عن الذي يربي حجراً في بيته: مقبرة بحجم الكون

محمد عبد النبي: الترجمة تشبه أحياناً التبرع بدم الكتابة للغرباء من أجل كسب الرزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

في مجموعته القصصية عجائز قاعدون على الدكك، الصادرة عام 2010 عن نهضة مصر، يكتب الطاهر شرقاوي قصة صغيرة أقرب إلى قصيدة نثرية بعنوان رحم على مقاسي حيث يحفر الراوي ثقباً صغيراً بالأرض بالكاد يكفي لينام فيه، ليتحوّل على مدى السطور القليلة لنصه إلى دودة تسكن أسفل البيوت والشوارع وتتلصص على المكائد والصفقات بالأعلى، "وسأمكث في ثقوبي، أرحاماً دافئة، معتمة.. على مقاسي تماماً."

أمّا رواي روايته الأحدث، عن الذي يربي حجراً في بيته، الصادرة عن الكتب خان حديثاً والفائزة بجائزة أفضل رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، يطوّر هذه الرغبة في الاندساس في الأرض بسبلٍ أخرى، فهو يعمل على تحويل بيته الصغير إلى مقبرة على نمط المقابر الفرعونية، ويفكر في فراشه باعتباره تابوته: “أمتلك تابوتاً على مقاسي ومقبرة لا تليق إلا بعظيم.”، ثم: “مقبرتي هي عالمي…مقبرتي هي عالمي”، ثم يرسم في وقتٍ لاحق على جدران بيته الكثير من القطط الصغيرة والكبيرة في أوضاع مختلفة، ثم يفكّر كيف سيختار جبلٌ من الجبال الانتقال من موضعه البعيد وقد أضناه الملل ليأتي حيث يسكن هو ويتصدع فوق منزله ليساويه بالأرض، وهكذا يتحوّل بيته إلى مقبرته الأنيقة التي يوجد فيه كل الضروريات التي يحتاج إليها، الكتب والموسيقى والفراش التابوت، وبالطبع الحجر الذي في حجم بطيخة صغيرة بلون الشوكولاتة الفاتح الذي نده عليه ذات مرة عند دخوله لمنزله، فأشفق عليه وأخذه معه ليربيه في خلوته، ليؤنس وحدته.

بعيداً عن إخلاص الراوي لخلوته وعزلته، ومفردات حياته اليومية القليلة حدّ الشح لكنها تملأ عليه أفكاره، فإن اصطياد شخصية مثل هذه لم يكن ممكناً إلا بالكتابة من منطقة رمادية غائمة تقع على حدود الواقع والحلم، لا يمكن التفريق فيها بين الهواجس والوقائع، بين ما كان وما لم يكن بالمرة… لن نعرف أبداً إذا كان هذا الشخص مصاباً فعلاً بمشكلة نفسية تجعله يستمع إلى كلام حجر أو يرى فتاة جميلة تشير له فوق وجه القمر أو يتخيل له إخوة أرضيين يخفون أقلامه وكتبه على سبيل الاستعارة ثم يردونها بعد حين، أم أنها فقط طريقة هذا الشخص في التعامل مع حياته، وفي تطويعها لتكون – كالمقبرة الصغيرة – على مقاسه. ما يمكن أن يراه البعض في هذه الشخصية من اكتئاب وانسحاب من الواقع وتقوقع على الذات – كما فعلت صديقته سيرين مثلاً، ولن نعرف أبداً إن كانت من بنات أحلامه هي الأخرى أم له وجود مادي ممسوك في حياة الراوي – يمكن أن يعتبره آخرون ميلاً زاهداً وصوفياً للعكوف على الذات وتأملها، ومحاولة للتطهر من علائق الدنيا والأيام، يتخذ وجهاً دينياً في أحيان، مثل نذر الصوم عن الكلام مع الناس جميعاً، ومنحى فنياً في أحيان أخرى لخلق عزلة تتيح له اصطياد الأفكار والتحدث مع الأحجار على خلفية موسيقى مفضلة.

لعلّها 24 ساعة فقط ما بين الفصل الأول والفصل السادس عشر والأخير من الرواية، إذ يستعيد الراوي مكالمة سيرين له التي جرت في الفصل الأول وهو يتأهب لمقابلتها في الموعد المحدد بينهما، لكنها 24 ساعة ينتفي منها مفهوم الزمن الخطي المتعارف عليه، إذ تتناثر اللحظات متجردة وغير مترابطة، وتتداخل تداخلاً شريراً بحيث يصعب علينا تحديد ما الذي حدث قبل الآخر، في الفصل الثاني مثلاً إشارة للقاء الراوي بأحد مصاصي الدماء، وهم فصيل أو نوع خاص اكتشفه الراوي ودبج له نظرية خاصة، لكن هذا اللقاء ذاته يُعرض تفصيلاً في الفصل السابع، في سياقٍ آخر. والطرقات الثلاث الخافتة على نافذته، كأنها بيد طفل، ترد عرضاً في الفصل الثامن، لندرك فيما بعد ذلك، في الفصل الثالث عشر، علاقة تلك الطرقات بأخوة الراوي الأرضيين الذين يزورونه ويداعبونه منذ صباه. هذا التداخل الزمني لا يدع للقارئ مجالاً لفصل تلك اللحظات عن بعضها البعض والتماس بنية زمنية خطية لها، لا يسمح له إلا بالتعامل مع راوي الرواية – والرواية ذاتها – كوحدة واحدة يمكن فض اشتباك خيوطها من أي جانب ومن أي نقطة، دون أن يعني هذا أنها رواية صعبة القارئ أو بحاجة إلى قراء مخضرمين، فاللغة السلسة والحكي منتظم الإيقاع لا يفلت الخيط إلا قليلاً، وعن عمد. مثلاً في الفصلين الثامن والتاسع، حيث ينتقل الراوي – بطريقة حلمية غامضة – إلى زمن تأديته الخدمة العسكرية، ويرى وهو يجلس في مقهى رث وفقير على طريق في الصعيد، يرى نفسه في الزي الميري سائراً مع بقية رفاقه من الجنود، ويتبادلان، هو وصورته الأخرى نظرة متمعنة. ثم يستعيد بأدق التفاصيل – وللتفاصيل حكاية يطول شرحها مع كتابة الطاهر – استحمامه في أحد المساجد القريبة من اللواء الذي ينتمي إليه. ومع بداية الفصل العاشر ينتهي الحلم، لنعود بمونتاج ماكر تعلّم الكثير من تقنيات النقلات في السينما، نعود لراوينا خلف قضبان نافذته في الطابق الأرضي، يراقب الناس الذين ينظرون إليه نظرتنا إلى سجين.

يرعى هذا الراوي الشبحي والمضحك قليلاً هواجسه ونزاوته العجيبة بنفس قدر الاهتمام والرعاية التي يربي بها حجارته، فقد تسيطر عليه فكرة مفادها أنه لا بد أن يعثر على عملة معدنية على رصيف الشوارع أثناء تسكعه، وإلّا يركبه سوء الحظ، أو أن عليه ألا يركب المترو ما لم يكن سائقه بشارب. من بين تلك الهواجس الغريبة تحويل بيته إلى مقبرة فيها كل ما يلزمه، أو تغيير مهنته من كاتب قصص أطفال وسيناريوهات إلى قاتل أجير، وهو هنا لا يهمه في مهنة القتل بالأجر هذه إلّا طبيعة محددة فيها، وهي التربص والكمون، الانتظار في صبر لوقت طويل حدّ التوحد مع مظاهر الطبيعة بعد تأملها ومعايشتها لأيام وليال وشهور وفصول. إنه لا ينتظر من مهنة القاتل الأجير المغامرة أو القسوة أو شهوة سفك الدماء، بقدر ما ينشد السكينة وتعلّم الصبر والتماهي كأغلب مخلوقات الله مع الطبيعة من حوله: “الصبر هو سر نجاح هذه المهنة، لا داعي للقلق أو التوتر مهما طالت المدة، تخيّل نفسك نخلة وجدت نفسها مزروعة في هذا المكان منذ عشرين أو ثلاثين سنة، يمر عليها الشتاء تلو الشتاء والصيف بعد الصيف، وهي باقية في مكانها، متربصة وكامنة، بلا تذمر أو جزع…” ومع لمسةٍ من تأويل مفرط نخجل منها في قراءتنا لرواية ناعمة وبسيطة كهذه، قد نزعم أن الطاهر هنا يتحدث – بقصد أو عن بدونه – عن مهنة الكاتب لا عن مهنة القاتل المأجور، فهذا الصبر والكمون والرصد والتلصص، وكلها طقوس ثابتة لدى راوي الرواية نفسها، حبه للظلام وتجربة العيش فيه دون الحاجة للنور وخصوصاً أثناء النهار، التزامه الصمت لساعات طوال، تنصته على الجيران وأصوات الأقدام وصخب الشارع، رقاده على فراشه دون قدرة – أو رغبة – على انتزاع نفسه منه، وتفكيره فيه كتابوت صغير مريح. كل تلك العلامات قد نقرأها باعتبارها نزعة للهروب والانسحاب، وقد نراها احتضاناً للعالم كله، ولكن بطبيعةٍ أخرى، إخراس الضجيج للإنصات إلى الهمس، إظلام البيت لتحسس الأضواء والظلال الخافتة، وإرهاف اللمس، ورؤية ما لم تمكن رؤيته إلا في العتمة.

يمكننا التحدث عن لمسة الرومانسية التي لا تخطئها العين في بعض فقرات الرواية، رومانسية غير خجول من ذاتها وتجاور ما بين الكليشيهات المسكوكة والعبارات المبتكرة بلا أدنى حرج، ويمكننا كذلك التحدث عن الولع بالوصف والتدقيق حدّ الاستغراق أحياناً، ويمكننا التحدث كيف صار جميع الأشخاص من حول الراوي – باستثناء سيرين – مجرد أشباح، رموز رياضية تم اختصار إلى س، جميعهم س الرجال والنساء والأصدقاء والجيران، كما يمكننا التحدث أيضاً عن عنصر جديد كان مفاجئاً لي في كتابة الطاهر وهو خفة الروح والدعابة، خصوصاً فيما يخص نظرية الراوي عن مصاصي الدماء أو عن علاقته بإخوته الأرضيين واستعارتهم لكتب النقد وخصوصا الأعمال الكاملة لأمل دنقل، وكيف جهّز لهم بعض الكتب النقدية عنه. غير أن هذه الإطلالة السريعة بعد قراءة سريعة كذلك لن تستطيع بكل تأكيد أن تفي هذا العمل ما يستحقه، يكفينا أن نُحيي هذا الجالس في الظل ليكتب متحلٍ بالصبر والجلد الجديرين بقاتل مأجور لا يهتم بالقتل قدر ما يهتم بالانعزال في الخلاء.

للباحثين عن حكاية لها رأس وذيل ومنطق واضح يشبه منطق الحياة ولو من بعيد أقول لن تجدوا ضالتكم في “عن الذي يربي حجراً في بيته”، أما لعشّاق الموسيقى المكتوبة بالحروف والكلمات سرداً ونثراً فأحب أن أبشركم بأن صديقنا الطاهر شرقاوي فعلها من جديد، وبعد تحفته الصغيرة فانيليا، كتب مقطوعته الطويلة الثانية التي يمكن الاستماع إليها المرة تلو الأخرى دون تفقد كثيراً من رونقها وجدتها.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم