عندما قابلت إبراهيم فرغلى لأول مرة

عندما قابلت إبراهيم فرغلى لأول مرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فجأة برز اسمه بين الأصدقاء فى النصف الأول من الألفية الثالثة، وعندما تساءلت وحاولت أن ألمّ ببعض أطراف من سيرته، كانت الأخبار أكثر من إيجابية، لم يكن قد أصدر سوى ثلاثة كتب، "باتجاه المآقى وأشباح الحواس، وكهف الفراشات"، وكنا خارجين تواً من مناقشة ثلاثة وعشرين رواية، على مدى عدة شهور فى ورشة الزيتون، وبعدها تنوعت المناقشات بين روايات وقصص ودواوين شعر وخلافه، وفى أواخر عام 2004أو أوائل 2005، تم إدراج مناقشة روايته "ابتسامات القديسين"، التى كانت صادرة حديثا عن دار ميريت، وأعتقد أننا تهاتفنا، واتفقنا على ميعاد الندوة والمناقشين، وتأكيد أرقام التليفونات التى تحدثنا منها، حتى يتم التذكير بالندوة قرب انعقادها.

مكالمة عادية جداً، وتبادلنا بضعة جمل تحمل بعضا من الإطراء الاجتماعى المعهود فى مثل هذا التعارف الأولّى، ولكننى أحسست بأن صوته يحمل قدراً من التوتر، وجاء انطباعى هذا من بعض الأسئلة التى وجهها لى آنذاك، ولا أتذكرها الآن، وكل ما أتذكره، أنها أسئلة شخص لم يعتد على ندوات من هذا النوع.

وربما يكون هذا الانطباع قد تولد عندى بشكل مسبق، حيث علمت بأن ابراهيم فرغلى كان يعيش خارج مصر لفترة من الزمان، وقد عاد إلى مصر، وهو يعمل ـ على ما أذكرـ فى مجلة “الأهرام العربى”، ومن تقاليد ورشة الزيتون أن نحصل على بضعة نسخ من النص الذى سوف نناقشه، وأبلغته بأننى سأكون فى الأهرام يوم كذا، ومن الممكن أن أمرّ عليه فى المجلة، وأحصل على النسخ، وهو استقبل اقتراحى برضا شديد وامتنان.

وبالفعل ذهبت إليه، وفاجأنى بمودته العالية، والتى ظننت أنها ـ فى البداية ـ مفتعلة، وبعد جلسة قصيرة، تبادلنا فيها أطراف الحديث، اكتشفت أنه ليس جديداً من ناحية معرفته الحياة الثقافية، ولكنني تأكدت بالفعل أنه متوتر، وعلى قلق شديد، رغم هذه الابتسامات التى تصدر عنه بحساب، دون أدنى تلقائية، رغم بعض ارتباكات اللقاءات الأولى.

عادة ماتكون انطباعاتى الأولى غير موفقة، وغير دقيقة، أعطيت نفسى فرصة لاكتشافه عندما أقرأ روايته التى سنناقشها فى الورشة، وكانت المرحلة فى تلك الفترة، تتميز بمرحلة الرواية، وكان عدّاد الرواية يعمل بقوة، وتقريبا لا يوجد حديث فى الأدب والثقافة إلا عن رواية جديدة صدرت، ورواية أخرى نوقشت هناك، وكانت مغظم الروايات مهمومة بشكل ما بالحياة السياسية والاجتماعية بشكل شبه مباشر، وهذا لا يقلل من التقنيات والأدوات التى كتبت على إيقاعاتها الروايات، وكانت جريدة أخبار الأدب أطلقت على هذه المرحلة “الانفجار الروائى”، وأجرت حوارات مع مختلف الروائيين الذين برزوا فى هذه الفترة، منهم محمد ابراهيم طه صاحب رواية “سقوط النوّار”، ونجوى شعبان، صاحبة رواية “نوّة الكرم”، وعلاء الأسوانى، صاحب رواية “عمارة يعقوبيان”، وكانت الجريدة ساهمت بشكل حماسى فى ترويج “يعقوبيان”، إذ حظيت الرواية بأن تنشر بشكل تسلسلى، وفى تلك المرحلة، ازدادت وتيرة الكتابات النقدية حول الروايات الصادرة.

وتساءلت مرة أخرى، ماذا سوف يكتب ذلك الشاب الذى عاش وقتا طويلا خارج بلاده، نجوى شعبان تستدعى مرحلة تاريخية من الزمان، وتحاول أن تنسج علاقات بين تلك المرحلة التاريخية القديمة، والواقع المعاصر، ومحمد ابراهيم طه يربط مابين سمات قريته وشخصياتها ودراسته فى كلية الطب، وبين بعض هواجسه وقناعاته السياسية والاجتماعية، وعلاء الأسوانى يحاول أن يرسم شكلا من البورتريهات السياسية والاجتماعية لوطن يتمزق تحت فساد واضح ونهب منظم وقسوة نظام ينهار، وهكذا يلاحظ أن الواقع السياسى والاجتماعى يضغط على الأدباء بشكل واضح ، ويفرض نفسه علىهم بقوة.

ودون القفز على النتائج بدأت فى قراءة الرواية، وكانت بالنسبة لى مفاجأة ، المفاجأة لم تكن فى العالم المطروح والمتناثر والمبنى بحرفية، ولكن المفاجأة كانت تكمن فى أن كاتب هذا النص لديه خبرة عميقة بالكتابة، حيث أنه لم ينثر عوالمه فى عفوية، أو انسيابية لغوية غير محسوبة، الكلمات والجمل شبه منحوتة، ومصاغة بدرجات قياسية، رغم هذا الخلط بين عالم الأشباح والغيبيات من ناحية، والواقع المرئى والحى من ناحية أخرى، ولاحظت أن ابراهيم هرب من الموضوعات الاجتماعية والسياسية المباشرة، والدخول فى عوالم أخرى، وعلى رأسها سمات التمييز الدينى الذى يكاد يفتك بالمجتمع، وهذا التسخيف وربما الاحتقار الذى يكنه المتطرفون المتأسلمون إلى المسيحيين، ورغم أن الموضوع مباشر وواضح، إلا أن ابراهيم استطاع أن يدرجه عبر تقنيات الحوار والتأمل دون أدنى صعوبة، وهذا ماجعلنى آخذ انطباعا أوليا بأن هذا الكاتب يعرف ماذا يكتب، وكيف يكتب، وكيف يكون قادراعلى الإقناع والإدهاش منذ أول لقاء مع نص له، وقليلا مايحدث ذلك فى حياتنا الأدبية.

وانعقدت الندوة، وجاءنا ابراهيم وفى صحبته نرمين نزار، التى لم ألتق بها إلا فى هذا اليوم، وكانت اكتشافا آخر، إذ أنها طرحت بضعة أفكار جيدة وممتازة، وكذلك منحازة للرواية، ورغم أن الندوة اتسمت ببعض الشدّ والجذب، وترواح الحديث بين أفكار متحمسة جدا للرواية، وأخرى طرحت بضعة مآخذ، إلا أن تعقيب فرغلى كان يتسم بقدر كبير من البهجة لثراء المناقشة التى حدثت، والتى تناولت الرواية من زوايا عديدة.

بعد ذلك انشغل ابراهيم بالعمل الصحفى، وكنت اقرأ له مقالات ممتازة، فى مصر، و خارج مصر، حتى جاءت تغريبته الثانية نحو الكويت و لم أكن قد تعاملت مع مجلة العربي سوى مرة واحدة عام 1996،عندما نشرت قصيدة واحدة، وتوقفت عن النشر لأسباب لا مجال لطرحها هنا، ولكننى فى يناير 2012 التقيت بالدكتور سليمان العسكرى فى بيروت، ودعانى للكتابة فى المجلة، وبالفعل عندما عدت إلى القاهرة، أرسلت اقتراحاتى إلى العسكرى، الذى أحال الأمر إلى ابراهيم فرغلى،الذى كان مثاليا فى التعامل،ومحترما للغاية ، وربما يكون هذا الجانب الإيجابى، هوالذى أعطانى فكرة بيضاء تماما عن ابراهيم ، رغم أن بعض القسوة ظهرت على كتابات ابراهيم فيما بعد.ت

ولم أعرف أسبابا لتلك القسوة التى ظهرت على سطح كتاباته النقدية، وعزوت ذلك إلى سمة التوتر التى لاحظتها منذ اللحظة الأولى، وحاولت أن أمحوها، تبعا لعدم صحة انطباعاتى الأولى كما ذكرت سلفا، ولكننى كنت ألاحظ أن ابراهيم يسارع بإطلاق الصفات السلبية على بعض الكتاب، وراحت نبرة الاحتجاج تزداد، وبالطبع خصّنى بعضا منها عندما دعوت الفنان زاب ثروت إلى معرض الكتاب، وكانت ندوة عابرة لشخص يستطيع أن يجذب جمهورا واسعا، وكانت بغيتى تتلخص فى التعرف عن قرب على هذا الشخص الذى وصل إلى حد الظاهرة، وهذا بالطبع فعل مشروع، ولكننى وجدت إبراهيم يحمّل الأمر أكثر مما يحتمل، ولكننا تفاهمنا، وعزوت ذلك إلى حرصه الشديد على كشف الواقع عبر حواراته الواضحة، وربما الفاضحة فى مجالات أخرى، وربما هى طبيعة الفنان القلق المتوتر والمثقف والذى ـ ربما ـ يرى بعيون حادة.

إبراهيم فرغلى فنان يكتب بروح عريانة تماما، روح لا تعرف التخفى والأقنعة فيما تقول وتبوح به، إذا كانت هذه الروح التى تتوزع بين الكتابة الصحفية والإبداع .

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم