هل أسست لعلاقات نسويه في العالم الآخر. هنا؟
ج/لا أبداً. فما زلتُ مصدوماً من موتي المبكر؟
س/ولكنك الآن أقل ألماً وخوفاً مما كنت فيه هناك:الدنيا !
ج/لا تظن ذلك. فأنا ما زلت مرتبطاً بآلامي حتى اللحظة. وإذا كانت الدنيا لغماً سيحمله الكائن البشري معه إلى مثواه وحتى يوم يبعثون،  فأن الآخرة بكل ما تحمل من مشاريع وتفاصيل وعقوبات محتملة،  ستكون مكاناً قابلاً للتفاوض.
س/للتفاوض مع الله؟!
ج/ أجل. فالربُ لا يستنكف من الاستماع لشكاوى كائناته التي خلقها على الأرض،  سواء النملة أم الديناصور. مارغريت تاتشر أم هند رستم.  ستالين أم الجاحظ.
عالم الموتى زاخر بالعظماء وبالمختلفين أكثر مما هو في خزائن عالم الدنيا الآن.
س/ هل ترابطتَ في علاقات مع أرواح هؤلاء؟بل ومن هو الأقرب إلى قلب محمود درويش في منازل الآخرة؟
ج/ لم أحصر علاقتي بواحد منهم. لذلك فأنا هائم بين الجموع،  وأقرأ عليهم قصائدي،  فيما هم يبكون،  نادمين على زمن أنفقوه من حياتهم على الأرض. لكن هذا لم يمنع من تطور علاقتي بالسيد فرانز كافكا وحافظ الشيرازي.
س/علاقتك بكافكا قد لا يزاحمك عليها أحدٌ،  ولكن توطيد الصداقة بالشيرازي،  سيثير غيرة الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي كان غارقاً بحبه لذلك الرجل. ألم يحدث شيء من ذلك القبيل؟
ج/لم أتلمس شيئاً من ذلك. فأنا والبياتي لم نلتق بعد. سمعت إنه ما زال ضالاً يبحث وراء جلجامش في الطابق الخامس من تلك السموات. أعتقد بأن الشعر هو من يدفعه ويدفعنا لبلوغ مراحل التيه القصوى في كل زمان،  مهما استبدلت الجغرافيات أثوابها من الأمكنة.
س/ هل ثمة وجود للمدن في هذا المكان؟
ج/لا أرى أهمية للشعر دون مدن. لأن الشعر والمدن طرفان يتبادلان الأدوار نفسها في منح الشاعر الطاقة للخلق. أنا مغرم بالمدن.
س/ومن المدن الأهم عربياً:القدس. بيروت. دمشق. بغداد ……؟
ج/بيروت هي الأقرب حتى الآن. أنها مدينة بأكثر من قلب وبأكثر من سماء. وقد وجدت فيها ما فوق الدفء.
س/سريراً أم سلطةً؟!
ج/بيروت قتلت المنفى في رأسي وفي جسدي. هذا كل ما يمكنني التعبير عنه. وعنها كطبيعة للتجليات وكمفتاح للعبور من ممر النفس الضيقة إلى مساحة الشعر الشاسعة.
س/هل ترى الشعر منجزاً أو مُحققاً للرغبات وحدها؟
ج/الشاعر جامع مهووس للشهوات،  ومستهلك سريع لها. فكثيراً ما نأخذ نحن دور هواة جمع الطوابع فيما يخص كل رغبة تتعلق بوفرة الجمال.
فالشعر كما أرى لا يشبه إلا الطاحون في أعماله،  قلقهُ يلتقط ويفتتُ حتى حدود الطحن والذرى.
هذه الفلسفة الشعرية،   قد تبدو غامضة في بعض الأحايين.  ولكنها جزء فني لا يمكن للشاعر التخلي عنه. لأن الشاعر مستهلك أول للرغبات كونياً. وكأن أصل الرغبة شعر بالأساس.
س/ألا ترى بأن الشاعر يفعل كل ذلك لأجل التخلص من التراكم الشعري؟
ج/ الشاعر كما أعتقد،  هو خلاصة شعراء وفنانين وفلاسفة وعشاق مروا على الأرض أو اخترقوا الذاكرة. إنه بالضبط،  تلك التربة صاحبة الجيولوجيات المتعددة التي وإن تحمل فلزات مختلفة،  لكنها تعد جوهر النار. لذلك فلا أضمن بأن كل شاعر يستطيع التخلص من التراكم الشعري للأسلاف. ثمة شعراء يعاصرونك بالقوة السلفية دون تدخل هام للحداثة في ما يكتبون. وهناك أيضاً،  شعراء رؤيويون قطعوا كل مشاركة مع الماضي،  منتقلين إلى المستقبل،   ومغامرين بالكتابات التي لا متن لها ولا سند ماضوي.
س/الشاعر شيطاناً. . هل يوصف بمثل ذلك العنوان الأرضي في الآخرة؟
ج/ليس أشدّ كثافة من وجود الشعراء في الفراديس.  لأنه كائن تنبأ. ولأنه صاحب سلسلة من التجليات والتأويلات الخارقة التي كسرت التابو الديني،  وأدخلته بسباق مع رجال اللاهوت وكتّاب المذاهب،  وذلك عندما تناول موضوعات ما في الجنة والنار،  بما سمح للظلاميين النيل منه،  باعتباره خارق لتلك الأسرار التي تعد من الخطوط الحمراء.
س/ تعني أنه من الفائزين بأكبر كتل الذنوب التي عادة ما ينالها مالكو الجرأة الزائدة؟
ج/الذنوب التي يتحدث عنها أهل الأرض هي غير المُصرح عنها هنا.  ويبدو أن اللعنة قد انتزعت عن الشاعر الشيطان تماماً.
س/تعني إنك مُفرّغ من ذنوبك الآن؟
ج/هذا إذا كنت مذنباً.
س/هل تتم للشعراء عمليات تنقيح من الذنوب هنا مثلاً؟
ج/ربما. ففي هذا العالم الآخر،  ثمة قوة لمنع تمدد العقل السلفي للسيطرة على طقوس الجنة،  أو استعباد البشر بظلاميات التفكير التدميري في مختلف الفراديس الأخرى.
القوة تلك،  تعمل ضمن مبدأ(من خرّب الأرض بسوء التأويل والتحليل الضالّ. . لا يمنح سلطة لتخريب السماء حتى لو كان وزن عمامته طناً ).
س/هذا يبعث الطمأنينة في قلوب الشعراء. ويُحسن موقفه من كل ما قيل ضدهم بواسطة النقد الديني. هل تعتقد بذلك؟
ج/ الشعر بظني محركٌ للجوهر الإنساني ورافعٌ لقيمة المخيلة في تشكيل الوجود وصناعة أدواته. وهو إن بقي حيّاً وناشطاً في مهماته المشار إليها،  سيقوم ببناء عالم موازٍ لعالم الخارج في داخل الإنسان ذاته.
س/ولكنك غير ممعن بالخيالي في شعرك. فهل ذلك يعني أن قيمة الشعري اللاخيالي ستنضب سريعاً،  لتتحول فيما بعد إلى تراث كتب فقط؟
ج/ثمة من يراهنون على أن شعري في غالبه العام،  ليس غير بناء سياسي مغلف بالفن،  وإن جمالياته سرعان ما تزول بزوال الأحداث.  ربما سيحصل ذلك في بعض مفاصل شعري،  ولكنه لا يُعمم على كامل تجربتي الشعرية،  ذلك لأنني حاولت أن أكون حارساً للصورة وللجماليات التي يتضمنها المجاز والبلاغة والروح الفلسفية التي تقدر على أن تُبقي النار في القصيدة ملتهبةً بشكل مقنع،   بحيث لا تضطرني لغتي تلك إلى الخوف على جسد الشعر من البرد.
س/وجسدك الآن؟
ج/ما زلت مريضاً. ولم يشف قلبي مما كان فيه من علل.
س/ألمْ تجد راحةً في الموت ولا في ما بعده؟! ألا يبدو الأمر عجيباً؟؟
ج/الموت ختمٌ،  ما أن تُمهر به ورقتك عند نهاية الخط الفاصل في ذلك البرزخ،  حتى تطير ضاحكاً،  وأنت تتعقب روحك بين أكوام الغيوم.
س/هل يحدث ذلك ضمن فوضى عظيمة لمختلف الأرواح مثلاً؟
ج/لا.  لا.  فأرواح الشعراء،  لهم خط خاص،   يبدأ من برزخ اللغة وحتى محطة التيه الخاصة بقراصنة الصور وبالنبوئيين وأصحاب المخيلات المخلوعة الأبواب والنوافذ.
س/لقد اختفيت عن الأرض دون أن تكتب قصيدة النثر. هل ستراجع قرارك وتكتبها هنا؟
ج/ ربما. ولكن ليس قبل تحويل أوراقي إلى مفتي الجحيم.

 

مقالات من نفس القسم