شكل الماء: عودة جوليرمو إلى متاهته

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
محمد العبادي فاز "جوليرمو ديل تورو" بالأوسكار عن فيلمه "شكل الماء"، وبهذا يكون "ديل تورو" ثالث الفرسان المكسيكيين الثلاثة الذين حصلوا على الأوسكار، بعد صديقيه: ألفونسو كوارون (جاذبية)، وأليخاندرو جونزاليز إنياريتو (بيردمان, العائد).

يزيد من حجم إنجاز “ديل تورو” كون “شكل الماء” هو أول فيلم خيال علمي في التاريخ يحصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم.. فالأوسكار تحب الأفلام الدرامية وأحيانا الاستعراضية.. لكنها تكره الخيال العلمي دوما.. يكفي أن نشير أن أفلاما بحجم وقيمة “2001: أوديسا الفضاء” و”إنترستيلر” لم ترشح لجائزة أحسن فيلم أصلا.. أما قائمة الذين رشحوا وفشلوا في الحصول على الجائزة فتشمل أفلام مثل: “برتقالة آلية”، “جاذبية”، “انسبشن” و”وصول”!!

لكن من هو “جوليرمو ديل تورو”؟.. أثناء العمل على فيلمه الأهم فنيا “متاهة بان”2006 رفض مخرجنا عدة عروض من منتجين هوليوديين لإنتاج فيلمه بضعف الميزانية.. لأنهم اشترطوا أن يكون الفيلم ناطقا بالانجليزية وليس بالإسبانية كما أراده. وأصر هو على أن الفيلم غير قابل لأي “مواءمات”.

ليس المقصود هنا تصوير “ديل تورو” على أنه فنان تام ولا يهتم بحسابات الميزانية والجماهيرية والأرباح.. بالتأكيد هو ليس النسخة المكسيكية من “شادي عبد السلام”.. فمعظم أفلامه ناطقة بالانجليزية.. وله عدد من الأفلام الناجحة جماهيريا وتجاريا.. لكن المقصود هو أن له ذائقة جمالية خاصة.. والتي تتعارض أحيانا مع الذائقة الجمالية الأمريكية وحساباتها.. ربما لهذا نجد أن حتى في أكبر نجاحاته التجارية (حافة المحيط) كانت الإيرادات داخل الولايات المتحدة أقل من ربع الإيرادات الكلية للفيلم على مستوى العالم.

ذائقة ديل تورو الخاصة جعلت لأفلامه انطباع خاص.. لغة متفردة على مستوى الصورة والقصة والرؤية العامة للفيلم.. قد يتشابه أداءه أحيانا مع رفاقه المكسيكيين وأحيانا مع الأمريكيين.. لكنه ينجح دوما في أن يفعلها بطريقته.

وبعد نجاحات تجارية أحيانا ونقدية أحيانا.. ظل التحدي الأكبر للمكسيكي هو أن يلحق برفاقه في الفوز برضا الأكاديمية ليمنحوه الأوسكار.

لكن جمالياتك الخاصة – بل وحتى النجاح النقدي والجماهيري – كلها ليست كافية للفوز.. لتحصل على التمثال الذهبي يجب عليك أن ترضي “ذائقة الأكاديمية” أولا.. فالمتابع الفطن لجوائز الأوسكار يلاحظ أن الأفلام الفائزة تخضع لذائقة معينة.. ومن السهل تحديد نقاط القوة التي يمكن أن تزيد من حظوظ الفيلم للفوز، بالتالي عرف المخرجون ما هي “الخلطة السرية للنجاح” في الأوسكار.. وهو ما قام به “ديل تورو” هنا.

أكرر هنا ما ذكرته في مقالي السابق، لا يعيب المبدع أن يكون طموحا للفوز بالجوائز طالما لم يأت ذلك على حساب “ابتذال” ابداعه.. وبالتأكيد لا نستطيع أن نعتبر “شكل الماء” عملا مبتذلا.. بل هو عمل متكامل فنيا وحصل على جائزة مستحقة.. لكنه بالتأكيد أكثر “مواءمة” للأوسكار من “متاهة بان” مثلا.

ذكرتُ “متاهة بان” بالتحديد  لوجود مساحة كبيرة مشتركة بين الفيلمين.. سواء في الرؤية العامة للفيلم أو على مستوى الأحداث والتفاصيل الصغيرة.. في بعض المناطق قد نعتبر “شكل الماء” هو النسخة الأكثر “أمريكية” من “بان” ومتاهته.. في كلا الفيلمين تنبني القصة حول شخصية أنثوية مختلفة عن الطبيعة.. تبدو كأنها قادمة من عالم آخر.. وفي كلا الفيلمين تلتقي تلك “الأنثى المتفردة” بكائن من عالم آخر: إله الغابات (فونو/بان) في المتاهة، والكائن البرمائي في الشكل.. وتدور أحداث الفيلمين في جو عسكري في سياق مرتبط بالحرب.

لكن نجد عناصر “الخلطة السرية الأمريكية” واضحة تماما في “شكل الماء”.. ابتداء من اختيار مكان وزمان الأحداث: أمريكا بداية الستينات.. في أوج الحرب الباردة وحركة  الحريات المدنية.

كذلك على مستوى رسم الشخصيات نجد أن السيناريو يحتوي على عدد من النماذج المحببة للأكاديمية: الملونين والمثليين، ليس هذا فقط، لكن بلمحة فنية ذكية أصبحت المرأة الملونة والرجل المثلي المتخفي هما “المتحدثان” الأساسيان في الفيلم.. بينما البطلان صامتان.. كما أشارت الممثلة أوكتافيا سبنسر في حديثها عن دورها.

ونقطة قد تكون الأهم في الحصول على رضا الأكاديمية: إشارة السيناريو لسوء الإدارة العسكرية الأمريكية.. والغمز في الوضع الحالي لإدارة ترامب الكارهة للحريات.

والحقيقة أننا لو تعسفنا في التعامل مع السيناريو وقمنا بحذف كل عناصر الخلطة الأمريكية السرية منه (ملونين، مثليينـ أمريكا ترامب) لم يكن هذا ليصنع خللا حقيقيا في حكاية الفيلم ومضمونه.. لكن في النهاية هو قرار المخرج…

سيناريو ديل تورو وفانيسا تايلور جاء بسيطا وشعريا.. حصل على ترشيح مستحق لأوسكار أحسن سيناريو أصلي.. وربما كان أحق بالفوز من “اخرج”.. السيناريو رغم بساطته ورغم أنه يبدو واقعيا حين ننظر له بتعجل إلا أنه في الحقيقة أقرب لحكاية حب فانتازية مكتوبة برقة ولكن بذكاء.. فرغم كل التفاصيل الواقعية عن القاعدة العسكرية إلا أن تفاصيل التعامل الأمني يظهر لنا أن القاعدة العسكرية فائقة التأمين ليست بهذا الأمن.. لتصبح أقرب لقلعة خيالية من قصص الأطفال لكن بصورة حديثة…

يرسخ لهذه الفكرة طبيعة صورة الفيلم: الديكور العام ذو الانطباع الواقعي بشكل عام.. لكنه خيالي بشكل تفصيلي.. والتصوير ذو الإضاءة الخافتة والحالمة.. وربط الفيلم بسينما الثلاثينات الاستعراضية الحالمة.

اختيار الممثلين كان من أهم نقاط قوة الفيلم..  فرغم عدم اعتماده على “النجوم” بشكلهم المعتاد إلا أن الفيلم اعتمد على طاقم مميز من الممثلين.. لهم رصيد مميز في الأوسكار والجولدن جلوب وغيرها من الجوائز: ترشيح سابق لسالي هوكنز للأوسكار وفوز وترشيحان للجولدن جلوب، ترشيح للأوسكار لريتشارد جينكنز وبالطبع أوكتافيا سبنسر.. طفلة الأوسكار السمراء المدللة بفوز وترشيح سابق.. لكن بالتأكيد المهم ليس الجوائز أو السيرة الذاتية الدسمة للممثل.. الأساس هو قدرة ديل تورو الواضحة على اختيار الممثلين الملائمين للأدوار.. وقدرته على “إدارة” أداء الممثلين لإخراج أحسن ما عندهم.. هذه القدرة التي تعشقها الأكاديمية في المخرج.

حصل الفيلم على ترشيح مستحق للأوسكار عن المونتاج.. إيقاع الفيلم مصنوع بحرفية وبشكل ناعم.. إيقاع هادئ وناعم في المشاهد العاطفية والفانتازية.. وإيقاع أكثر سرعة في المشاهد التي تعتمد على الحركة.

الموسيقى التصويرية المميزة لألكسندر ديبلا كان لها دور في تغليف الأحداث بطابع فانتازي.. لكن لا نستطيع أن نعتبر الموسيقى مشارك حقيقي في الحدث.. هي مجرد عامل مصاحب له.. ربما كان الأجدر بالفوز هو موسيقى دنكيرك التي جعلها هانز زيمر جزء أساسي من الفيلم لا تكتمل تجربة مشاهدته بدونه.

ربما مع الوقت ستتراجع مقولة “أول فيلم خيال علمي يحصل على الأوسكار” لأن في الفيلم أقرب للفانتازيا منه للخيال العلمي بكثير.. لكن هذا لن يقلل من قيمة الحالة الفنية الشعرية الجميلة التي قدمها لنا.. صاحب المتاهة…

 

مقالات من نفس القسم