فى ذكرى ميلاده الـ 74.. رحلة “نور”.. الشريف

نور الشريف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

الجان والجان بريميير متعدد الكاركترات، فحتى تلك الأبعاد الإنسانية ولغة البساطة والحكي مع رجل الشارع وتصويره مجانا..كلها جوانب إنسانية عظيمة مخفاة عن جماهير ومشاهدي وعشاق فن النجم الكبير المحبوب ظلت وستظل من أهم الأسرار التي حجبت عن الجميع من الوسط الفني وخارجه.

نور الشريف الذي قابلته صدفة في العام 1989 أمام مبنى الأهرام القديم. كنت في إجازة قصيرة من عملي كمحرر صغير يعمل بالصحافة الفنية والثقافية، كنت مشدوها برؤيته وجها لوجه، غير مصدق، بعربة فولفو نبيذية اللون توقف بعدما جريت إليه بوله وكان ممسكا بنسخة من رواية “قلب الليل” لكاتبنا العظيم أديب نوبل نجيب محفوظ، قدمت له نفسي ليقول لي في عجالة: “مكتبي هناك آهوو في عمارة النهضة على رأس شارع رمسيس”.

حدثته بجرأة عن ضرورة إجرائي لحوار معه فمن الممكن أن يكون هذا الحوار سببا في تعييني بتلك الجريدة الوفدية التي كنت أعمل بها محررا ثقافيا وفنيا، رفض نور في البدء، وتجهمت وحزنت فقال لي: نحاول مرة أخرى، أشوفك في مكتبي _n b للإنتاج السينمائي.

وأشار ولوح بيده اليسرى قبل عمارة النهضة بشارع رمسيس، حزنت بعد رفضه وتعلل يومها بعدم تفرغه لأنه داخل تجربة إنتاج جديدة في مغامرة فنية مع محسن زايد لإنتاج رواية “قلب الليل” المولع بها كثيرا كنص فيه صورة سينمائية عميقة وأبعاد فلسفية متعددة الرؤى..حصلت على تليفونه يومها، وباغته بعده باسبوع بمكتبه، فقال لي: عندي لك مفاجأة طالما أنت مولع وغير حذر هكذا فيما يخص طموحاتك وأحلامك في السينما والأدب

قال نور: مارأيك لو عملت بالمسرح؟

وقابلني بالمخرج منير راضي الذي عرفني بسيد راضى المخرج المسرحي الكبير الراحل الذي وفور سماعه لصوت نور عقب المهاتفة قال له: تؤمرني..نشغله

وعملت في أول تجربة كمساعد مخرج مع بوسي زوجة الراحل ليزورنا “محمد جابر” في يوم الافتتاح بعد حضوره يوميا لمراقبة العرض والتقاطه لمئات الصور الفوتوغرافية..جريت إليه وقلت له: هل تذكرني يا أستاذ، فقال: نعم يا حسين يا صعيدي وبورسعيدي!

وأضاف بعدما وشوش بوسي في أذنها: بوسي بتحبك أوي وشد حيلك علشان هي مرشحاك تسافر معهم بيروت لتعرضون النص هناك “دلع الهوانم”.

واستدار ليلتقط لي خمس صور من زوايا مختلفة وصورا أخرى عقب انتهاء العرض لكافة المشاركين في العرض حتى العمال كان مصراً على تقديمهم في أول الكادر.

وتوالت اللقاءات في ترعة المريوطية في منزل البهي الفنان الأوبرالي حسن كامي.وضحك نور وسعد بوجودي وكانت معه صحافية مصرة على إجراء حوار معه لمجلة الإذاعة والتليفزيون.كانت تطارده منذ شهور ولضيق الوقت كان يعتذر أيضا.

في هذا اليوم سجل الحوار للصحفية الشابة القادمة من صعيد مصر وخاصة بعد معرفته بالضرورة الملحة لتعيينها مباشرة من خلال حوارها مع النجم الكبير..ربت على كتفها وذكر إياها بالقول وهو يلتفت لي: حسين دا نفسه من زمان يجري حوار معي..الآن من حقه زيك أسجل معاه.

واقترب مني بحنو ليردد: كلكم كده انتهازيين وكله عايز يتعين.

ضحكت، وبالفعل تعينت المحررة بعد حوارها مع نور بشهر فقط بمجلة الإذاعة.

وقلت له: عارف إن حضرتك بتحب فيلم “حدوتة مصرية”، فقال طبعا من أهم أفلام يوسف شاهين سيرته الذاتية.

قلت له:أنا أعشق اغنية منير حدوتة مصرية.قال: وكلام عبد الرحيم منصور.

قال نور والضحكة تملأ وجههه البشوش وملامحه المرحه.غني له حدوتة مصرية يا حسين..غنيتها فبكى وبكى ضياء الميرغني وتركت بوسي الأرجوحة في حديقة فيلا حسن كامي لتستمع بإنصات وتراقب دموع زوجها الذي نهض واقفا وأشعل سيجارة في ركن منزو مظلم.سهرنا للفجر وعاد ليحدث الممثل ضياء الميرغني عن ضرورة التنوع في الشخصيات التي يقدمها وإلا سيحرق نفسه ووافقه سيد راضي الرأي.

وفور انصرافنا، كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا ركبت مع ضياء الميرغني وفتح نور سيارته ليفاجأ بسيدة عجوز تجر عربة خضار جهة ترعة المريوطية، كانت عربته تسبقنا وزوجته. ترك السيارة وقصد العجوز في ظل غبشة صيفية..وتوقفت كافة السيارات على ممر عبور الترعة.ونزلت أتلصص من خلفه أتابعه.لأراه وهو منحني يربت على كتف السيدة التي تشي ملامحها بتخطي الخامسة والسبعين تقريبا.لا نعرفها ولا هو أيضاً، بعثها القدر في طريقه.ضرب يده في جيبه الخلفي وأخرج حزمة نقود من جيبه الخلفي..ثم عاد للسيارة وتناول مبلغا آخر من المال من طابلون الفولفو.وضعه في يدها وضم كفيه على كف السيدة العجوز فبكت وقت أن دفعته بحب وقد طفرت الدموع من عينيها كنهر منسال ليدفع عربتها الكارو بيديه وأنا واقفا مشدوها بجانبه. يومها أحسست بجمال الدنيا والأقدار التي ساقتنا في هذا الطريق.

طلب من ضياء توصيلي لمنزلي بالعباسية.

وذهبت بعد شهر تقريبا لاجري معه حواري القديم فقال لي: لولا رفضي لإجراء هذا الحوار من قبل ماكنت قد تركت أنت بلدك، حدثني عن بورسعيد يا عبد الرحيم

قلت: حدثني أنت يا أستاذ.

قال: هل تعلم أنه وقت القطيعة العربية مع مصر كانت عودتي من بيروت عن طريق ميناء بورسعيد، دخلته ليلا في العام 1978 ونا بحب البلد دي..كل الطرق مقفولة وبعد كامب ديفيد..وصمت نور لدقائق طالت لعشر..لكن..مش عارف أقول إيه..ياترى السادات خطأ..ولا أحسن الصرف بتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل.

تعددت اللقاءات بيننا.حتى زياراتي الصحفية لإجراء حوارات معه، كانت دائما ماتكون في التاسعة. يستيقظ مبكرا ليقرأ كل الصحف..ووجدته ممسكا بجريدة الأهالي.وحزين لزيارة مبارك للعاصمة البريطانية لندن في ذكرى العدوان الثلاثي على مصر وبورسعيد. وعلا صوته وزعق في المكتب وسمعت من يقول له..شخص لا أعرفه: يااستاذ دا تقديمك لفيلم الكرنك داا ضد رأيك الذي سمعته من دقائق. فرد نور الشريف: موقف الفنان الحق لا يمين ولا يسار ولا وسط..الفنان رسول للعدل وصاحب رسالة وداعي للحق والخير والجمال وأنا مدرك جيدا طبيعة دورإسماعيل شيخون في “الكرنك”.

تحدث ذلك اليوم كثيرا نور الشريف.وكان حزينا لعدم إقبال الجماهير على فيلمه “قلب الليل”.وجاءه تليفون على الأرضي من عاطف الطيب..وذكر له الطيب رحمه الله.ماقاله المنتج العظيم والسيناريست مطيع ومحسن زايد: قول لنور دا مش فيلم جماهير.ومن الأول أنا متأكد انه لو صمد اسبوع في دور العرض يبقى عظيم.وهاهو الفيلم يعرض للأسبوع الثاني

ضحك نور فباغته بسؤال عن “قلب الليل”، فقال: كان حلم من أحلامي..جعفر الراوي كان واكل دماغي، رواية من أهم الأعمال الفلسفية للأستاذ نجيب

انتج نور بعد ذلك ومع شركة فن للإنتاج السينمائي اللبناني فيلم “ناجي العلي” مشاركة مع وليد الحسيني لتقوم الدنيا ولم تقعد على نور وما قدمه من إساءات للأنظمة العربية كافة.وهاجمته الصحافة وجيش له الجيوش إبراهيم سعده رئيس تحرير جريدة الأخبار آنذاك.

وعقدنا ومصر كلها بمثقفيها لقاءات تضامنية مع نور وجاءت كل الأقطاب.من أقصى اليمين لأقصى اليسار لتناصره خاصة وأنه كان قد منع بشكل مريب وغير رسمي من ممارسة نشاطاته الفنية بالتليفزيون المصري، وكال بن سعدة مقالات عديدة لمهاجمته.وانتهت الموقعة بعودته للتليفزيون بعدما امتلأت نقابة الصحافيين بالآلاف من مناصري الفنان نور الشريف.

بعد ذلك بسنوات التقيته في مكتبه العام  2002 ليشكو من جحود أحد الأصدقاء، والذي احتضنه نور لسنوات مديرا لمكتبه السيناريست خالد البنا.والذي اتصل به منذ ساعات ليخطره بتقبل اسفه وانسحابه من شركة الإنتاج السينمائي__n.bوأنه ـ خالد ـ  قد انتهى من كتابة السيناريو الأول وكان فيلم “جزيرة الشيطان”، فكان رد نور الشريف: عمري مااقف أمام طموحاتك..تعلالي وهات السيناريو.. صوره واحضر نسختين غير الأصل المكتوب وقرأ السيناريو ويتصل بعدها بخمسة عشر يوما بالنجم الكبير عادل إمام مبلغا إياه بضرورة إطلاعه على هذا السيناريو الجديد.. من شاب قابلته عندي منذ سنوات.

وضحك عادل.وقرأ السيناريو وعجبه بشكل ما مع تغيير تفاصيل ومشاهد وأجزاء كثيرة من الحوار.وقدم عادل الفيلم وعرض لأسابيع طويلة بدور السينما في مصر.وحاول بعدها خالد الإعتذار فلم يلتفت نور لأية اعتذارات غير ستة كلمات خرجت من فيه للسيناريست المغمور: ماتنساش يا خالد ان في نجاحك أنت أو أي موهبة جديدة سيكون للسينما شأن آخر..

وفي الحفل الخاص بالعرض الخاص لفيلم الكيت كات بسينما كريم 2 واثناء جلوسي في الظلمة بجانب السيناريست وحيد حامد والمخرج داود عبد السيد. سمعت من يشيع أن هناك جفوة أو خصومة بين نور الشريف ومحمود عبد العزيز..كان يوسف شاهين يهرول بعدم انطفأت الأنوار لأنه هو من كان يؤجر ويدير سينمات كريم 1،2، وأوديون..بدأ الفيلم.سمعت نور يلزم مقعده خلفي مباشرة.وجلس محمود عبد العزيز أمامي وانتهي نصف الفيلم.وفي مشهد موت بائع الفول، سمعت نور يبكي.في الظلام.وانتهي الفيلم على تصفيق حاد ومدوي لمدة قاربت الربع ساعة.وتضاء الأنوار ويهرول نور ليحتضن محمود ويبكيان سويا وبات الشريف يردد: ياااه يا محمود عمري ماحلم أقدم الدور كده، قتلتني عدة مرات بإيماءات عيون الشيخ حسني، يا حبيب عمري يا محمود..

والتفت الجماهير لتحتشد حول النجمين الكبيرين وهما يبكيان سويا وتنفرط الضحكات مختلطة ببكائهما الحار وكلا منهما يربت على كتف الآخر ويقبل رأسه

ويردد نور الشريف في النهاية..ضحكت عليا يا محمود وخلتني غرت..كنت بحلم أقدم الدور ده.. من اليوم أنت تسطر تاريخا جديدا لفنك..وعلاقتك بالتمثيل يا شيخ حسني.

“2”

رحم الله الفنان الكبير نور الشريف، محمد جابر عبدالله.ممثل الطبقات المصرية كافة في أفلام عبرت عن آلالام وطموحات بل ومنغصات كل الشرائح الإجتماعية،، وتحديدا البرجوازية بمساراتها المختلفة والمغايرة عليا ومتوسطة ودنيا أي شعبية.، رحل عن تسعة وستين عاما وبعض الأشهر بعدما عرفته الأوساط السينمائية والثقافية الفكرية الإبداعية في الوطن العربي بخروجه عن المألوف وتحدي المخاطر ونسف كل محظور سواء في السينما أو المسرح أو حتى الدراما،، ويبقي الكثير والكثير من تجليات ومحاسن هذا الفتى في الفن والسينما والجمال

مسرح الهوسابير 1990

……………

من كتاب” صوت شريط السينيما “

مقالات من نفس القسم