فى شريعة القطة .. كل شئ مباح

محمد عبد النبي: الترجمة تشبه أحياناً التبرع بدم الكتابة للغرباء من أجل كسب الرزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد النبى

في روايته " شريعة القطة " يواصل " طارق إمام " تعميق تجربته الإبداعية، المعتمدة أساسا على اللعب بالصورة المتخيلة، ليس كمجرد تقنية، من بين تقنيات أخرى، ولكن كآلية محورية فى إنتاج النص، وإنتاج الدهشة بالقدر نفسه.

لعل البحث عن روابط، وضاحة أو خفية، بين عالم النص وما اصطبحنا على تسميته بالواقع، يعد عملا بعيد الصلة هنا بدرجة كبيرة. فمنذ السطور الأول يعيد الراوي ترتيب أوراق عالمه الموازى، او على الأحرى يعيد تعريف المفردات وتسمية الأشياء، وكأننا بإزاء سفر تكوين من نوع مرح وطريف، ينتزع كل معنى عن الضحك والبكاء، فلا يعود ثمة فوارق حقيقية لدى القطة بين الألم واللذة، وهى – القطة – الشخصية الرئيسة، شبه الإنسانية، والكارتونية بامتياز، تعاود الظهور والاختباء على مدار النص.

بعد أن يخبرنا الراوي في الصفحة الأولى من الرواية أن سائق القطار العجوز قتل جميع الركاب، يعود فيقول: “كان القطار خاليا منذ خمسين عاما. سائق القطار إذن قتل أشباحه الخاصة.” والجملة الثانية هنا هي صوت الراوي، بديلا عن المتلقي، فكل شيء بسيط وواضح وفى غنى عن الإيهام بوجود بعد ثالث خفي، أو عمق موحى به، ولا مساحة تتسع للتأويل. الجملة الثانية هي هي تلك النجوم الملونة والعصافير المزقزقة التى نراها فوق رأس القط بعد أن يضربه الفأر على نافوخه بالمطرقة فى “توم آند جيرى”. ثم تأتى بعدها مباشرة الجملة التالية: “رغم ذلك بدا جديدا وهو يواجه نفسه الآن باعتباره قاتلا.”، لتمنح الخيال والافتراض السلطة الحقيقية منذ البداية، على حساب الفعل الملموس والمادي الذي فقد كل دهشة، وربما فقد أيضا كل فعالية له فى “الواقع”.

****

كان للسريالية بيان، شأنها شأن الشيوعية، كان لها هدف وطموح فى توسيع رقعة الوعي الإنساني، و”استغلال” كل مستويات هذا الوعي، من أجل تحرر حقيقي للذات. وفى رواية شريعة القطة روح سريالية صريحة، لكنها جاءت متحررة من قيود الوظيفة التاريخية لها، أى بلا أى عتاد سياسي أو اجتماعي من أى نوع. لكنها، فضلا عن ذلك، تتبنى مسلكا مثوّرا للخيال وتتكئ على السخرية الفاقعة، والتمرد على الذائقة الجمالية المطمئنة، دون أن تتورط فى سجال سياسي ولو من بعيد، وعلى الرغم من هذا فمن الممكن لمحترفي “فك الشفرات” إسقاط الكثير من تفسيراتهم الجاهزة على مجموعة الألعاب البصرية الجريئة التي تشكل فقرات الرواية، ولو تمثلنا صوتهم، من قبيل اللعب، لتحدثنا عن إدانة المؤسسات، مشيرين إلى “المصنع والدير”، وربما هموم فقدان الهوية، أو دلالة موت الأسئلة الكبرى، وبالطبع التسليع، إلى آخره.

لكن الشفرة، إذا كانت ثمة شفرة من الأساس، تبقى ساخرة من كل محاولات التأويل الجادة والرصينة، مثلها مثل القطة نفسها، على مدار النص، بسبعة أرواح، حتى ولو ظننا أننا أكلناها وهضمناها ستعود فى شكل آخر، وصورة جديدة، لتشاكس وتسخر، هذا لأن للرفض ألف وجه وألف صيغة، وليس شكلا جامدا ومنتهيا ومعروفا سلفا، وهو بالتالى متوقعا ويمكن تأطيره وتدجينه والتخلص منه.

وهكذا جاء التركيب المراوغ لفقرات الرواية أقرب إلى تصدع سرطاني، أو مجموعة متناثرة من أوراق اللعب، تتيح للقارئ، قارئ مرح ولعوب مثلها، أن يعيد ترتيبها وتركيبها، ومن ثم قراءتها مرات عديدة، هذا على الرغم من الفقرات الأولى وما أوحت به من بداية ما، أو جو تكويني وتمهيدي ما، يتجه نحو نقطة وغاية محددة.

كل فقرة تكاد تكون بنية مكتملة فى ذاتها، لها عنوانها الفرعي الخاص، أو ربما لا يفصلها عن جارتها سوى فاصل إشاري، كما فى النصف الأول من الرواية، يسلم الراوي خلالها كثيرا زمام السرد لآخرين، ليتكلم الشيطان أو ملاك الموت، وبالطبع القطة نفسها.

****

فى حديثه عن الواقعية، أشار جورج لوكاتش إلى مشهد كفاح دون كيخوته ضد طواحين الهواء باعتباره فعلا لا يحدث فى الحياة اليومية، غير أنه مع ذلك من أنجح الحالات التى صيغت حتى الآن وأكثرها نموذجية، بما أن النموذج يقتضى هذا السمو على “الواقع اليومى”. ونخطئ – فى ظنى على الأقل – إذا اعتبرنا كتابة سردية مثل رواية شريعة القطة تطمح إلى صياغة نموذج يلتهم الواقع بداخله ويسمو عليه، بل إن آخر ما تريده هو إنتاج أمثولة محكمة مختزلة وطيبة. الكتابة هنا لا تعرف حدودا فاصلة واضحة ما بين ما يسمى واقعا وما يسمى خيالا، وفى عالم الكارتون – كما فى عالم الأحلام تماما – يمكننا أن نسقط من ارتفاعات شاهقة، ثم ننهض دائخين قليلا. وحسب هيراقليطس فإن الأيقاظ ينتسبون إلى عالم مشترك، أما النائم فينصرف إلى عالمه الخاص وحسب. بقى لنا أن نتساءل أيهما أكثر هشاشة: عالم الأيقاظ أم صور الحالم؟

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم