“عالم المندل” قدر مصيري و خلاص جامح

عالم المندل .. الخلاص بطرق غير معتادة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جيهان عبد العزيز *

كـ”جريجور سامسا” بطل رواية “المسخ ” لكافكا والذي يستيقظ من أحلامه ليجد نفسه متحولا إلى حشرة كريهة ومنبوذة، تستيقظ “مفسرة الأحلام” في رواية ” عالم المندل ” للروائي المصري أحمد عبد اللطيف، لتجد أسوأ كوابيسها تتحقق وقد أصبحت تمتلك عضوا ذكوريا  في نفس ليلة زفافها من عريس تأخر كثيرا دقه على بابها، وهي الفتاة الثلاثينية القبيحة التي لم تكن سوى طرفا ثالثا في علاقات كل الآخرين، بدءا بوالديها، ومرورا بصديقاتها  اللاتي كن يجدن في قبحها ملاذا لإظهار جمالهن، و تذكرة مرور من بيوتهن للقاء العشاق المنتظرين في الخارج.

وبهذه البداية الخارجة عن نطاق التجربة اليومية الاعتيادية، وبحدث غرائبي يلقي بنقطة من العبث في بحر الحياة الساكن، تتكاثف الدوامات المتتابعة والمتقلبة بين عالمين هما عالمي اليقظة والمنام، الواقع بثقله واستلابه للفردية الإنسانية، والحلم بخيالاته وأشباحه وكوابيسه وحتى بالأمنية في التحرر والانفلات.

وكمعظم شخوص كافكا، وعوالمهم الكابوسية، نعيش مع مفسرة الأحلام إحساسها العميق بالغربة والعزلة الروحية حتى وسط الأهل والأصدقاء، لنراها كنسخة متكررة من نساء مجتمعها، وصورة كاربونية لجدة ميتة، وشبح أم يراودها، ترث منهما شعورا بالعزلة والمرارة، والوعي بذات أنثوية محملة بالاخفاقات والخضوع والاستسلام والهروب من المواجهة او التمرد، لتصبح  شخصية هامشية تقف بين عوالم مختلفة ولا تنتمي إلى أي منها.فتشعر وهي العانس القبيحة، وبعد انقضاء ما يقارب نصف عمرها، أنها قضت تلك السنوات الثلاث والثلاثين في سجن جدرانه الطاعة العامية لامرأة محملة بقدر أنثوي لا فكاك منه، تشبه أُمّاً أفرغت عجزها ووحدتها في وجه طفلة ملأت حياتها بالأشباح والكوابيس، و قبح منحته إياها بما يشبه الإرادة الواعية كي لا تنفلت من أسرها، و عريس غريب لم تحبه ولا تعرفه، يتشارك في ملامحه القاسية “أبو شوال” بطل كوابيس طفولتها والذي سياتي ليخطفها ويسلبها حياتها الباقية، و توقا دائما لوجود أب كان غائبا في الحضور.

وبرغبة يائسة واخيرة في البحث عن خلاص، في الجلوس في مقعد السائق، في الإمساك بزمام حياتها، والتحول من أدوار الكومبارس إلى أدوار البطولة، أن تكتسب قوة الذكور و جرأتهم وتحديهم للعالم، و كأنها استجابة لنداء غامض، تتحقق أمنيتها، تمتلك عضوا ذكريا، ليكون تحولها هو القربان الذي تقدمه على مذبح الحرية، وكامرأة امسكت أخيرا بزمام حياتها، وكمحاولة أخيرة للخلاص والفرار من أسر كافكاوي، تقرر اختيار القفز من شرفة الحياة، حتى لو تهشمت أجزاء منها، أو اضطرت للعرج شطرا من الطريق، مؤمنة أن محاولات السير المتعثر خير من الجلوس في أرض خصبة للعجز و الخضوع.

” عالم المندل ” وهي الرواية الثانية للكاتب، و الصادرة عن دار العين بالقاهرة ، تعد استكمالا لمشروع أدبي بدأه منذ روايته الأولى “صانع المفاتيح”، حيث يحاول الكاتب كشف المسكوت عنه في المجتمع ، من خلال حدث خيالي ، يعري كثيرا من عورات المجتمع، و ينزع غلافه الشفاف الخادع في مظهره، كي نكتشف كم هو عميق جحر الأرنب، وكم هو مليء بالتناقضات، ففي قرى ومدن بلا أسماء محددة ، وشخوص يتم تعريفهم من خلال صفات تؤطر حياتهم، يمارسون بأنفسهم قهرا شخصيا تجاه ذواتهم وتجاه الآخرين من حولهم، ففي مجتمع تسود فيه الخرافات والموروثات الشعبية، تصطحب الأمهات أطفالهن للنظر في فناجين عالم المندل واستحضار أشباح العالم السفلي، و يروين القصص المرعبة لهم كطوق يقيد حياتهم ويمنعهم من الانفلات، في مجتمع ينظر للمرأة فيه على أنها مجرد وعاء لذرية محتملة، و أن كل امرأة قبيحة عفيفة و كل جميلة منحرفة بالضرورة، يكون العبث ضروري لتستقيم الحياة، فتمتلك النساء أعضاء ذكورية تمنحهن الثقة والحرية ، ويتحول الرجال إلى كائنات مخنثة بانكسار واستكانة طالما أسدلوها على حيوات نسائهن .

هكذا رسم “أحمد عبد اللطيف” عالمه الروائي ، بلغة سردية سلسة، و بانتقال في زمن السرد بين الحاضر والماضي، الواقع والخيال ، بما يشبه منولوج داخلي طويل على لسان بطلته  الهاربة من أسر قدر كافكاوي ، إلى خلاص فانتازي، لتتحول رواياته القصيرة  نفسها و الممتدة على مدار اثنتين وثمانين صفحة، إلى أمثولة تشابه كثيرا حكايات الأم عن آكلة لحوم البشر و خاطفي الأطفال ، وأشباح عالم المندل .

ــــــــــــــــــــ

*كاتبة مصرية

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم