فصل من رواية “رميم”

رميم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. فضيلة ملهاق

        انسحبتُ من دون أن ينتبها. وطئتُ عوالم لم أعرفها قبلا، كان جسدي يجوبُ الطّرقات، والأفكار تطوفُ في ورأسي. تعدّدت المحطات ولم أصل بعد إلى الدار. ساورني إحساس بالتيهان. قشعت ذكريات بعيدة، بثت فيّ شعورا بالإرهاق.

       لطالما حلمت بأن يكون لي عالم خاص، ورواية خاصة، ومدينة بلا حدود، ولا بشر، ولا زمان.. أستمتع فيها بمعجزة اللّامألوف، ووجدتُني، بعد دوّامة طويلة، شقِيّةً بتكدُّس الأسئلة في رأسي. هذا الرأس الذي تمنيت دوماً أن يرتاح من اللّف والدّوران على صدر حنون.

     كنت أتمنى أن ألقى المرآة التي تعكسني على صفحتها كما أنا، والقلب الذي يستبقي إحساسي بنبضه، لا بانقباضاته، وهو ما لم أكن أجدُه مع نعيم. حدث ما كنت أخشاه.. حلمٌ طويلٌ، ونضالٌ، وصبرٌ، ثم لا واقع ولا حلم. أرهقتني النتيجة. خار تركيزي وتثاقلت رجلاي. هاجمتني نفسي قائلة:

 ـ  أنت تعيشين في زمن وغيرك يعيشون في زمن آخر ! تحلمين أحلاما ما خلقت لتكون! تدبّ فيك التصورات المثالية دبيباً، تارة كالملاك الحر الطليق، وطوراً كالعبد المُكبّل، الذي يحرث أرضا لا تحتمل وزنه. للأسف، ما أنت فيه لا يشفع أدنى شفاعة لما أنفقته سدى من حياتك. ضيّعت فرصاً كثيرة في مسيرتك الطويلة، من أجل وهم اللوحة التي يجب أن تستوعب حياتك. انفرطت شعيرات من الفرشاة بيمين طموحاتك، وانسحقت ألوان بيسار رغباتك المعلقة ما بين السماء والارض. أفلا تعقلين؟! لن تكون لك يد ثالثة تُسبّلينها لخزعبلات تُسمينها ” ضريبة السعادة”.

       هل أنت حقا سعيدة؟!

     السعادة لا تعني لك فقط ثراءً، وجاهاً، وصعوداً إلى قمم المراكز والمناصب، السعادة هي الإحساس بطعم الحياة، والطُّمأنينة، والراحة.. فأين أنت من كل ذلك؟

     إلى متى تعيشين تلك الخدعة! تظنين نفسك فعلا مميزة وتستحقين الأفضل! أنت امرأة بلهاء، مُغفّلة، خدعوك بقولهم لك “مبدعة”، “عبقرية”، “جميلة”.. لست فقط بلهاء، بل أكثر من ذلك، لا دواء لكِ! تتحركين كما يتحرك جُرْم خارج نظام المجرّة، وتنظُرين إلى عالمكِ، الذي لا يخلو من الزّيف عن عالم الآخرين، وكأنكِ إبرة ميزان الحقيقة. أفيقي، الحقيقة ليست أنتِ! 

   أنتِ مجرد غبار من أغبرتها، ولا داعي للنعيق بكونك منكوبة الأحلام، مًنتكسة الطموحات، ماذا فعلت لتستحقّي شعور المُعذَّبةَ ببطولتها؟

   كبست الهواجس على أنفاسي، وراحت نفسي تُغالي في اللوم. بلغت علاقتي بـ “نعيم” درجة تستدعي الحراك. كانت تلك الحياة التي تبدو هادئة، وجميلة، قشرةَ سعادةٍ بلا لُب. كنت أشعر بالملل، بالفراغ الصاخب، مجرد ابتسامات زائفة للتحايل على إدراك الآخرين.. وفي النهاية مللت وشعرت بالحاجة لثورة صاخبة.. لاقتلاع كل شيء من جذوره، وإعادة تشكيله من جديد. جرّبتُ الثورة الهادئة، ووجدتها فلسفة مُضنية. ذكرت له ذلك يوما، بما يشبه الهمس، فضحك على غير طبعه ضحكة مُزلزِلة، وقال: 

 ـ الفلسفة هي وسيلة العاجز، القادر لا يتكلم، بل الفعل، حتى في الطّب، وهو علم الملموس، اخترتِ تخصُّصًا يُفلسفُ الفحص.. وكأنكِ لا تجدين عقلك إلا في الجنون!

  في تلك اللحظة، انطبع وقع عبارته المستخفة على ملامحي المنعكسة في المرآة العاكسة. تفاجأت بملامح امرأة منقوعة في صرخة أجيال من النساء. جلست على المقعد الخلفي للسيارة وراحت تُعنّفني، بشكل غير مسبوق:

–  لصالح من تتجنينني كل مرة وكأنني وباء! أطرديني هذه المرة أيضا واستمرّي في تكبّد ضريبة ما تُسمّينهُ الاستقرار! أنت ومثيلاتك تُمثّلن بنات حواء أسوأ تمثيل. عالمكنّ غريب! يحارب العبودية وهو يستلذّها، ويرفع شعارات ضد الظلم وهو يتأبّطه. الارتباط عندكن مجرد مقاربة تمثال لتمثال. كل طرف يراهن على التمثال الذي يصلح للعرض في متحفه، مجرد لوحة للعرض.

    ها أنت ذا صُلْت وجُلْت في ربوع الأفكار والتجارب، وغُصْتِ في أغوار الأنفس. واجهي نفسك بصراحة، واسأليها كم من مريض أعجزكِ أمر الجزم بجنونه أو تعقله، واعترفي بأن أولى عيوب عالمكِ هو أنّه لا جهة له، يتجنب البوصلة، يخشى أن توجِّهه نحو الجهة غير المرغوبة.

     تُريدينَ عالَمًا على مقاس تقلبات مزاجكِ. أنت تتصفّحينَ واقعكَ كمعطيات رواية. تُحكّمين الخيال في أمور الواقع ! أقصى ما تفعلينه هو أن تُشخصي انفعالات بذاتها.. وما عدا ذلك؟! هل تملكين الجرأة الكافية لتُحدّدي واقعكِ من خيالها؟ أو في الأقل ثوابِتكِ من مُتغيّراتِها؟  بيتك صار بيتاً غريباً، ومؤشرات النزوح نحو الفوضى تتزايد. القلعة الزوجية أضيق مما تصورتِ بكثير، حدودها تنتهي عند أبوابها، وأي رغبة تتسرب إليها من الخارج، قد تهدُّ أعتى ارتفاعاتِها.

  قالت تلك المرأة ثم أضافت تستجوبُني:

– ألست تظلمين حياتكِ؟

رحت أشرح لها سبب تذمّري:

ـ أنا لا أتحدث عن حياتي بالذات، تُدركين أن ما نُظهره للعيان فيه الكثير من الزّيف، براءتُنا يحكمها الكثير من المُسوخ.

ارتفع صوت تلك المرأة، من حيث كان مكوّماً خلفي، ببلاهة:

 ـ من كان يظن أن هذه المرأة المثقفة، الجميلة، تستطيع أن تُخبّئ هذه المكبوتات كلها؟

  لم يعجبني نعيقها. ضغطت على الفرامل وتوقفت. وجدتني عند مدخل البيت. لم أشعر بما مرّ من الوقت، ولا كيف وصلت، ولم أهتم لمناورات تلك المرأة في إطالة أمد الحديث بيننا. انشغلت بترتيب مواجهة بين الناّسك وتلك المرأة التي جرّها القدر إلى حياته.

    لم يعد اسمها (حياة) ولا ظلَّ اسمه (عيد). أصبح يُسمَّيان (غريب) و(غريبة)، وتغيرت ملامحهما ونبرتهما. كان يدير لها ظهره ويتصنّع النوم. أصبحت تلك هي عادته منذ اختفت (كاوس) فجأة من حياته، يستلقي على الأرض، ويجنّد تركيزه، لعلّ نبض الأرض يوصل إلى سمعه وقع خطوات جديدة. استلقت (غريبة) جانبه. أمسكت بحزمة من النّبات وضغطت عليها بشدة تفضح شدة انضغاط أعصابها، ثم قالت له ونظراتها مُثبّتة في السماء:

 ـ متى؟

فتح عينيه ومدّ بصره نحو البحر. سألها بعد ترّد، من دون أن يلتفت إليها:

 ـ ماذا؟

 ردّت بنبرته السئمة ذاتها:

ـ متى سنعود كما كُنّا؟

فكّ عقدة يديه المتظافرين. انتفض من مرقده، واعتدل في جلسته. سألها باستغراب:

ـ تريدين أن تعودي جُثّةً كما كُنْتِ؟!

ردّت عليه من دون أن يتحرك لها جفن:

–     وماذا أنا الآن؟

–    أنت معي.

  أنت معي، “أنت معي.. !

    ردّدتُ أكثر من مرة. تردّد المشهد في رأسي، وراودتني أكثر من فكرة، ولم أُفلح في أن أفتعل له نهاية تُكمّد وجعي. جمدتُ في مكاني. لم أقو على النزول. فكرت في أن أنطلق بالسيارة إلى مكان لا أخشى فيه أن تنزل معي بعض تلك الأفكار، لكن رغبتي في أن أقرأ تفاصيل ذلك المشهد غلبتني.

    سحبتُ المفاتيح بحركة واحدة وأسرعت إلى البيت. مددت يدي إلى رفّ المكتبة فعادت خائبة. لم تعد إليّ بالرواية التي أريد. وجدتُ مكانها مخطوطا آخر. لم يجذبني إحساسي إليه. فلم أكن قد قرأت رأيتُ بعد تلك الرواية التي تشغلني غِلافًا، ولا قرأتُ لها عنوانا، لكنّ إحساسي بها كان يُميّز حجمها، وشكلها، وموقعها بين الرُّفوف.

   فكّرت بمكان يمكن أن يصلح مخبأ للنفس. فتحت دُرج المكتب فإذا بها تندسُّ بين مجموعة من الملفات. لم أهتم هذه المرة أيضا بقراءة عُنوانها. رحت أُقلب الصّفحات بارتباك. ارتسمت على بعضها إشارات نفي وتوكيد، بقلم الرصاص، وكأنها خضعت للتّصحيح، والتنقيط، ما تخضع له ورقة امتحان. استنتجت أنها قد وقعت بين يدي “نعيم”، وأنه قد استبدل الرواية التي تشغلني برواية قد تكون تشغله.

    تراقَصَ عنوان البديلة، في نفسي، تراقُصَ بهلوان حول جرح ينزف: “بداية”. أعدتُها إلى مكانها، بلا اكتراث، وحرّكتُ شفتَيّ أمام المرآة، بشكل يُدربّها على أكثر من حوار. برق نابٌ لم أره قبلا. كان لتلك المرأة التي رافقتني باللوم خلال طريق العودة.

    أمسكت به، وثبَّتُّ به قلقي على صفحة معينة. لم يعنني أن تكون تلك هي المقدمة أو الخاتمة. المهم أن أستقر على مشهد خالص لدواخلي. استلقيت في حوض الحمام، وتركت الماء يندلق على رأسي للحظات، لعلّني أصبأ من الأفكار التي تسترجئني.

     شعرتُ بالاسترخاء. لبست (الروب) ودخلت إلى الغرفة. كان “نعيم” على السرير، مُتّكئا على مخدة، ويمسكُ بيده مجلة متخصصة في الطّب. استفزّتني صورة جسد يُعاني من سوء التغذية، زادت من حدة شعوري بالجفاف، والقحط. استلقيت جانبه. راودني أكثر من سيناريو، راجعت بيني وبين نفسي أكثر من عبارة، وعندما نطقتُ، لم تثبُتْ سوى عبارة واحدة. بادرته وعيناي مُثبّتتان في السّقف:

ـ متى؟

أجاب بارتباك:

– ماذا؟

-متى سننفصل؟

   نزع النظارة، وثبّت في عيني نظرات خالية من الانفعال، قبل أن يرد بنبرة تجمع بين المُهادنة واللوم:

– وهل التقينا لننفصل؟! لازلت لا أجِدُكِ وأنت بجنبي. تُركِّزين على السّقف وتتجاهلين ما يحدث في القاع.

ألححتُ ببرود:

-متى؟

    لم يُجبني. أعاد النظّارة إلى عينيه، وعاد يركز نظراته على ما كان بين يديه. تدفّقت الدماءُ إلى جمجمتي. لسعتني لامبالاته. اختطفتُ المجلة من بين يديه، وأعدت طرح السؤال، بنبرة تُنبئ باندلاع حريق مهول:

-متى سننفصل؟

ثبّتَ نظراته في عيني مرة أخرى، وقال بالبرود ذاته:

ـ ما بك؟

قلت له بنبرة أكثر حِدّة:

–  الحياة مرة واحدة. اخترتُكَ زوجا لأعيش، وليس لأندفن.

    داعب طرف أنفي بيده ثم قال بنبرة تجمع بين المزاح والجِد:

–  نقول اخْترتَني زوجةً، وليس اخترْتُكَ زوجًا. على كلٍّ، تشفع لك سنوات تعاملك مع المجانين. كان الله في عونك!

  ازداد توتّري. لم يعجبني أن يستصغر الموضوع. شعرتُ أنه يعاملني كشيء مُؤمَّنٍ عليه من الخسارة، مضمون. انفعلت. حدّقتُ إليه بنظرات حادّة. كانت تلك المرأة التي رافقتني خلال الطريق لا تزال تلازمني، وتُؤلبّنُي على تعاليه. همّت بأن تحرر كل عبارات الاستنكار المتراصة على طرف لساني، لكنه كان قطع الطريق على كلتينا، وقال بنبرة هادئة:

– لديكِ مفكرة جميلة. أفكارك عميقة، ودقيقة، لولا بعض الأحكام المُتسرّعة، لا تخنُقي الآخرين بأنّاك. اتركي لهم فرصة أن يتنفّسوا على ورَقكِ. للبدايات والنهايات قياسات، ومفاتيحٌ، لا تتماشى بالضرورة مع خرائطك الذّاتية.

…………………

* فصل مقتطف من رواية “رميم”.. صدرت عن دار هاشيت أنطوان- نوفل- بيروت، لبنان، أوت  2019)

 

مقالات من نفس القسم