فجر يوم جديد

حسين عبد الرحيم: "زووم إن" مرثيتي الجديدة عن فردوسي المفقود "بورسعيد"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم
سحبت سيجارة زرقاء. وتركت الأبيض والأسود والأحمر. فعلت عكس مارتبت قبل نومي، بعد منتصف الليل بساعات.  كانت طويلة أظن. قرأ بعض الآيات المنجيات. وضحك.  ثم قرأ آية الكرسي.  ونفض الفراش مرات ثلاث وضحك. عكس ماتعود قاصدا الابتعاد قدر المستطاع عن أطياف الرماد في ذاكرته. كل ليله. يتمدد وقد طالت الساعات في يقظة تحييل للجنون.  يقطعها كل حين بالنفور من خنقة ما يترك على أثرها الفراش. متوجها للنافذة الغربية المطلة على الكورنيش. يتأمل شجرة السروالوحيدة المنتصبة في خلاء الحديقة المعتمة. صامته جرداء بلا عصافير حتى الندي لم تعد تستقبله.

يشعلها، الزرقاء الثالثة، يحاول طي صفحات الماضي خاصة عندما تدلت ستائر غرفة نومه البيضاء وتطوحت في الهواء لتصعد الشراشف لأعلى السقف دون هواء يذكر إلا من هوى حسي. تمنى أن يطيح بكل الثوابت في حياته الراكدة. واحد وعشرون عاما في نفس البناية.  تتوسط البلد واقعة مابين أطراف برجوازية مخملية عتيدة وأخرى دنيا. يفصلها عن العشوائية بعض الحواجز الأسمنتية التي تنتصب بعمارات رمادية بلا طلاء. يطل على منفضة السجائر.  يحصي الأعقاب في بلاهة.  يعود لسريره محاولا النوم ولو لساعتين.

لم يذهب لعمله منذ ستة أيام، يشعل سيجارة أخرى. ويسعل ويشعر بخنقه يفتح أزرار التريننج سوت.  يتأمل شعيرات بيضاء بزغت من وسط صدره. ليتذكر الفيلم السخيف لممثل مخنث لم يقتنع يوما بأدائه إلا بعدما تخطى الخمسين من عمره. لحظة الصدق الوحيدة في أدائه التمثيلي، والحياتي أيضاً. وتلك التحديقة الشهيرة للمرآة بفزع. وخشيته من هتك عرض بنته البكر في فيلمه الوحيد، سكوب. ولقطة في بان تستعرض سريرها الخالي، وإيشارب أحمر حرير. وشراشف دانتيل من كلوت أسود فرنسي يتدلي من فرجة درج الكومود. وخصلة كستنائية طويلة منسية تتمدد على مفرش وردي لسرير أبيض بوسادة وحيدة صغيرة.

لم يزل شاعرا بضيق وخنقة في الروح.  اليوم أكمل عامه الواحد بعد الخمسين.  دون احتفاء يذكر، إلا من شمعة وحيدة للتدفئة. ضرب ضلفتي النافذة. فتخلص من جاكت الترييننج. أطل للسماء باحثا عن نجمة وحيدة. ليتذكر مخرجه الثمانيني المفضل. والمولع بالقمر. كان وحيدا. وهو لم يزل يتأمل وقفته. وحيدا أيضا إلا من بنطال قطني ونصفه العلوي بات شبه عارٍ. وثمة ترانيم وطيف لحادي الجمال في صحراء ممتدة لها ثلاثون عاما، لو يعود به الزمن. للعام الخامس والثمانين. لوقف بحق على ما كان يفعله ضي القمر بروحه ونفسه.

زاد إطلاله على قرص قمره التائه في الغمام، الفجر يقترب وهو على موعد مع البهجة في السابعة صباحا. حاول أن يهاتفها ليسمع صوتها. للمرة الأخيرة قبل النوم أو الموت. نعم الموت. الذي زاد هجومه على روحه هذه الأيام بلا نهاية لتلك التفاصيل المكرورة كل يوم. نفس الطريق.  والنظرات والطلل. لطفليه وشراكة مستحيلة وأصوات تتعالى في اذنه كل ليله نعم كل ليله.  يناديه جده الكبير من أعلى مئذنة قبل بوابة المتولي، ليهيم في مسارات متعرجه بباب الخلق، يسعي ويتأمل تلك الأبواب المقفلة.
منذ عقود، فرغت علبه السجائر،  ففتح الثلاجة وسحب بقايا زجاجة الفودكا، تردد في التجرع،  متاملا الزجاجة البيضاء التي أهداها له صديقه ضابط الجيش. ضحك عندما تذكر ليلته الأخيرة قبل الزفاف، وقسمه أن لايعود للخمور.

السماء سوداء والفجر يزحف في عجالة، وهو قابضا على أعمدة النافذة الحديدية المزدانة بزهور بلاستيكية لعباد الشمس، وهالات تتشابك بأطياف شيطانية تتمدد ببطء في سقف الغرفة لتتعاظم مع دخان السجائر عابرة شرفاته تتطوح في البعيد، ترسم طفلا باكيا يرتدي حلة مزركشة يلوك بيديه في وعاء نبيت قاني، مخنوق بين إطار مذهب بسترة حمراء من الجوخ، الجدار يبتعد عن مرمى بصره ووقفته.  يتخطى تفاصيل وجنبات شقته.  صوت خفي يناديه باسمه.

ـ تعال يا يحيى… تعال انهض. أنا في انتظارك
تخطى العتبات.. فتكرر النداء..
ـ يحييااااااا؟!!
 انهض، اقترب. .
يقلب في صورة القديمة الموضوعه على مكتبة الزان البني العتيق.  يسحب قلما رصاص. ويرسم سفينة ركاب من خمسة أدوار. ويفرد أصابعه في الهواء متدليا بأطراف الأنامل خارج النافذة بعدما طوح ذراعه الأيمن للخارج صوب سماءً لم تزل سوداء خرساء إلا من ثمه هسيس وعسعسة ماقبل النهار. نعم هو أحسها هكذا. قرب نهار ما آت. ليس جديدا ولكنه يكمل تكرار المسار ومشواره الطويل مع بدء العقدالسادس في ظل بهجة منتظرة جاءت صدفة. أو قل قدرا مقدوراً.  هاتفته بالأمس كريستينا البيروتية. فجأة دون أي اتفاق مسبق. دعته للمقابلة في وسط المدينة.  قريبا من مدرسة الفرير قالت له:
ـ سأنتظرك في تمام السادسة وخمسة عشر دقيقة. لنتناول القهوة الفرنسية في كوستا لنغادر للإسكندرية..
وأكدت :
ـ أظنها كانت رغبتك.. وهي أيضا حلمي.
اجتر ماكان في آخر لقاء، في ظلال أشجار النوبر
في شارع صهاريج المياه أو رياض السنباطي مؤخرا.  وطلل الأشباح في الليل البهيم خلف أسوار الميرلاند والأسفلت الأخرس.  ولحنا كلاسيكي عتيق وزخم يعينه بالسلوى. يا. حبيبي أيقظ الماضي شجوني. .
يضحك في جنون وبلاهة ممرورا من نصفه العلوي العاري تماما، تدمع عيناه مع تحديقه للشعيرات البيضاء المنثورة في صحراء جسده المتهدل. لترتخي جفونه مابين الفجر وشقشقة صبح غاب في رماد أعقاب السجائر.

…………
*مقطع من “يوميات البناية”

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون