فصل من رواية “من سيرة التراب والنمل”

فصول من سيرة التراب والنمل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد العليم

التخصص في الأعمال المنحطة خرافة

انتفض الدكتور عزیز قائما من مكانه وكأنه يريد أن ينتصر لتلك الفكرة التي انبثقت في عقله فجأة، رغب في إثبات أن العقل البشري يمكن له ـ هكذا دون تراكم خبرات- أن يبتكر ما يعجز عنه المتخصصون.

تخير جاكيت بيجامة قديم، أراد أن يمزقه فلم تطاوعه قواه، لقد كان الجاكيت قوياً.

أخذ يبحث عن المقص الصغير وسط الأشياء المبعثرة الغارقة في التراب على منضدة السفرة: شرائط كاسيت.. علب أدوية منتهية الصلاحية.. سرنجات.. جهاز قياس الضغط.. علب سجائر بعضها فارغ والبعض الآخر ممتلئ والبعض الثالث بين بين.. عملات نقدية معدنية.. أجندات شركة ساندرز ذات الكعب الزمبركي الأبيض. ترمومترين.. نموذج تعلیمی لقلب آدمي يمكن فكه وتركيبه.. كتب وجرائد.. نتائج تقويم من شركات الأدوية وشركات التأمين والبنوك – فلم يجده

وجد مشرطا قديما من ذلك النوع الذي كان يستعمله في حجرة العمليات، صدئ بعض الشيء، أمسك الجاكيت بفمه ومده على طول يده اليسرى، بيده اليمنى استخلص منه قطعة مستطيلة مناسبة.

أسرع إلى المطبخ، أعرق قطعة القماش في المياه التي انسابت من الصنبور – ثم عصرها عصرا لينا بحيث تبقى بها بعض المياه، عاد إلى حجرة الصالون وبدأ عمله في جد.

أخذ يمرر القماشة المبللة على طقم الاوبيسون دون أن يضغط عليها بشدة، فوجئ بالنتيجة ، لقد علقت الأترية بالقماشة المبللة وتركت الطقم على غير حالته الأولى.

وعندما انتهى الدكتور عزیز من المرور على الكنبة والأربعة كراسي كان قد أنهك تماما وتسارعت أنفاسه، فکر ربما كانت القماشة المبللة ضارة بخشب الطقم المذهب، دب اليأس إلى قلبه ونفض يده من العملية كلها وجلس على أحد الكراسي يدخن سيجارة.

كان قد ترك القماشة المبللة على رخامة المنضدة التي تتوسط الصالون، تلك القماشة ستجف فيما بعد وتتجلد وستأخذ شكلا عجييا، وسيحتفظ بها فاروق للذكرى، ذكرى كفاح أبيه ضد التراب.

هدأت أنفاس الدكتور عزيز قليلا، تذكر أن معظم مشاحناته مع فؤاد في السنوات القليلة الماضية كان سببها وجوب الدفاع ضد التراب والنمل.

ذات مرة عاد فؤاد من العيادة في المساء، فأحضر صينية، صينية من تلك التي كانت أمه تصنع فيها المكرونة الباشاميل التي يحبها، ملأ الصينية حتى ربعها بالماء ووضع بداخلها في المنتصف طبقا يحتوي بعض العسل، وترك الصينية حتى الصباح في وسط أرض المطبخ وهو يهز رأسه متمنيا أن يعرف بشكل عملى كيف سيستطيع النمل الوصول إلى طبق العسل وكيف سيجتاز الماء من حوله- أمنية ممزوجة ببعض الشماتة والكيد.

في الصباح- وعندما فتح فؤاد عينيه أسرع داخلا إلى المطبخ ، بهت، فقد رأي آلاف من النمل عائم في طبق العسل، بهت أكثر، فقد رأى طابورا من النمل يسير على الحائط ثم على السقف حتى وسط المطبخ، وعندما يجد النمل أنه قد أصبح فوق طبق العسل مباشرة يلقى بنفسه فيه.

– يا سی فؤاد.. قلنا البيبسي والكولا فيهم سعرات حرارية عالية.. وده هيخليك سمين وشكلك مش حلو وصحتك مش كويسه.. ولو مش هامك تطبق اللي درسته في كلية الطب.. إنت حر.. إشرب.. بس بعد القزازه ما تخلص لازم تمصمصها بالميه علشان النمل.. وتحطها في الصندوق.

– حاضر.. حاضر

فاروق كان يفعل ذلك تلقائيا ولا يدع الدكتور عزیز بوجه إليه أية ملحوظة، كان يحرص أيضا قبل الدخول إلى

 الشقة على أن يحاك حذائه جيدا في المشاية اللوف التي على الباب، بل وأكثر من ذلك كان يقف بالمرصاد لفؤاد في لا مبالاته القاتلة.

علم الدكتور عزيز عنه تلك الصفة بالصدفة عنا كان بالكاد يستيقظ من إحدى نومات العصر ليتأهب للذهاب للعيادة – وكان ما زال بين اليقظة والنوم، سمع فاروق يقلد طريقة حديثه متوجها بالكلام إلى فؤاد الذي كان قد فعل شيئا ما.

– باسي فؤاد.. أمكم ماتت.. ومش عاوزين نجيب شغالين أحسن يسرقونا.. لازم إحنا نحافظ على حياتنا سليمة ونقاوم التراب والنمل.

وبقدر ما تكدر الدكتور عزیز من أن فاروق قلده في لهجة شبه ساخرة- فإن حفظ كلماته من قبل أولاده قد أثلج صدره، وعمل نفسه أنه لم يسمع شيئا.

ولم يعلم الدكتور عزيز أبدا أن فاروق كف عن الوقوف بالمرصاد لتصرفات أخيه الخارجة عن المألوف والطبيعي لقوانين البيت- واكتفى بالسخرية الهادئة منه:

– أنت عايش في هدوء وطمأنينة وسكينة وسلام.. نفسي أبقى زيك ون ويك .. أونلی ون ويك.

– طيب يا نصير العمال والطبقة الكادحة. قام الدكتور عزیز من كرسي الصالون وجعل

يتفقد أنحاء الشفة الواسعة الباردة المتربة ، ثم أخذ يضرب كفا بكف.

– بييجي منين بس.. بييجي منين ، .. زي ما تكون فيه طاقه مفتوحة في الشقة بييخ منها التراب والنمل.

استلقى الدكتور عزيز على السرير فانبعثت غيمة من الغبار المتكدس على الفراش، أخذ الدكتور يكح ويكح بشدة وهرع إلى المطبخ يغسل وجهه ورأسه وداخل أنفه بالمياه.

أخذ بعض الماء في فمه ومط رقبته ونظر إلى أعلى يتغرغر ليزيل ما قد علق بحلقه من أتربة.

فجأة أصابه الانزعاج الشديد وأخرج الماء من فمه . دفعة واحدة فقد رأي آلافا من النمل تتحرك في صفوف تمتد من شقوق البلاط حتى أعلى الصنبور والسقف.

وجرى ليحضر بخاخة المبيد.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون