فصل من رواية “رائحة النعناع”

رائحة النعناع
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد العليم

البنت وحفلة عشره والأكل عند كشرى لوكس. تلك كانت مسلمات لدى طلبة الجامعة في أوائل السبعينيات.

شعر سارا مایلز ما زال يتطاير على الشاطی الأيرلندي، مازالت تحفة دافيد لين تسيلنی حنانا ورقة حتى المهزوم روبرت ميتشوم والخائن التراجيدی ریان والأبله مايكل، وحزني على الضابط النبيل الذي انتحر – مازالوا أحياء في ألق الروح.

– ماك كيك كو.

– سو تیت تو

هكذا كنا نتحاور بالانجليزية ونحن نهيئ قبضاتنا للقتال.

 أنا وأخي الصغير واقفان في السطح بالبيجامات الكستور نقلد ماقد شاهدناه في الفيلم الأفرنجی.

ذلك كان بعيد جدا.

بالأمس فقط رأيت ابنتيّ وداد وسوسن تتحدثان نفس الانجليزية.

– غزل غوز.

– غزل غوز

 منذ مساء الثلاثاء كانت روح الصبی تبدأ في الرفرفة، من أيامها وهو يعشق يوم الأربعاء، إنه اليوم الذي يلقي فيه برنامجه المميز عن الشعر والشعراء في الإذاعة المدرسية، وهو اليوم الذي تختزل فيه حصص الدراسة إلى حصتين وما يتلوهما للرسم والمجالات، وثالثا هو الموعد، والموعد يلغى فيه الغطس.

كانت أمي توقظنا بغلظة وجلبة لغسل الوجه والإفطار وارتداء الملابس للذهاب للمدرسة، وقتها – لم تكن الجنة نفسها تعادل خمسة دقائق زيادة كنا ندعوها بالغطس في الفراش الدافي

– والنبي يا ماما.. هاخد غطس،

لكنها الماكرة كانت تتحسب لذلك مقدمة، فتوقظنا قبل الموعد المحدد بربع ساعة. إلا يوم الأربعاء.

كانت تجدني مستيقظا مرتديا ملابسي وقد دلقت على تفسی من كولونيا أبي المستوردة، أظل قلقا في النافذة حتى أجدك يا صافي قد انبثقت أمام منزلكم، أعد حتی خمسين للتمويه والتريث ثم أخرج، أقفز إلى جنينة عم

حنا وأقطف باقة من الريحان وبعض أعواد النعناع أسير في لفلفات معقدة حتى نلتقي في النقطة المحددة على بحر يوسف، وصوت عبد الحليم حافظ ينبعث كالوجد المذاب من الهورن المعلق على عامود فراشة خشبی سمی منذ أيام ۱۹۹۷ والدفاع المدني – الإذاعة المحلية لمحافظة الفيوم: عشانك يا قمر .. أطلع لك القمر.

في زمن سابق حزنت على محمود عزمي، كل الذي عرفناه وقتها أنه سكب على نفسه الجاز وأشعل النار وخرج إلى الحارة كتلة من اللهب.

عندما وصلت عربة الإسعاف قال من يرتدي بالطو أبيض: مفيش أمل.. النار وصلت لبطنه. وانتشرت القصة في السيدة زينب كلها وجاءت في الجرائد

بعدها بسنتين (يحكي من شاهد الواقعة) فوجئنا بأخيه أحمد عزمي يطير في الهواء من شقتهم بالدور الثالث وينهبد على أرض الحارة ذات البلاط الأسود المضلع.

أكثر من شخص قال إنها عائلة انتحارية

كبرنا قلیلا وعرقنا السبب، أهل ماجده رفضوا أن يزوجوها له رغم عشقهما لبعضهما البعض.

لم يمت أحمد عزمی، تشوه فكه الأسفل وارتدي نظارة طبية، تزوج من البنت وانتقل للإقامة في شقتهم، أنجبا ولدا أسمياه محمود، تخنت ماجده بطريقة بشعة واشتغل أحمد في شركة المقاولون العرب، وبقيت أخته فوقيه في الشقة بمفردها تطل على حارة المحتسب وتسرح في صلاح هاشم الولد الوسيم الذي عمل فيما بعد في البحر وعالم السفن.

لم يرفضها صراحة، علل عدم اهتمامه بها بأنه مرتبط يعشق أكير وحدده (مطلق الماء) – لكنه قال بشكل عارض : ليها شنطة كبيرة.

كله كوم وحزني لحظتها كوم آخر، انسحبت إلى الداخل، أسندت رأسي على زجاج شباك السيارة الجانبي.

– السرطان وصل لدمه.. ارجعوا بلدكم أحسن.

 عائدون نحن، مجموعة من الفلاحين البلهاء، قافلة

صغيرة من البشر يطوون نفوسهم على خوف ورهبة من العاصمة، يشعرون بعدم الأمان من المداخل الباردة للبنايات العالية ومن أفيشات الإعلانات المضيئة ومن الزحام.

من كان يظن أننا سوف نذهب ونجيء ونرى كل هذه الأماكن ونتعرف على كل هؤلاء الناس وننفق كل هذه النقود وأدعي أنا (بيه) وأمی (ست هانم)؟

من حين لآخر كنت أداعب المريض أبي فكان يبتسم، وكنت أتساءل في داخلي: هل اقتربت النهاية ؟

لا أزال أتذكر ذلك جيداَ.

الغريب أننا عندما وصلنا إلى الفيوم بكى أبي بحرقة، هنا وجوده، هنا ألوهيته الحقيقية، في منزله وبين صغاره هو، ليكن قد عاد لأنه لا فائدة – لكن المهم أنه عاد وأصبح في مكانه الطبيعي. حتى القط أخذ يموء ويتمسح وكأنه سعيد بعودة سيده، مد السيد يده يمسح على رأس القط .

بعودتنا استردت أمي عرش ملكها الحقيقي واستعادت حدة طبعها (إلى أين فارقها حزنها على أبي الذي سیموت خلال الأيام القادمة؟) ، زغدت القط : یاخی غور.

وابتسم أبي.

 لم أنس.

يوم أن أحضرته خالتي بطه قالت إنه سیامی من الأصلي وفي مؤخرة ذيله عقده، وقالت إنه يأكل جبنة رومی وسالمون ولحمة فقط، أعطيناه أرزا وخضارا، فلم يقربه، قالت أمي : سيبوهولی

حبسته أمي في الحمام أربعة أيام كاملة حتى أننا خشينا عليه أن يموت بعد أن خفتت نونوته جدا.

في اليوم الخامس أعطته عيش حاف فأتى عليه في ثوان، من يومها وهو يعرف قدر أمي جيدا ويأكل ما تتفضل عليه به .

إلى الآن – وقد اشتريت شريطا يحوي هاتين الأغنيتين – عندما أسمع (الويل الويل ) و (أنا كل ما أقول التوبه) أعود إلى من كنته.

أستيقظ بعد عشرات الغطسات وأسأل عن الساعة فأجدها ما زالت العاشرة، آخذ النقود من أبی وأخرج لشراء إفطار الجمعة المتميز، عيش فينو ساخن وحلاوة طحينية، تصنع لنا أمي الساندوتشات ونجلس فآكلها في نهم بينما وشيش وابور الجاز يأتينا من الحمام، فوق الوابور ترقد الصفيحة اللامعة، عليها الرسم الذي يشبه مروحة يدوية وكتابة سوكونی – فاكوم، وبداخلها المياه الساخنة استعدادا للحموم.

استحم – بينما تنبثق من الراديو الخشبي الكبير – الذي عليه صورة كلب يتحدث في بوق جرامافون – الموسيقى الأسبانية المميزة لبرنامج ما يطلبه المستمعون وقد فاح المنزل برائحة بخور.

أرتدي ملابسي، پيدأ نقل شعائر صلاة الجمعة على موجة إذاعة البرنامج العام، وتكون خالتي بطة هائمة في أنحاء الشقة، تلف حول شعرها شبكة من الخيوط الرفيعة، تحت الشبكة يرقد شعرها المبروم على الرولو.

أخرج لصلاة الجمعة مع أبي، من أيامها وصلاة

الجمعة تمثل لى العرق وضيق الجلوس في الشمس والقلق إلى الانتهاء

في زمن آخر صرحت لأبي بحكاية ضيقى هذه، ضحك بشدة، قال: طب كنت تقول.. كنا نقعد في حته ضل.

الركعتين ـ ثم العودة للمنزل، وأتعلل بأننی خارج لقضاء أي شيء وأهرول إلى نادي فارق لأراك يا صافی، تكون الساعة قد اقتربت من الثانية ظهرا فتتصاعد من مطبخ النادي الأرستقراطي الذي أنشأه ملك مصر السابق – رائحة شواء.

حتى لحظتي هذه – كلما شممت رائحة مثلها تقفز إلى ذاكرتي صورة منشاة لطف الله، الحي الراقي ذو الفيلات المحاطة بالجناين وتنبثق في ذهنی شخصیات ۱۹۹۸ الفيومية.

تماما – مثلما تنبثق في ذاكرتي شقة فكری نسیم في میدان الجيزة، وشكل كتبه المكدسة، وطعم البراندي الذي يحبه، وصوت بيانو شوبان، ووجه أخته الجميلة تهاني – عندما أشم رائحة الصابون الكامي الأحمر.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون