فانيليا.. وسقوط أقنعة الواقعية

الروائي الكبير سيد الوكيل ..ملف خاص
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سيد الوكيل

“… هز رأسه ثلاث مرات، محاولاً طرد كل هذه الهواجس السوداء من الاستقرار، مبرراً لنفسه أنها فترة مؤقتة وستمر بهدوء، وأنه بالتأكيد سيكتب أشياء رائعة، فقط عليه التحلي بخصائص الصياد: المراقبة، والصبر، واقتناص اللحظة المناسبة، أراحه قليلا ما توصل إليه، فأخذ يكرر لنفسه: نعم أنا صياد.. صياد.. صياد. ابتسم الولد ساخرا، وهو يتخيل نفسه يحمل مقطفاً ممتلئاً بصيده، ويقعد على ناصية الشارع، وهو ينادى بصوت عالٍ: سمك صاحي.. الحق نصيبك.. سمك طازة..».

جاء هذا المونولج على لسان الراوى فى رواية فانيليا لطاهر الشرقاوى، والراوي هو نفسه شخصية من شخصيات الرواية، كاتب شاب جلس على المقهى وراح يفكر ماذا يكتب؟ كان يتأمل مشاهدات الشارع لعله يلتقط مشهدا صالحاً للكتابة. وفى هذه اللحظة تلتقط عيناه بنتاً تخطر على الرصيف المقابل حافية القدمين، فيقرر أن يكتب عنها.

يمكننا ملاحظة ـ فى المشهد السابق ـ تغير نبرة الراوى من الجدية والتوتر إزاء هاجس الكتابة والمعاناة من أجلها، إلى التمثيل الساخر للكاتب ـ في نهاية الشاهد ـ بصائد السمك الذى عليه أن يجلس على ناصية الشارع ينادى على بضاعته.

إن هذا التغير ـ فى حد ذاته ـ بمثابة محاكاة ساخرة لتاريخية العلاقة بين الكاتب والكتابة، وتحولها المثير ـ فيما بعد الحداثة ـ من معنى الجد والمعاناة إلى اللعب واللذة، من رسالة ملهمة تهبط على كاتبها هبوط الوحي، إلى ممارسة يومية وأداء سلوكى بين أداءات الحياة المعاشة، حتى أنها تمارس بلاطقوس من أى نوع، على المقاهي وفى الطرقات. ربما تحتاج إلى نوع من المطاردة والملاعبة والتحايل، كما يتحايل الصياد على رزقه ويتلمس أسبابه من مراقبة وصبر وتحين للفرص، كما نلحظ وعي الراوي-الكاتب لخضوع الكتابة إلى شرطى العرض والطلب كأىة سلعة مطالب صاحبها بأن ينادى على بضاعته. إنه وعي بخضوع الكتابة إلى قيم الاستهلاك.

وظنى، ان هذا الشاهد لايفسر مفهوم طاهر الشرقاوى للكتابة وحده، بل ينسحب هذا على أغلب كتاب جيله، الذين اسقطوا أقنعة القداسة عن الكتابة، فالكاتب ليس عرافا ملهما يمتلك بصيرة تجعله يشوف مالا يراه الآخرون، والكتابة ليست عملا كهنوتيا يوحى به، بقدر ماهي إمكانية من إمكانات الحياة اليومية، إنها أقرب إلى لعبة تحتاج قدرا من المهارات الخاصة ومعرفة بكل قوانين اللعبة، وهي كأىة لعبة تتم بين أطراف عديدة، الكاتب والكتابة والمكتوب له.. ثم المكتوب عنه، الذى لم يعد مجرد مادة صماء محايدة ملقاة فى الطريق، إن هذا الحضور القوى للعالم قبل الكتابة يسهم فى إسقاط أقنعة القداسة عن الكاتب، وكأن الكتابة لاتضيف شيئا إلى معنى الحياة بقدر ما تنعش فينا القدرة على الاستمتاع بها، إنها فى ذلك مثل أىة لعبة يتشارك اللاعبون فى المتعة بنفس القدر، وكأىة لعبة فإن المعنى والجدوى كامن فى اللعب نفسه.

وبهذه الطريقة ينجح السرد فى رواية فانيليا أن يضع القارىء داخل حلبة السرد-اللعب، شريكا مفعما بالإثارة والدهشة والتشوف وهو يقص علينا أطرافاً ونثارات غير مكتملة أو متصلة على نحو تتابعى، فليس ثمة مركز حاكم وموجه للسرد بل طاقة دافعة وحرة فى اتجاه العالم المحكى عنه، ونتيجة لذلك فإن السرد يمضى عبر وحدات أو حلقات كل حلقة أقرب إلى قصة قصيرة تكشف جانباً من جوانب حكاية البنت صاحبة القدم الجميل، لكنه لا يتمركز حولها بل ينطلق منها ليفتح أفقا قريبا على العالم المحيط بها بما فيه من شخصيات وأماكن وعلاقات بسيطة وبنفس القدر من الشغف والاهتمام الذى تسرد به حكاية البنت.

ومن ناحية أخرى فإن كل حلقة سردية تقدم لنا دلالتها عبر مجموعة من المشاهد البصرية والإخبارية من غير الولوج إلى تفاصيل مرهقة، فالسارد يعمل آليتي الحذف والإثبات فيظل السرد متوترا مشدودا فى كل لحظة كأنما يبدأ من جديد، فالحلقة الرابعة من الرواية تعيد إنعاش السرد بمجموعة من الأخبار المثيرة فى حياة هذه البنت، تجدد علاقة القارىء بها وتضيف بعدا يعمق غرائبيتها وطزاجتها كأن تحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين، وأثناء ذلك تتخذ قراراً بأن تنهي هذه الحياة في الخامس والأربعين، وهكذا يتحول اهتمامنا من تأمل معانى الميلاد والحياة إلى تأمل معانى الموت حين تشغلنا البنت باختبار طرائق عدة لإنهاء حياتها بعد عشرين عاماً، إن معانى الموت والانتحار تقترن لدينا -عادة- بمشاعر الأسى والسوداوية، لكن السرد يكسر هذه المشاعر لأنها تقع فى زمن استباقى لايدركه السرد، كما أن روح اللعب تحوم طوال الوقت حول النص كله فنحن لانأخذ أى شيء هنا على محمل الجد الذى يعمق فينا نوازع التوحد مع المسرود، بل نظل متشوفين فى كل لحظة إلى مفاجأة جديدة تحول مسارات السرد لوجهة أخرى تماما. كما أن الطابع الغرائبي الذى وسم صورة البنت ـ منذ البداية ـ من شأنه التمهيد لكسر أفق التوقعات، وهكذا فالقارىء لايستسلم تماما لتوقعاته عن حياة البنت المليئة بالمفاجآت والإثارة، ولا يثق ـ من ناحية أخرى ـ فى كل ما يقدمه السارد عنها، لقد تحول موضوع الموت إلى لعبة مليئة بالإثارة والمفاجآت كالذى يحدث مع ألعاب الجرافيك أو أفلام الكارتون، فالبنت ـ نفسها ـ ومنذ اللحظة الأولى تظهر لنا كشخصية غريبة الأطوار تكسر منطق الحياة اليومية المعتادة وكأنها لاتنتمى إلى هذا الواقع. كما تكسر تراتبية الأحداث وتسلسلها من خلال بنية سردية متشظية وموزعة فى إيقاعها الزمني.

إن زمن السرد يمضى عبر دفقات صغيرة ومؤقتة بمعنى أنها دفقات لاتمضى إلى نهايتها بل تتوقف بغته لتبدأ دفقة جديدة وكأننا أمام مجموعة من التوقيتات السردية أو وكأن السارد يمسك بساعة «stob watch»، وهذه الخاصية تمنح السرد فرصة استخدام تقنية التزامن، أو التوافق الزمنى حيث يتزامن قيام أكثر من حدث فى وقت واحد، فإحدى حلقات السرد «ص 54، 56» تتناول عدة لقطات لكل من البنت ورجل يتحدث فى هاتف جوال معروف باسم رجل الجنازات ومجموعة من الفتيات الأجنيات، كل هذه الشخصيات تحضر عبر مشاهد متزامنة داخل مكان واحد هو المقهى الذى اعتاد أن يجلس فيه الكاتب الشاب ليكتب قصصه، والزمن الذى يستغرقه كل هذا المشهد المركب من عدة لقطات لايزيد على مدة مكالمة تليفونية، غير أن هذه المشاهد لاتظهر منفصلة عن بعضها البعض بل تتداخل عبر روابط بصرية وسمعية قد تكون واهية ولكنها كافية لتجعل مساحة صغيرة من المقهى مكانا سرديا محتشدا بالعلاقات والحركة، إنه أشبه بـ «اللوكيشن»، وكأن ثمة كاميرا تستطيع عبر كادر واسع نسبيا أن تحتوى كل تفاصيل المكان وشخصياته وتنقل كل الأصوات فى لحظة واحدة، فالروائى الجديد حين يخرج من معنى المكان والزمان القديمين يعيد صياغتهما على نحو تقنى مستفيداً من الوسائط البصرية والتكنولوجية، فإحساس الإنسان المعاصر بالزمن والمكان يعمق إحساسه بالتشظى لكنه فى نفس الوقت يدخله فى منظومة معقدة من العلاقات، ففى الوقت الذى يمارس فيه فعلا فى مكان ما، هو يعرف ـ مثلا ـ أن مباراة لكرة قدم أو حربا أو حفلا غنائيا أو حدثا آخر يدور في مكان ما، فإحساس الإنسان بالتزامن أصبح حاضرا بما يشعره أن حياته مجرد جزء صغير من منظومة كونية أكبر من عالمه الشخصي.

والحقيقة أن امتداد حركة السرد عبر سلسلة من اللقطات السينمائية الوقتيـة «sequence of shots» هو ملمح يميز هذه الرواية منذ لحظتها الأولى، ومن ثم يتحول القارىء إلى عين محدقة نهمة تتابع حركة البنت الجميلة العصرية وهى تمشي على الأرصفة حافية القدمين، وتداعب المارة والباعة فى الشوارع والجرسونات فى المقاهى وترافق امرأة عجوز فى الطريق أو تدخل بيتها وتستلقى على سريرها أو ترتدى مريولها لتصنع فنجاناً من القهوة أو تخلع ملابسها وتتفحص ثديها بقلق بحثا عن أورام خفية أو تطل من نافذتها لتشاهد لافتات الشارع والإعلانات المضيئة، إنها دائما موزعة فى عالم واسع من العلاقات مع الآخرين أو مع الأماكن والأزمنة، ويكمن للقارئ أن يعيد ترتيب هذه العلاقات فى نسق علاماتى أكثر إحاطة بهذه الشخصية الطائرة التى لا تخضع لقانون الجاذبية فتبدو مفارقة للواقع.

السرد يبدو كما لو كان نوعا من التسجيل الحى والمباشر وكأن السارد يمسك بكاميرا ويمشى وراء البنت يسجل لحظاتها المختلفة، هكذا.. ثمة غياب للتصميم الكلى المسبق للعمل، فلا نشعر بوطأة الراوى العليم لأننا نعرف أن الراوى هو نفسه شخصية من شخصيات الرواية أى مروى عنه، إنه الكاتب الذى جلس على المقهى ليكتب حكاية البنت، وهكذا تتماهى الصور الثلاث: الشخصية والراوى والمؤلف، بما يعنى مزيدا من تفكيك مركزية السرد أو عدم تمحوره حول صوت واحد.

رواية فانيليا للكاتب الشاب طاهر الشرقاوى هى العمل الرابع له، لكنه هذه المرة يتفوق على نفسه، بعد خبرة ليست هينة بالكتابة، وهي خبرة مدعمة بوعي حاد لمتغيرات الواقع وتعقد صورته، ومن ثم جاءت روايته تعبيراً عن تصورات جديدة لواقع جديد، فالرواية على الرغم من بساطتها تسطع بروح جديدة، معبرة عن جيل جديد من الكتاب. 

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم