عزة رشاد و”حائط غاندي”

موقع الكتابة الثقافي writers 70
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. يسري عبد الله

تبدأ القاصة عزة رشاد من رمزية الاستدعاء المجازي لغاندي في مجموعتها القصصية “حائط غاندي”، والصادرة في القاهرة عن ( كيان) للنشر، ومن زخم الإحالات التي يصنعها الاسم والمعنى “غاندي”، هذا الذي تتمنى بطلة قصتها “حائط غاندي” أن تحوز قلبه، مثلما طمحت إلى أن تحوز جسد “كلوديا كاردينالي”، وعقل “أينشتين”، غير أن التحولات العاصفة بحياتها تجهض أمانيها، فلم يبق لها سوى قلب غاندي، فالقلب وحده خاضع كلية لها، وليس مرتبطا بعوامل خارجية حاكمة، كالزواج والحمل في حالة الجسد، والسياق الأكاديمي والمعرفي الآسن في حال العقل المشغول بطموح أينشتين( رسبت ست مرات في امتحان الدكتوراه)، والحقيبة التي تضيع من البطلة المركزية في القصة لم تجعلها تتخلى عن الولد الملقى في دمائه، والذي يسحب حقيبتها ويجري فتصدمه السيارة المسرعة، غير أن البطلة التي تشعر بحال من الإخفاق العام، تنقله إلى المستشفى متذكرة ذلك الخيط الباقي من أمانيها القديمة، والذي لم تفقده بعد (قلب غاندي) المحب للخير والحق والجمال.

تتواتر رمزية غاندي التي تبدأ من عنوان المجموعة وتستمر في نصوصها المختلفة، بدءا من القصة الأولى “رسائل بظهر الغيب”، التي تعد من أكثر قصص المجموعة تجريبا، واستخداما تقنيا بارعا، حيث تعتمد القصة على آلية التقطيع السينمائي المتوازي، فتنتخب الكاتبة لحظات متعددة من حيوات شخوصها الموزعين في مساحة كمية لا تتجاوز أربع صفحات، لكنك ستجد زخما هائلا في الأحداث والشخوص، فتبدو أقرب لضربات الفرشاة الدالة التي تعرف الكاتبة أين وكيف تضعها، بدءا من استدعاء يحيى حقي، وبطله الإشكالي “البوسطجي”، ومرورا بالفتاة العشرينية بحقيبتها التي تحوي جيبا سريا تضع فيه شريطا لحبوب منع الحمل، ومخلاة غاندي الذي طحنه الفشل الكلوي( الإشارة هنا مهمة للخروج من الأفق المثالي عن الصورة الذهنية لغاندي)، المخلاة التي تماثل “البقجة الدمور” للمرأة الأربعينية التي تسير بابنتها في غبشة الفجر وسط الحقول، وربما يرتبط مشهد الخروج من المكان بحكايات الشرف والعار في الريف المصري، لكنه هنا يبدو مشهدا لاستئناف الحياة، فالبنت تذهب إلى مدرستها، والأم تجلس بالبقجة الدمور أمام مدرسة ابنتها التي تخرج لتجد أمها تمد يدها مصحوبة بعبارة: منديل يا حاجة/ منديل يا حاج، قفزا إلى حقيبة ” يوهان جوتة” المليئة بالخطابات الغرامية، التي لم تعد تناسب زمنا مسكونا بالكراهية، يستدعي نيرون مثلما يقول الشاب ذو النظارة الطبية السميكة، والحبيبة الضائعة، ثم الشيخ الذي يصرخ (حرام تكسر الورد)، وحفيده ( عفريت يا جدو عفريت)، لتبدأ بعدها لملمة الحكايات المختلفة، ثم تكثيفها الشديد في المختتم البارع للقصة، حيث القنبلة التي تكسر الورد، وتغتال الكل، الحفيد والشيخ، والشاب الحالم والخطيبة الضائعة، والبنت التائهة المحتفظة بشريط وحيد لمنع الحمل. ويتواتر حضور القنبلة ولكن بصيغة أخرى في قصة “رسالة علياء” التي تسائل فيها القاصة عزة رشاد فتاوى الدم ووكلاء التطرف من محتكري الحقيقة المطلقة.

يكشف العنوان في “عراء” عن المناخ العام الذي يحيط بالمروي عنه المركزي في القصة، حيث الفتاة الحائرة بين أب وأم على شفا الانفصال، ومن ثم ستجد نفسها في العراء الذي كانته بالفعل، ويلعب الحكي بضمير المخاطب دورا أساسيا في بث مشاعر الاغتراب التي تعيشها البنت المأزومة، والواعية بمأساتها، ونهاية القصة مصنوعة بفنية حقيقية صادمة لمتلقيها، تمنحه قدرا من المسكوت عنه، والمختبيء داخل السرد حتى لحظة الكشف والإعلان.

بنعومة شديدة تتسرب إلى القارئ المأساة في “قبعة وبدائل أخرى”، مأساة الذات المحكي عنها، التي لا تثير التعاطف أكثر من إثارة التأمل، فالقبعة التي صارت ملازمة للمرأة جراء المرض ربما تعينها على التخفي من المخبر الذي سيرتبك حتما حينما يراها في التظاهرة وهي تلبس القبعة بدلا من الشعر السارح الذي أتحفنا العندليب عبدالحليم حافظ بمغازلته، كما تحكي القصة، غير أن حالة التوحد بين البطلة وأشيائها تتكشف أكثر حين تشاهد من شاشة العرض الكبيرة بالمستشفى سير التظاهرة، لتبدو القصة هنا ناعمة وإنسانية رغم إحالتها إلى خشونة الحياة وعنفها الضاري.

تستحضر قصة “غبار” شجرة الدار/ السلطانة المغدور بها والتي تظهر في شارع صلاح سالم، وتجلس على مقهى في الحسين، ويدور حوار سردي دال، قائم على التخييل ويعد جزءا من بناء القصة بين السارد/ البطل الذي يحكي بضمير المتكلم وشجرة الدار، في استدعاء دال للحكاية الشعبية ابنة القص الشفاهي حيث تغليب المعجزات وظهور الكرامات كالإحالة إلى السيدة مريم العذراء في نهاية النص.

في “لوحة” تقرأ الكاتبة لوحة العشاء الأخير للفنان العالمي ليوناردو دافنشي، هذه اللوحة المبهرة التي غايرت التقاليد الراسخة، فليس ثمة شيء ثابت في عالم معقد ومتغير باستمرار.

تأخذ اللغة مستويات عدة في قصة “هذا البِرام الفخاري القديم بالذات”، فتبدو ابنة المكان الريفي والبيئة المحلية، كما تتعدد تجليات اللغة التي تغادر المستوى الكلاسي السامق في معظم القصص، لتصبح هنا ابنة الشفاهية، معبرة عن وعي قائلها بالأساس وطبيعة الموضوعة المطروحة أيضا، والخالة هنا نموذج إنساني متواتر لأهلنا من العجائز في الريف، الذي تحضر عوالمه أيضا في قصة “السِّن الذهبية”، والتي يعد ضياعها مثلما ضاعت في القصة كارثة، ولقياها أملا.

تبدو الثورة طيفا بعيدا داخل المجموعة يحضر في نصوص مختلفة، من بينها “سويتر جلد بني”، التي تعتمد على تقنية الفلاش باك في بنائها القصصي، وفي “خوذة روميل” ثمة استعادة لأجواء الحرب العالمية الثانية من الإحالة التي يصنعها العنوان والقفز إلى تفاصيل راهنة تخص حيوات الشخوص، وفي ” تلصص على أنقاض” يشيخ كل شيء، مثلما يبدو العالم جميعه في “حائط غاندي” مقبلا على الكارثة، مشارفا للجحيم، فقط ترصعه بعض الحكايات النبيلة عن الحائط الذي لم تزل تعلق عليه صورة غاندي، لكنه يبدو مهملا أيضا، وآثار انطفاء بادية عليه حين خلا من صورة كلوديا كاردينالي وأينشتين، وهذه الوحدات الثلاث التي تشير إلى عطب في المناخ والعقل العام، لم تخلُ من إمكانية للحياة في عالم موحش وقاس، تؤنسه الحكايا، تلك التي نسجتها عزة رشاد ببراعة فائقة وبوعي بصيغ السرد المختلفة، مع تنويع في الحكي، وولع بتقديم زوايا نظر جديدة للعالم، والواقع والأشياء”.

……..

*عن روزاليوسف

مقالات من نفس القسم