طارق إمام … بين القتلة والأرملة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شوقي عبدالحميد يحيى

كموجة كاسحة اجتاحت الرواية المصرية في القرن الجديد موجات السخط والغضب ورفض الواقع ، بالكشف عن المسكوت عنه - فترات طويلة – واقتحام عالم العشوائيات ،والاستغراق في العنف والجنس ، الأمر الذي صبغ الرواية بلون العنف وسيطرة الواقع بمرارته وتناقضاته ، والمثير في الأمر ، أن تأتي هذه الكتابات بأقلام شابة ، الأمر الذي – أيضا – يصبغ المستقبل باللون القاتم .

إلا أن الحياة الأدبية لم تعدم من تختلف رؤيته عن تلك الصورة السوداوية ، فينظر إلي الأمور بنظرة شبابية ، شكلا ومضمونا ، حتي وإن استخدم الصورة السائدة والعاكسة لشكل المجتمع الراهن . فيكتب ” طارق إمام ” عن القتلة وقتلهم العشوائي ، إلا أنه رأف بقارئه ، فجعل قتلته يقتلون في هدوء ، فكانت روايته البديعة ” هدوء القتلة “[1] والتي سعي من خلالها إلي تحويل صورة القتل المرعبة ، إلي صور محبببة ، فكان الحب هو المسعي والمرتجي .

ثم تأتي روايته التالية ” الأرملة تكتب الخطابات سرا “[2] ليبين أن الحب بمعانيه السامية ، وظلاله الوارفة ، هي نسمة الهواء في قيظ الحياة وقسوتها ، وأنه – الحب – قادر علي فعل الصعاب : { .. تجيئ فتاة . كيف تسللت من بيتها في الفجر ؟ كيف عبرت الشوارع الموحلة ووصلت إلي هذا الباب بحذاء نظيف ؟

إنه الحب 

تسأل الأرملة نفسها وتجيب .. }[3]

إذن فلم يكن الحب عارضا في رواية كتبها ، وإنما هو مشروع  يؤرق الكاتب ، بإعتباره – الحب – أسمي آيات التواصل الإنساني ، هو النبض ، خاصة بعد أن انتشر الموات وزحف الموت إلي قلب المدينة النابض ، فلم يعد نابضا : { فمع تمدد المدينة صار الموتي يقطنون قلبها النابض .. } [4] . وهو ما يضع طارق إمام في زمرة الكتاب أصحاب الرسالة ، واصحاب القضية ، فتأتي الأرملة استكمالا لما بدأه في ” هدوء القتلة ” ، وكأنها جزء ثان في مشروعه الروائي .

        وكما فعل في القتلة ، يبدأ طارق روايته الجديدة بمقتطفين يوحيان بأن الحب هو مشروعه الكبير ، أحدهما تراثي عربي ، والآخر حداثي غير عربي . الأمر الذي تؤكده الرواية ، وهو أنه يجمع بين الأصالة التي تتمثل في الحفاظ علي الحبكة الروائية التي هجرتها الرواية في القرن الحالي ، فضلا عن سلامة اللغة التي أصبحت من نوادر الرواية – أيضا – في هذا القرن .

 والمعاصرة المتمثلة في غياب التتابع التصاعدي والاعتماد علي الصورة الشعرية في إضفاء المتعة القرائية والذهنية وصولا لرؤية كلية لاتعدم التفاصيل المتضافرة .

فيأتي المقتطف الأول من ” طوق الحمامة ” لإبن حزم الأندلسي – المولود في القرن الرابع الهجري – الذي يعتبر أول من وضع ما يشبه الموسوعة عن أحوال الحب وصفاته وأنواعه­ .

وقد التقت به ” الأرملة تكتب الخطابات سرا ” عندما راحت تسأل الأرملة نفسها  فيما يشبه وضع مواصفات  للحب :

{ العاشقات كثيرات ، وآلام الحب واحدة ، تماما كسعاداته . تضطر ………………….

مصادفات اللقاء السريعة الفجائية ، وترتيبات الوداع الطويلة . تخمن أن لكل دموع الحب نفس المذاق حتي لو اختلف اسم العينين في كل مرة } [5]

وجاء المقتطف الثاني لشاعر من القرن العشرين اشتهر بقصائد الحب هو الشاعر المكسيكي

أوكتافيو باث[6] والذي اقتطف منه ما سار علي نهجه في تصوير الحب أيضا . فجاء المقتطف يقول : { زمن الحب ليس كبيرا ولا صغيرا .. هو الإدراك الفوري لكل الأزمنة في زمن واحد ، بكل الحيوات في هنيهة واحدة .. لا ينقذنا من الموت بل يجعلنا نراه وجها لوجه }

 وهي ذات الرؤية التي وضحت لدي الأرملة التي قررت إعادة كتابة خطابات الحب التي كتبتها في شبابها ، برؤية ناضجة ، تأملت أول خطاب كتبته ثم  : { كتبنه عشرات المرات كما هو ، بفواصله ونقاطه المرتجلة .. لم يكن من الممكن أن تصدق أن كل هذه السنوات عبرت لكتشف أنها لاتزال في نقطة الصفر }[7]  ليؤكد طارق إمام أن اختياراته لم تكن عشوائية ، كما أن عناوينه لم تكن كذلك ، فالأرملة – التي تطالعنا فور إمساكنا للكتاب – علي الفور ، توحي بالفقد ، والوحدة ، وربما عدم التواصل ، وكانت بالفعل أرملة عجوز تعاني الوحدة ، ويحوم الموت حولها من كل اتجاه ، فلا أب أو أم أو صديق تأتنس إليه . وكانت عودتها إلي البلدة التي هجرتها من عشرين عاما للبحث عن الموت ، لتبحث عن مقبرة . كما أن الخطابات – التي تلتصق بالأرملة في العنوان – خاصة إذا أضفنا إليها سرا ، توحي – كما هو مألوف في تراثنا – بالغرام ، والحب والشباب . وقد راحت تأتنس في وحدتها ، وكأنها تستعيد الشباب ، تستعيد الحياة ، فكانت تكتب الخطابات الغرامية لتميذاتها ، وتضعها لهن في كراساتهن ، تكتب الخطاب لكل تلميذة حسب ظروف قصتها مع من تحب ، تكتبها بخطها المنمق ، ثم تجعل التلميذة تكتبها هي بخطها .

وإذا فالأمر مشوق . وهو ما يدعونا للعودة إلي البداية كي نتابع قصة تلك الأرملة ، وكيف استطاع طارق إمام أن يشدنا إليها .

 يدور الحدث الرئيس في ” الأرملة ” علي واقعة تكاد تكون رئيسة في روايته السابقة ” هدوء القتلة ” وهو وصول خطاب من طرف خفي في العالم الآخر ، ويكون له تأثير كبير في مجريات حياة الطرف المرسل إليه علي الأرض . فالأرملة تفاجأ بخطاب يحطم زجاج بلكونتها ، ويخترق الحواجز ليلتصق ( بجسمها ) وعلي سريرها . ولم تر غير الخطاب الذي شعرت به كرجل بات ملتصقا بجسدها طوال الليل . من قذفه ؟ كيف وصل إليها ؟ وهل هو خطاب حيقيقي أم أن الخيال هو الذي تسلط عليها ؟

أسئلة يأبي طارق إمام أن يجيب عليها مباشرة . غير أنه يتصاعد في إدخالنا تيه البحث ، فيأتي بالراهبة التي تؤكد للأرملة بأنها رأت حجرا ينقذف علي بلكونتها ويحطم زجاج النافذة ، لتدخل الأرملة ذاتها – ونحن معها – في التيه ، وهو أحد عناصر حيوية الرواية وتأبيها علي منح ذاتها بسهولة  ، وتعود الأرملة إلي بيتها لتعيد البحث عن ذلك الحجر ، ولكنها أيضا لا تجده .ووجود الأثر دون وجود أداة الفعل ، نصبح أمام القدر الذي يرسل الرسالة لتنتبه الأرملة إلي شئ غير الذي يخيم عليها ، فيعيد ترتيب الأشياء . فيتحول البحث عن الموت لبحث عن الحياة ، والخروج من عزلة الوحدة إلي تمام الوجود بالوصل والاتصال . حيث تؤكد الرواية تلك الرؤية بجملة واحدة وُضعت مستقلة وكأنها فقرة كاملة عندما بدأ تدافع التلميذات علي الباب و … { بدأت الطرقات علي الباب ..}[8] لتعود بنا الذاكرة إلي قدرية بيتهوفن [9]، وطرقاته القوية ، وتعود بنا الذاكرة إلي قصة  ” اللكمة “[10]. ولتخرج بنا الرواية من مجرد مشهد فردي ، إلي العالم الكوني الأوسع ، وننتتقل من الخاص إلي العام .

        يمهد طارق إمام لصورة الأرملة بتمهيد يصور ما هي عليه من تسلط فكرة الموت ،إذ بينما تقلب الخطابات ، يتسلل خطاب الموت محلقلا في الأفق – دون أن يكون شيئا ملموسا تمسك به ، يراوغها : { في هذه اللحظة فقط تجد خطابا يخبرها بأن عليها الآن أن تموت ، خطابا يرفرف وتمد يديها نحوه وهو يحلق في سماء الصالة ، لكنها كلما تهم بالقبض عليه يراوغها ..} [11] . { .. تفكر في السنوات الثلاثة التي قضها تحت هذا السقف لا تفكر في شئ سوي الموت ..}[12] .

بل إن الموت بالنسبة لها هو اكتمال الدورة الحياتية ، فهو النهاية الحتمية التي تكتمل بها الحياة ، ولا أمل لها في شئ بعد : { .. وشعرت بأنها مكتملة حتي أنها مهيأة للموت .. } [13] .

إلا أن الطبيعة البشرية – التي يعبر عنها طارق بنجاح – وتمسكها بالحياة ، رغم حتمية وجود ذلك الذي ينتظرنا جميعا في نهاية الطريق ، لتجري الدماء في عروق الأرملة ، وتتحول من إمرأة علي الورق يرسمها كاتب ، إلي إمرأة حقيقية ، لا تلامس الحياة فقط ، بل تعيش بين ظهرانينا ، تقاوم ، الموت ، بصوره المختلفة ، حتي لو كان بتغير السنين وأساليب الحياة ، ووجود ما يهدد هويتها وصورة حياتها :

{ .. قالت : بعضهن يحملن تلك التليفونات الصغيرة ، يتحدثن في أي وقت ، ويكتبن الرسائل أيضا . أصابها حديثها ذاك لنفسها بشئ من الإحباط ، ولكنها عادت : ليس هناك ما يعوض خطابا كتبته يدك تلك . وفردت كف يدها اليمني أمامها في الشبورة الصباحية ، فلم تر سوي بريق الخاتم الذهبي الغليظ ، قربتها قليلا ، ورأتها مزرقة وشاحبة كأنها سبقت جسدها إلي الموت . غالبت الحسرة قائلة : هل تستطيع واحدة من هؤلاء أن تكتب ثلاث أو أربع ورقات علي هذه الشاشة البخيلة ؟ إنها تصلح فقط للاتفاق علي موعد أو لتوضيح موقف عابر .} [14] .

وفي ظل صغر الرواية وتكثيفها غير المخل ، لابد أن يثور التساؤل حول { فلم تر سوي بريق الخاتم الذهبي الغليظ } لنتبين – فيما بعد – أنه إشارة لزوجها الراحل ، لنتبين رؤية الأرملة الداخلية لذلك الزوج ، ولما تمثله مرحلته – رغم ما فيها – وأنها في مقابل ما تعيشه الآن ، هي الفترة الذهبية ، وهو ما سينبني عليه مشهد الختام ..

وفي أثناء الانتظار ، تسوق الصدفة “رجاء ” في طريق الأرملة ، لتعمل لديها كسكرتيرة ، ورغم ما قيل حولها ، تقرر الأرملة أن تصنع لها نسخة من مفاتيح شقتها ، حتي إذا ماتت الأرملة وحيدة ، وجدت من يعلم بذلك ويخبر عنها ، وتستغل ” رجاء ” هذه الثقة ، فتأتي بمن تفاجئها الأرملة معه علي سريرها . ويتماهي ذلك الشخص في شخص الصائغ – زوج الأرملة – . وهنا ينجح طارق إمام لحد بعيد في تصوير أعماق ودواخل ودوافع ملك         ( الأرملة ) دون أن يصرح بشئ ، فقط تصوير الموقف ورد الفعل الذي قد يثير التساؤل . فهي لم تغضب ، ولم تنفعل – ظاهريا –  ولم تفكر في طردها . بل { لا تعرف كم مر من الوقت ، إلي أن سمعت الطرقات علي الباب . نهضت لتفتح ، وفي هذه اللحظة فقط اكتشفت أن رجاء لم تعد موجودة .. } [15]. إذن فقد استغرقها المشهد ، تنبهت علي شئ غائب ، وليس الغياب هنا هو غياب رجاء ، وإنما غياب الفعل . خاصة إذا ما ربطنا بين المشهد في بداياته وربط الشخص مع الصائغ ، ذلك الذي كان معه الاتصال . وهنا نبدأ تحولا في مسار الأحاسيس . فهي وإن كانت قد تناست الموقف ولم يثر أي عواصف ظاهرية ، فقد بدأ مشهد تبول خفير المقابر الذي ذهب ليريها أن مقبرتها قد أصبحت جاهزة . ويأخذها المشهد بعاديته وبساطته – مشهد التبول علي حيطان المقابر . ويسيران داخل المقابر ، ولا نعرف أي منهما يقود الآخر بين حارات المقابر التي أصبحت موحلة ليتضافر المشهد الخارجي للطبيعة التي ينجح الكاتب في وصفه وتسخيره ، مع المشهد الداخلي الذي يقود الأرملة لعملية الاكتمال ، تلك العملية التي تغذيها عندما { لم تعد قادرة علي تشمم سوي أنفاس الرجل المعبأة بالتبغ والكحول } فاكتملت ، واكتملت بها الرواية عندما : { .. أحاطت اليدان القويتان بخصرها ، وواجهها الوجه الشمعي بلا تعبير ، ووجدت نفسها ترتفع لتستريح مؤخرتها علي حافة المقبرة ، قبل أن تجد ساقيها ترتاحان علي ذراعيه .. } [16] ، ولنتذكر علي الفور قصة ” العملية ” ليوسف إدريس ، تلك التي أراد فيها التعبير عن تجاور الموت والحياة ، وسيرهما معا في نفس اللحظة ، إلا أن طارق إمام هنا – فيما أتصور – بتصويره هذا المشهد واللقاء الجنسي فوق المقبرة عند اكتمالها ، إنما أراد تصوير اكتمال التواؤم النفسي البشري ، الذي عبر عنه في ” هدوء القتلة ” باكتمال ديوان الشعر . وليصبح تاريخ العملية هو الشئ الوحيد الذي كان ينقص المقبرة  – تحديد تاريخ الوفاة ، بعد أن وضعت الرخامة المنقوش عليها اسمها – ولتتحول عودتها للبلدة من عودة لبداية رحلة الموت ، إلي بداية لرحلة البحث عن التحقق .

فإذ كانت الحواس هي وسيلة الاتصال بين البشر ، والتفاعل معهم والإحساس بهم ، وإذا كان الائتناس بالآخر هو الدفئ والأمان والراحة النفسية . و إذا كانت الآرملة قد          { .. اكتشفت أن حتي حواسها كانت معطلة كل هذا الوقت .. } [17] . فقد تيقظت حواسها بتلك الفعلة اللاإرادية التي انساقت إليها دون مقاومة ، وانهمر المطر الذي يعني في المخيلة الجمعية انهمار الخير ، وتفتح الزهور والزروع . في تصوير جمع بين المطر ودلالاته ، وبين طين الحارات بين القبور ودلالاتها . كمشهد خاجي يصور المشهد الداخلي .

…………….

 [1]  – – هدوء القتلة – طارق إمام – ميريت –  الطبعة الأولي 2007 .

[2]  – الأرملة تكتب الخطابات سرا – طارق إمام – دار العين للنشر – الطبعة الأولي 2009 .

[3]  – الأرملة ص 45

[4]  – الأرملة ص 41

[5]  – الرواية ص 46

[6]  – أوكتافيو باث 1914 – 1999 ( حصل علي نوبل 1990 ).

[7]  – الرواية ص 36

[8]  – ص 12 .

[9]  – سيمفونية بيتهوفن الملقبة بالقدرية ، والتي جاءت مع بدايات حالة الصمم التي أصابته .

[10]  – قصة  بهاء طاهر في مجموعته الأولي ” الخطوبة ” .

[11]  – ص 12

[12]  – ص11

[13]  – ص 11

[14]  – ص 15

[15]  – ص 72

[16]  – ص 78

[17]  – ص 73

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم