فواز طرابلسي من القاهرة: اختزال إدوارد سعيد في “الاستشراق” صنيعة أمريكية عزّزت منطق التشدّد الإسلامي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 23
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورته: إيمان علي

“أبرز نتاجات إدوارد سعيد هي خارج كل الموضوعات التي تنمّط بها، فالرجل كتب بتعمّق في مجال الأدب والأدب المقارن. هناك أوجه لا تطلّ إطلاقا من كتاب الاستشراق ولا من كتاباته عن القضية الفلسطينية، وهما الوجهان السائدان له في المنطقة العربية”. هكذا لخّص الكاتب والمترجم والمُحاضِر اللبناني فوّاز طرابلسي ميراث قراءة وترجمة واستقبال إدوارد سعيد في العالم العربي، حضر طرابلسي (1941) إلى القاهرة قبيل وداعنا لعام 2018 لإلقاء محاضرتين لم تخلوان من طرافة ضمن برنامج مركز دراسات الترجمة التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة، كانت إحداهما عن “إدوارد سعيد بالعربية: الشخصي والأكاديمي”، وكما هي العادة، لم يبد الحديث عن صاحب الاستشراق والجدال بشأن مقولاته ونظرياته قابلا للفراغ منه ولا يزال محفّزا لمزيد من الجدال والمناوشة مهما بدت جوانب من هذا الحديث مكرّرة.

التقيتُ المفكّر والمؤرّخ اليساري العتيد قبيل ساعات من لحاقه طائرة العودة، هنا نص حوار روزاليوسف معه، كما يجد القارئ في ختام المقال مقتطفات من المحاضرتين التي ضمّنها طرابلسي الحديث عن تجربته الشخصية في الترجمة وأفكاره عنها وكيف ساهم في تقديم كتّاب ومفكّرين عالميين إلى العالم العربي، حتى أنه في فترة المدّ الماركسي كانت الترجمة على حد ما حكى وسيلة من إحدى وسائل “النضال الثوريّ”.

أما عن ترجمته لثلاث كتب لإدوارد سعيد قال: “المقياس في الترجمة هو النجاح في أن تقرأ النص وكأنه مكتوب في اللغة التي تُرجم إليها، لهذا قلتُ لإدوارد سعيد سأجعلك تحكي عربي”. وعن ترجمة “out of place” إلى “خارج المكان” يرى طرابلسي أنه لم يكن عنوانا موفّقا: “كنتُ أرغب في ترجمتها إلى “كان لا مكان” كتحريف لـ”كان يا مكان”، واقترح صديق عنوانا آخر هو “خارج السرب”، وبعد مشاورات عديدة استسلمتُ والناشر إلى الترجمة الحرفية، وهي خطيئة مميتة في الترجمة”.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22

  • قبل الدخول في استنتاجاتك وتحليلاتك لمسيرة التطوّر الفكري لدى إدوارد سعيد والتي تثير الكثير من الجدال، دعنا نتعرّف على ملابسات لقائكما لأوّل مرّة، وصورته معك التي نشرتها على حسابك في فيسبوك وأثارت ضجة.. إدوارد سعيد يرمي حجارة على المحتلّ في الجولان!

موضوع الصورة أليم وحكايتها كلها ذكرى صعبة. تعرّض إدوارد لحملة استثنائية كادت تفقده عمله، وظل يتألّم لأشهر. اعتقد مثلما أجبتُ نجلاء ابنته في تعليقها على الصورة أن “هذا هو إدوارد. إدوارد سعيد هو كل شيء.. هو الأكاديمي، وهو نفسه المناضل الفلسطيني”. لقد تحمّس كثيرا لتحرير جنوب لبنان، وأصرّ أن يصل إلى الحدود ليشارك في هذه الشعيرة الرمزية. تعجّبتُ من بعض المثقفين اللبنانيين الذين صرخوا “كيف تأخذ إدوارد سعيد من يده وتجعله يرمي حجارة”، كيف لا والرجل أصبح كلّ وجوده في أمريكا بعدما تسيّس بعد 67؛ ذلك المُساجل العنيف على أعصابه، ومن حينها تعرّض للهجوم والتشنيع والاتهام. لقد رمى إدوارد سعيد صخورا بأمريكا ليس فقط أحجارا. المثقفون أنواع؛ فيهم النخبوي، وفيهم من له علاقة والتصاق بالناس. إدوارد سعيد كان من هذا النوع الذي يجد أن الأهم هو السعي إلى تطبيق الأفكار، ليس مجرد انتاجها والتعالي بها. كانت الصورة التي تُشيرين إليها في صيف عام 2000، بعد أسابيع من تحرير الجنوب اللبناني. في 25 مايو، يوم التحرير؛ كنّا نتراسل وكان متحمّسا كثيرا. أتى إلى بيروت في زيارة عائلية وأبدى اهتماما بالمشاركة في الجنوب المُحرّر.

  • صورتك خلف ياسر عرفات في حصار بيروت أثارت حفيظة البعض أيضا، أنت من النوع الذي تؤمن بالفكرة على حساب الأشخاص!

نعم، شاركتُ في تأسيس جبهة المقاومة مع ياسر عرفات، سؤال أحدهم تعليقا على الصورة: إذا رجع بي الزمن هل سأفعل ما فعلته؟ بالطبع نعم، لكنه لا يزال سؤالٌ ابتزازي في وجهة نظري، وكأن من المفترض للإجابة عليه أن اتبنّى نقيض ما كُنته، وهذا أبدا لن يحدث، لكن لو طلبتي مني أن أراجع الحرب سأراجعها حتما، هذا واجب. لكن الإجابة القاطعة بأنني سأعاود ما فعلته لا يعني أن لديّ حنين، عندي تجربة سعيت أدرسها وأن أنقل شهاداتي فيها عبر الكتابة إلى الجيل الذي لم يعشها، وهذا شيء مختلف عن الحنين، وعن النقد الذاتي في نفس الوقت أو المراجعة وعن التكرار.. “فيني قول إني عشت حياتي ساعات وأوقات وأيام وأشهر رائعة، وفيني قول شيء تاني. أنا كاتب؛ لولا هذه التجارب العملية لستُ بكاتب، كتاباتي هي نتاج تصنيع لتجربة عشتها، هي تعبير عن تجربة، بالتالي أنا مدين لهذه التجربة، وكانت حافز عظيم للكتابة، هيك أنا أجد حالي على الحدود بين الثقافة والسياسة والتاريخ والاقتصاد، ولهذا يِمكن أنا لا أُرضي أحد، ولا يستطيع أحد أن يضعني في قالب معيّن، لا انتمي إلى معسكر ما، أنا يساري بس بعتقد اشتغلت طويلا لأفهم شو صار باليسار وشو مساره”. كمؤرّخ آخذ البعد الموضوعي بقراءة تهتمّ بالزمن في المقام الأول وماذا يصنع في الأفكار.

  • تُنادي دائما بأن الاستشراق مرحلة من ثلاث مراحل مرّ بها تطوّر فكر إدوارد سعيد، وأنه جرى اختزاله في مرحلة واحدة هي الاستشراق.. هل الترجمة سبب في هذا الاختزال وكيف تمّ؟

لا أبدا.. اختزال إدوارد سعيد ليس صناعة عربية، هو صناعة أمريكية. كان سعيد من أبرز الأصوات العربية التي طرحت تمثّل الاستشراق كمدرسة أكاديمية أوروبية أمريكية لمفهوم الشرق، أو إنتاج الشرق بواسطة الغرب، وشيوع جملة الأفكار والتعميمات حول المنطقة عبر الرأي العام الغربي، القائم بالأساس على قاعدة من المحمولات والتعميمات والأوهام والعنصرية والتعالي والتنميط والجوهريات والخصائص العامة. قدّم إدوارد سعيد نقدا لتحيّزات وانحيازات هذه المدرسة وتناقضاتها، أمّا كيف وُظّف باتجاه آخر؟! أوّلا؛ ما حدث أن إدوارد سعيد وُظّف بمنطق جرى عبره استيراد مقولات فوكو عن المعرفة والسلطة إلى سعيد، صحيح لم يكن إدوارد سعيد بعيد التأثّر بفوكو، لكن أفكاره الأساسية هي تكوين الخطاب الاستشراقي وتعيين عناصره، أمّا الذي جرى تعميمه انطلاقا من كتاب الاستشراق، أن هناك نظرة خاطئة للشرق من الغرب، وهو ما يُجبر فورا إلى التساؤل: هل هناك شرق حقيقي غير الشرق الغربي؟ وما هو؟ والحقيقة أنه بمجرد طرح مثل هذه الأسئلة، ناهيك عن محاولة الإجابة عليها؛ يرمينا في قلب فكرة “الجوهر” مرة أخرى، وهي الفكرة التي يقوم عليها الاستشراق ونقدها سعيد. كتاب سعيد لم يقل هذا، هو يختم الكتاب بالقول بأن الجواب على الاستشراق ليس نقيضه، ليس في الاستغراب، أو صورة للغرب من الشرق، لأن من شأن ذلك إنتاج تعميمات حول الغرب من الشرق مثلما أنتج الغرب تعميمات مماثلة عن الشرق. كان همّ سعيد كما كتبَ ألا يستبطن العرب والشرقيون هذه النظرة العنصرية الغربية الاستشراقية عن أنفسهم. وهذا بالفعل ساد كثيرا؛ هناك تيارات إسلامية كثيرة قائمة على هذا الفكر وهذا الافتراض، أن هناك جوهر اسمه الإسلام، وما هذا إلا الاستشراق بعينه. هذا التحريف في فهم إدوارد سعيد كان له وظيفة، هي تحوير للماضي.

المسألة هي علاقة أمريكا بماضيها في فيتنام ومحاولة تحوير العنف، أو نزع صفة العنف والقوة من الاستعمار والحروب، بحيث تصبح الكولونيالية هي دراسة المنطقة ثم احتلالها، وهذا نقيض تاريخ الكولونيالية، التي هي مبدأ الاحتلال والقتل بالأوّل ثمّ “إذا بدّا تُدرس بتُدرس”. كل نماذج الاستعمار في المنطقة بُنيت على النموذج المصري مع حملة نابليون، الذي استعمر في المقام الأوّل ثم كوّن بعثة، ورحل بتنافس كولونيالي آخر هم الإنجليز. وما أدلّ على هذا، أنه لا صلة بين ما تركته الحملة الفرنسية من منجز وبين النهضة العربية في القرن التاسع عشر. الطهطاوي مثلا سافر إلى باريس “مش راح عند الجبل”.. في رأيي أن النهضويين لم يكونوا ورقة بيضاء تأثّرت بالغرب من دون مؤثّرات داخلية، كل شخص كانت له وظيفة اجتماعية ووضع طبقي ومتاح له وسائل مكّنته من التأثّر أو عدم التأثّر بأشياء معينة في الغرب. تحويل العملية الكولونيالية إلى معرفة وسلطة هي قراءة مُغرضة تُريد تبرئة الاستعمار من العنف.

  • نعرف أن إدوارد سعيد لم يكن يحب ترجماته العربية، ماذا كان رأيه في فكرة الاختزال تلك؟

هذه المرحلة الأولى من تطوّر فكر سعيد، على الإساءة إلى مؤلفها، كانت نتيجتها أن كتاب مثل “الاستشراق” انفصل عن مؤلِّفه، وما عاد أحدٌ ينظر إلى تطوّر الرجل نفسه. هذا الثائي الشرق/ الغرب انتهى في المرحلة الثانية عند إدوارد سعيد عند مستعمر/ ومستعمر، بفتح الميم وكسرها، صار همّه ليس نقد التمثّلات بالغرب عن الشرق؛ بل تعدّاها إلى تمثّلات حركات التحرّر عن نفسها وخِصمها. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فهي المرحلة الإنسانية، فيها انتهى إدوارد من الثنائيات. لا ننسى أن أفكاره الأولى سمحت كثيرا بالتفسيرات الدينية، فالخُميْنية ومبرّريها العرب استنجدوا كثيرا بكتاب الاستشراق، هذا الشيء عرفه سعيد طبعا ونفَره، لكن لا يمنع أنه شعر بالمسئولية عنه أيضا. إدوارد سعيد الأخير، هو إدوارد سعيد العلماني الديمقراطي، الذي قال أن معرفة العالم تتم من خلال العالم، وانتهى إلى تجاوز الهويات، أكانت شرق غرب أم جنوب شمال. وفي الحقيقة؛ لم يكن إدوارد سعيد مستقبلا للنقد. كان حساسا جدا ضد النقد. إنما كانت لديه طريقته المميزة، يتأثّر أكثر من اللازم بالنقد ويحاول أن يجاوب عليه بانعطافات حادّة في فكره ذاته، مع القطيعة مع نقّاده. كأنه يقول: “لا يوجد حاجة للنقاشات، ما دام هناك دليل دامغ ومطبوع على ورق”. ما أقوله، أنه لم يدخل هذا الفهم بوضوح في عالم قرّاء إدوارد سعيد، معظم من يتحدثون عن استشراق إدوارد سعيد “مش قاريين كتاب الاستشراق”. كتابات سعيد السياسية كرّسته مدافعا شرسا عن القضايا العربية في قلب أمريكا، وزاد من وهج هذه الصورة المُفاخرة بالرجل كونه من ألمع مثقفينا، وفي نفس الوقت تمّ هذا الاختزال على حساب معرفتنا العميقة بالرجل. هناك كتاباته الأدبية، نقد الأدب، ونظريته الأدبية.

وصية إدوارد سعيد

تحدّث المفكّر اللبناني في القاهرة من منصّة الجامعة الأمريكية عن الترجمة التي خاضها كـ”هواية” و”غواية” ويعتبرها أحيانا “شهوة”. فالترجمة لديه من قبيل “الاستحواذ والتماهي” أو “حبّ المشاركة”. وأخيرا يعتبرها “عادة” يمارسها عندما يقرأ لـ”جون بيرجر” و”إيتيل عدنان” و”ناظم حكمت”.

قال: “بدأتُ بترجمة الشعر، أوّل قصيدة ترجمتها إلى الإنجليزية وأنا في المدرسة الثانوية؛ كانت قصيدة سياسية لنزار قبّاني ضد زيارة لمبعوث أمريكي كان يروّج لأحد مشاريع الأحلاف العسكرية في المنطقة. أرسلتها للشاعر، ردّ عليها وهو مُلمّ بالإنجليزية بسبب عمله الدبلوماسي وقد شطّب منها وصحّح من الكلمات أكثر ممّا أبقى دون تصحيح. بعدها ترجمتُ قصائد لشاعر قصيدة النثر السوري محمد الماغوط وقد انتقل إلى بيروت، أذكر منها قصيدة “حزن في ضوء القمر”، أُوصي كل من يُحبّ هذا الشاعر أن يقرأها، أوصي بقراءة كل الماغوط في الحقيقة. وقد نشرتها في مجلة مدرسة برومان العالية بالإنجليزية”.

ترجم فواز طرابلسي بعد ذلك رواية “حرير” لألكساندرو بارّيكو فور الانتهاء من قراءتها دفعة واحدة، ليكتشف أنها تُرجمت من قَبل مرّتين. ثم امتهن في الستينات والسبعينات؛ الترجمة كحرفة، كعمل جزئي، ترجم في تلك الفترة الكثير من النصوص اليسارية والماركسية، وأعمالٍ عن حركات التحرّر الوطني، يقول عن تلك الفترة: “كان ذلك ضمن ورشة من رفاق وأصدقاء كان يرون أن نقل الماركسية ونظريات التحرّر الوطني والاجتماعي مهّمة في التوعية والتثقيف والتنوير. كان ذلك في زمن “دار الطليعة” وصاحبها بشير الداعوق، ذلك القارئ النهم الاستثنائي والناشر المُشجّع والسخيّ”.

كانت نتاج تلك الفترة من أعمال طرابلسي المُترجمة كما حكى في محاضرته؛ أعمالا نظرية لماركس ولينين وتروتسكي وجرامشي وتشي جيفارا، ودراسات عن بناء الاشتراكية في الصين، وعن تجربة الانتقال إلى الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وكوبا، ثم ترجم سيرة لستالين كتبها إسحق دويِتشر، ثم انقطع فواز طرابلسي عن الترجمة فترة السبعينات إلى التسعينات: “الترجمة كانت لتمضية الوقت أثناء الحرب في لبنان، خلال تلك الفترة؛ ترجمتُ كتاب لينين الأساسي في الاقتصاد الاجتماعي “تطوّر الرأسمالية في روسيا””.

“صدفة” يحكي عن ترجمته إدوارد سعيد: “جاءنا إدوارد إلى بيروت في زيارة في إحدى المناسبات الأكاديمية في الجامعة الأمريكية وأطلعني على عدد من الصفحات عن سيرته الذاتية قيد الإعداد، وقد ترجمها له أحد الأصدقاء، فأجريتُ بعض التعديلات عليها، وقبل أن يغادر سألني إن كنتُ على استعداد أن أترجم السيرة الذاتية عندما تصدر؟ أبديتُ الاستعداد لذلك واشترطتُ؛ لغتك عويصة وحصيفة سوف أفكّكها وأبسّطها وأعيد تركيبها باللغة العربية. فوافق سعيد”.

بعد “خارج المكان”، ترجم فواز طرابلسي لإدوارد سعيد كتابين صدرا بعد وفاة الأخير، وهما مجموعة محاضرات بعنوان “الإنسانية والنقد الديمقراطي”، وهي تلخّص نظرة سعيد الإنسانية العلمانية فيما يسمّيه فوّاز بالمرحلة الثالثة في تطوّر إدوارد سعيد الفكري. أما الكتاب الآخر فهو “عن الأسلوب المتأخر.. أدب وموسيقى عكس التيّار”، والتي يعتبرها فواز “وصيّة إدوارد سعيد” لأنه “يدْرس فيه موسيقيين وأدباء حافظوا على تمرّدهم الجذري في سني عمرهم المتأخّرة”.

“لينين” يوقّع بالعربية

عن نوادر الترجمة؛ حكى قصة عن ترجمته لسيرة ستالين. عن صديقين يستعينان؛ كلٌ على حِدة، بالعبارة ذاتها في وصف إعجاب صدام حسين بترجمة فواز لكتاب دويتشر عن ستالين. “كانا يؤكدان لي، أن ترجمتي محفوظة على المائدة قرب سرير الدكتاتور العراقي”. بينما ذهب مسئول صفحة ثقافية في إحدى المجلات اللبنانية – يُكمل حَكْيه – إلى تحميل طرابلسي مسئولية أفعال الدكتاتور بناء على ما سمعه عن تعلّقه بتلك الترجمة. يستطرد المترجم والمفكّر اللبناني العتيد: “لمن لا يعرف إسحاق دويتشر هو ماركسي بولوني منشقّ، أسهمت سيرته النقدية للحركة الستالينية في الاتحاد السوفيتي في تبرّأ شيوعيين وماركسين كثيرين من ستالين والتجرّأ على نقد التجربة الستالينية من منظار يساري”.

أما ترجمة كتاب تروتسكي “الثورة الدائمة” وهو رفيق لينين مؤسس الجيش الأحمر وغريم ستالين وضحيّته، يحكي فوّاز طرابلسي أنها كانت السبب وراء قدوم سكرتير تروتسكي وهو الفرنسي “بيير فرانك” إلى بيروت للتعرّف على “ذلك اللبناني الذي كسر ذلك الحلم”. يقول طرابلسي: “لستُ أدري كيف عثر عليّ بيير فرانك فقد نشرتُ الترجمة باسم مستعار، لقد أورثتني تلك التجربة تهمة التروتسكية في الحركة الشيوعية العربية دون أن يرحمني التروتسكيون العرب لأنني لم أكن منهم”.

عن ترجمته كتاب الصحفي الأمريكي جون ريد “عشرة أيام هزّت العالم”، وهو تحقيق صحفي شهير عن استيلاء البلاشفة للسلطة في روسيا 1917، يحكي قصة أكثر طرافة.. فقد قدّم لينين للكتاب في لغته الأصلية، وعند تجهيز الترجمة للطبع “اقترح عليّ الصديق الراحل ناجي علّوش مدير الدار حينها أن أخطّ مقدّمة لينين بخط اليد بالعربية، وقد فعلتْ. في تلك الأيام كانت الإشارة إلى المصوّر بالمطبعة بأن يُبقي النصّ المصوّر على حاله دون تكبير أو تصغير هي كتابة عبارة “mim” بالفرنسية، وقد كتبها ناجي بالقلم الأزرق كالمعتاد، ويبدو أن المصوّر صوّر “التعليمة” بدلا من أن يلتزم فقط بتصوير المقدمة، فبدت في الطبعة عبارة “ميم” بالأحرف اللاتينية كأنها توقيع لينين. وعندما كنتُ في زيارة إلى العراق بعد صدور الكتاب، وقوبلت بحفاوة شديدة جدا، وكنت استدرك بأنني “حيالله” المترجم ولستُ المؤلف، عرفتُ أن ما لفت النظر هو مقدمة لينين بخط اليد، فتكاثرتْ عليّ الأسئلة الضاجة بالإعجاب وقوامها: “هو الرفيق لينين كان يعرف العربية!”.

آفة عالمنا العربي.. فورة الترجمة

بثّ المترجم في زيارته إلى القاهرة شكاوى وملاحظات حول “فورة الترجمة في العالم العربي في الثلاث عقود الأخيرة”، أوّلها أنها قائمة على فرضية اسمُها الانتقال إلى مجتمع المعرفة، وهي مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي، وهذا التركيز المبالغ فيه حول الترجمة أدّى إلى نشوء مؤسسات كاملة، تتباهي “عدديا” بترجماتها، “مش مهم؛ المهم يطلع ألف كتاب في السنة”. أغلب هذه المشاريع قائمة على “وهم أن استهلاك الكتاب الأجنبي يصنع التقدّم الحضاري”. فضلا عن عدم الاهتمام بتوحيد المصطلحات في الترجمة.

الإخلاص والخيانة في الترجمة من الموضوعات الأثيرة والتي تفرض نفسها لدى الحديث عن الترجمة. لفت فواز طرابلسي إلى فكرة المترجم “الخائن” عند سيرفانتس، الذي شبّه النص المترجم بـ”قفا السجادة”. ما قد يعني حسب اقتراح طرابلسي أن قفا النص الأصلي يفضح تركيب لغة الأصل والأسلوب مثلما “يشي قفا السجادة بكيفية حياكتها”. وتكلّم كذلك عن مفهوم بورخيس في الترجمة “لا تكتب ما أقول؛ اكتب ما عانيتُ قوله”. أما أمبرتو إيكو فيُعرّف الترجمة بأنها تقول الشيء ذاته تقريبا. في تقديم “خارج المكان” شبّه فواز طرابلسي عملية الترجمة بإعادة توزيع القطعة الموسيقية.

“القاموس هو أعظم مُعلّم للغة”.. فكرة أخرى قادتنا إلى حكاية من حكايات فواز طرابلسي الشخصية الطريفة مع الترجمة، فمن خلال ترجمته لـ”خارج المكان”؛ اصطدم بكلمة finicky”” التي كان سعيد يُكثر من استخدامها في النصّ – وهي تعني الذي لا يعجبه شيء أو الشخص الصعب إرضاءه – ولم يدُر في باله إلا مُقابل الكلمة بالعامية اللبنانية “نِيئة”، وكانت المفاجأة عندما رجع إلى القاموس أن وجد المعادل الصحيح الفصيح وهي “نيّق” و”نيّقة” في المؤنّث.

……………..

*عن “روزاليوسف”

مقالات من نفس القسم