فصل من رواية “معبد أنامل الحرير”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أنظروا البؤس الذي أرى الآن مثلاً: قرصان من الصومال. كيف تسلل وعصابته من البحر الأحمر إلى هنا في البحر المتوسط؟ كان نطاق نفوذهم هناك قرب شواطئ بلادهم، قريبًا من خليج عدن أو بحر العرب. فكيف نفذوا إلى هنا؟ هل هي مافيا دولية؟! هل توفر الحماية لمثل هؤلاء القراصنة قوى أخرى لها مصالح ينفذها لهم القراصنة كواجهة؟ والأهم من هذا كله، بالنسبة لي على الأقل: هل هذا الرجل العجوز رث الملابس هو قرصان حقيقي؟  

سُحقًا لك يا قرصان آخر الزمن! دعوني أقول لكم إذن أيها القراصنة الصوماليين أنكم لا تعلمون شيئا عن قراصنة البحار الأصليين. كيف تفهمون، مثلا، أنّ نصّابًا يُفضل سرقة المجوهرات لا يعتبر نفسه لصًّا، لأنه يفعل ذلك مرتديا ثياباً فاخرة، متقلّدًا خواتم بها فصوص ماس حقيقية، فيما يتأبط ذراع شابة فاتنة الجمال، يتركها ليأتي بالنقود من سيارة فارهة تنتظر في الخارج، لكنه لا يعود مرة أخرى. أما الفاتنة فسوف تهرب من المحل في اللحظة المناسبة ببضاعة تقدر بعشرات آلاف من الدولارات. هل فهمتم ما أقصد؟ هذا المثال لنصّابٍ معاصر حديث، قرصان برّي لو صح التعبير، لكنه يستلهم روح القرصنة القديمة التي عرفتها البحار.

أقصد أن القرصان ليس مجرد لص عابر للبحار، بل هو فرد ممن أسماهم الفرعون ممبتاح بـ”شعوب البحر”، بينما أسماهم آخرون بـ”أجانب البحر”. القرصان  سليل تراث يبدأ من حس عارم بالمغامرة، ومعرفة بالملاحة وقيادة السفن في أعتى الظروف. لهذا كان القرصان، في عصور القرصنة الذهبية، أشبه بأسطورة.

القرصنة في ذلك الزمن البعيد كانت فنّا خالصًا، تختلط فيه السيطرة على البحار بالسيطرة على المؤتمرين بأمر القرصان، يقسّم مغانم السفن الأخرى بينهم بالعدل، ليضمن ولاءهم جميعًا، وأخيراً السيطرة على السفن الأخرى التي تمثل أهداف القرصنة. ولعلني أعرف أن من قاموا بعمليات القرصنة كما تداولت الحكايات والكتب والأساطير؛ تنوعوا في قدراتهم وفي منهجهم وحتى في مصائرهم التي ترواحت بين القتل صلبًا أو إعدامًا أمام الجماهير شنقًا، أو غير ذلك مما تعرضوا له حين بدأت مقاومتهم، لكن كانت هناك مناهج عدة في تنفيذ مهامهم.

دعونا نتخيل أن السفينة الصومالية بقرصانها المشعث هذا انطلق إلى بحر الظلمات ليواجه سفينة قرصان شهير من نجوم عصر القرصنة، كيف يمكن أن تكون مثل هذه المواجهة؟

“كان السيد مانويل، الشهير بلقب القرصان الأحمر يجلس في مقدمة سفينته الشراعية الضخمة التي وُصفت يوما بطارود البحر بسبب عدد الأشرعة التي تعلو صواريها، وبسبب عدد البحارين الذين يعملون عليها، والذين يساعدون بالتجديف أيضًا في بعض الأحيان، حيث اتسم الطارود بنحو اثني عشر ثقبا في جدار السطح وبالتوازي من الجانبين،  لكي تمر منها المجاديف الأربعة وعشرين، بالغة الطول، التي يستخدمها البحارة عندما تأتيهم أوامر مانويل بزيادة السرعة لو لم تكن الرياح كافية لتسيير هذه السفينة الشراعية بالسرعة الواجبة.

وينظم عملهم القرصان الأحمر في نوبات عمل تجعلهم يتبادلون مواقعهم بحيث يستمر انطلاق السفينة لتمخر في مياه بحر الظلمات بأسرع ما عرفته السفن الشراعية في ذلك العصر.

ليس معروفًا على وجه اليقين طبيعة ما انشغل به ذهن القرصان الأحمر في أصيل ذلك اليوم، الذي يمثل اليوم التاسع والسبعين للقرصان، وسفينته والبحّارة جميعًا، في عرض البحر الذي لم يروا فيها يابسة. واليوم الثالث والثلاثين عقب انتهاء آخر عملية قرصنة قادها السيد مانويل، واكتفى فيها بعشرة صناديق تمتلئ بذهب الأرض، إضافة إلى حمولة إضافية من ذهب آخر عرفه ذلك العصر ممثلا في التوابل، كانت في طريقها من الهند إلى بريطانيا العظمى.

لكنه كان جالسًا وحده في مقدمة الطارود، على كرسيه الخشبي الوثير، وقد أسند نظارته المقربة، ذات العدسة الوحيدة، التي تبدو كقرطاس معدني ضخم، إلى فخذيه. وبجواره على الأرض الخشبية قنينة معدنية يرتشف مما فيها، بين آن وآخر، رشفات طويلة. كان مساعدوه يحاولون التكهن بما يشغل ذهنه، لكن أحدًا منهم ما كان ليجرؤ على الاقتراب منه بلا إذن، إذا لم يكن هناك ما يبرر ذلك.

والحقيقة أنه لم يكن مشغولا بشئ مما قد يدور في خلد البحارة أو مساعديه، لأن أحدًا لم يعرف شيئًا عن الهاجس الذي سيطر عليه منذ استيقظ صباح ذلك اليوم بأنه سيفقد البصر في إحدى عينيه قريباً. كان الهاجس قد تمكن منه حيث أنه انشغل به عما سواه. فقد تذكر أن أباه فقد البصر في عينه اليمنى، بلا مقدمات، عندما بلغ عامه الخامس والأربعين، وكانت تلك واقعة مدهشة لأنها حدثت لأبيه أيضاً، جد مانويل، في العين اليمنى نفسها وفي ذات العمر، وبلا أية حوادث أو إصابات مباشرة.

لو أتيح لمانويل أن يعيش حتى يرى الجيل الثالث لأحفاده لعرف أن المرض الذي يخشاه بعد أن اصاب والده وجده من قبله، سيُعرف عقب حقبة لافتة من التطور لعلوم الطب، بانفصال الشبكية، وأنه بالفعل قد ينتقل عبر الجينات بين أكثر من جيل، مع اختلاف وحيد لم يكن متاحاً لجيل مانويل ومن سبقه، يتجسد في قدرة الطب الحديث على إعادة لصق الشبكية إما بضغط الهواء، أو بالسليكون، واستعادة المريض لبصره.

لكنه في تلك اللحظة حيث كان جالسًا يحدّق في الأفق، مستغرقًا في قانون الوراثة، فيما تلفح الرياح وجهه، لم يكن يعرف شيئًا عن مرض أبيه وجده. ولم يكن على يقين مما إذا ما كان سيرث المرض أم لا، رغم أن ما شككه في ذلك يعود لهذا العمى اللحظي الذي داهمه في صباح ذلك اليوم، عندما استيقظ من النوم واستمر لدقائق.

 وإذن، كان مانويل شاردًا واجمًا وذاهلا عمّا حوله، حيث بدأ يستعيد وعيه على صوت صُراخ رجل الصاري؛ الذي لمح مركبًا شراعيًا يمخر باتجاه سفينة القرصان الأحمر. 

نهض بحماس، وأمسك بنظارته المقربة ذات العين الواحدة، ونظر منها إلى حيث لمح إشارات رجل الصاري، وتأكد من صدق ما يقول. حاول أن يحدق ببصره أكثر عبر العدسة المقربة ليلمح علامة أو إشارة يمكن له بها أن يفهم إلى أي جماعة تنتمي السفينة؟ أهي تجارية يمكن أن تمثل له صيدًا جديدًا؟ أم أنها تخص واحدًا من القراصنة ممن كان العُرف يمنع عليه أن يترصدها.

انتظر القرصان طويلاً كعادته، مع رفعه حالة التأهب القصوى. المدفعان المختصان بإطلاق القنابل في ذروة تأهبها. البحارة المقاتلون، بعضهم على السطح، والبعض في قمرات خاصة، يقفون بكامل حماسهم، على أهبة الاستعداد ببنادقهم وسيوفهم، ورجل الصاري يدوي صوته، لحظة بلحظة، واصفًا ما يراه من أمر السفينة المتجهة صوبهم.

رجال المجاديف الأربع والعشرون قابعون في الأماكن المخصصة لهم، وبجوارهم يقف، وبتحفز، الأربع وعشرون بحّارًا الاحتياطيون الذين يتسلمون مهامهم بعد فترة زمنية يحددها القبطان، في عملهم التبادلي. رجل الدفّة، والبحارة المسؤولون عن توجيه الأشرعة مترقبون في أماكنهم.

لاحت لرجل الصاري حركة مريبة في السفينة القادمة أعلنها للقبطان الذي لم يتردد بعدها في إعطاء أوامره ببدء الحركة في دائرة تبدو في البداية كأنها فرار من تلك السفينة، ولكن بزيادة السرعة، وتعديل المسار إلى ما يشبه الدائرة، يتم مباغتتها ووضعها في نطاق السيطرة، وبدء إطلاق النار بلا توقف حتى يعلنوا استسلامهم.

ولندع جانبًا تفاصيل المعركة، وقدرات رجال القرصان الأحمر، في المناورة والقتال، وإرسال الزوارق الصغيرة في الوقت المناسب عندما يسود دخان القنابل المساحة التي تغطي السفينيتن المتقاتلين، وصولاً لاستسلام قرصان الصومال. نعم، لندع كل هذا جانباً الآن.

لنتوقف عند مشهد مثول القرصان الصومالي صاحب الشعر المشعث، والعينين القلقتين، حاسر الرأس، مقيدًا ومحاطًا باثنين من بحّارة القرصان الأحمر الذي وقف يتأمل خصمه بنظرة تجمع التحدي والدهشة بلونٍ من الرثاء.

هذه الشفقة ليست وليدة غطرسة أو ادعاء، بل نتيجة خبرة إحدى وثلاثين عامًا في البحار. منذ ترك مانويل أباه الفلاح الفقير، في قريتهم النائية ليحقق حلمه بأن يكون بحارًا، يرتقي أعالي البحار و يطوف الشواطئ ليرى العالم. قضى منهم ست وعشرون عامًا، بحّارا، يطيع الأوامر، ويتعلم حياة الصيد، حيث بدأ حياته في قوارب للصيادين قبل الانتقال إلى العمل في سفينة ضخمة، ليعمل على متنها.

لكنه تعلم أيضا من أبيه، الفلاح الذي رآه لآخر مرة وهو في الخمسين من عمره بعين كفيفة وأخرى تكفيه للعمل في تقطيع أشجار الغابات بمساعدة شقيقين يصغرانه عمرًا، أن العدل قوام هذه الحياة. أن الحرية فن السيطرة على الذات، والإحساس بالمسؤولية عن توازن رغباتك دون أن تمس حرية الآخرين.

هذا الدرس الذي استقر بعيدًا في وجدانه، جعله دائمًا شديد التحسس تجاه كل ما يشعر أنه يمس كرامته أو يتعرض لحريته أو يتنافى مع العدل. وبسبب طغيان قبطان مارس كل ألوان الإساءة إليه وزملائه البحارة، على مدى عامين كاملين، اعتزم، بعد ليلتين قضاهما بلا نوم، أن يثور على القبطان، لكن ذلك لم يكن من منطلق الجشع أو البحث عن الغنائم، بل من أجل العدل.

لأجل العدل بات مانويل أسابيع طويلة يفكر في إحساسه بالإهانة، ولن يستخدم كلمة الإذلال، ويستعيد مشاهد الظلم والتعسف التي مر بها زملاء له على السفينة، ثم بدأ يناقش ما يفكر فيه مع من يثق فيه منهم، ويطرح أفكاره حول الثورة ويجد له أنصارًا مؤيدين، وجبناء يقبلون بالقهر خوفًا من تعرضهم للقتل إذا تمردوا على قائدهم. وفي النهاية أعد خطته بدقة. استعان بكل أصدقائه الذين أحسوا بالقهر والظلم من ممارسات بشعة مارسها القبطان في حقهم، وبنَفَسٍ طويل استخدم كل ما يمكنه من سُبلٍ لزعزعة ثقة القبطان بمساعديه المقربين، وتمكن بمرور الوقت أن يحظى بالتأييد من عدد كبير من البحّارة، حتى أحس ذات ليلة أن أنصاره قادرين على قلب كف ميزان أية معركة لصالحه لو لم يكن له مفر من خوضها، وقد كان.

وبالعدل الذي ثار لأجله أقر مبادئ جديدة تقتضي تحديد الأهداف التي يمكن أن يتم قرصنتها، من سفن دول معادية، تجارية، أو مداهمة القراصنة الذين يقرصنون سفنًا تابعة لحكومات بلادهم، ووضع حصّة لتقسيم ما يحصلون عليه وفقًا لدرجات ترتيبهم البحري، وتقسيم نصف ما يحصل عليه بين أكثر البحارة وعمال السفينة فقرًا واحتياجًا، مما جعله بين ليلة وضحاها ليس مجرد قرصان آخر، بل زعيمًا ومثالا أعلى لنموذج العدل.

لهذا فحينما نظر القرصان الأحمر لنظيره الصومالي تلك النظرة، لم يكن يفتعل شيئًا بقدر ما كان قد تأمل القرصان الصومالي، وأدرك أنه اختار النهب مسلكًا للحصول على ثروات خيالية، أصبحت في بلاده، كما شاع، مصدرًا لاهتمام الفتيات الحسناوات الفقيرات اللائي يبحثن عمن ينتشلهن من بؤس الحال، ومن الجوع، ممن وجدن في القراصنة الجدد حلا ناجعًا لمشكلاتهن التي باتت مآسٍ قدرية لا تنتهي.

القرصان الأحمر تعمّد أن يظهر رثاءه لخصمه لأنه اختار أن يغتصب ما ليس له بكل السبل، ثروات الآخرين من أجل جشعه، وليرضي أطماعه في فتيات لم يكن ليمتلك ما يؤهله لرفقتهن، والاستمتاع بحسنهن إلا بأن يصبح صاحب ثروة بأي وسيلة.

على أية حال، فكل ما سبق مجرد حكاية من وحي خيالي، حلم يقظة يخص رواية ملقاة في عرض البحر. أما الواقع الذي أوقف انسيال أفكاري، فقد ظهر فيه القرصان الصومالي فجأة، وهو يقود فريقًا من الفتيان الناحلين سُمر البشرة ممن يبدو على ملامحهم الجوع والشره، ليعيثوا نهبا وفسادا في السفينة وليحصلوا على كل ما يتمكنون من طعام أو أغراض. ومما يؤسف له أنني وجدت نفسي، بغتة، بين يد صبي من صبيان القبطان، انتشلني وتأملني للحظات، ولا أتخيل أنه قد يكون فهم شيئًا مما تصفحه. وكنت أتمنى أن يلقي بي في أي لحظة، لكنه لم يفعل، وأمسك بي، وقفز خارجًا من الغرفة التي أخلاها زميل له من كل ما حوت من أغراض قاسم.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون