شطة

شطة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد وحيد

لم تكن الشمس من عادتها زياره شقته, ربما زياره خاطفه كل فين وفين , فبيته  يطل على  حاره ضيقه, تتعانق فيه البنايات فى موده و عشم , فاذا وقفت فى الشرفه ومددت يدك ,يمكنك ان تصافح جارك فى الشرفه المقابله ,بل وتتبادلا اكواب الشاى والسجائر ,والقبلات اذا شئتم , فيما مضى ,و قبل ان تستطيل البنايات وتعلو قامتها , ويتحول الدور والدورين ,الى خمسه وسته ادوار من الطوب الاحمر العارى , كان الشارع يستقبل الشمس بحفاوه اغلب ساعات النهار.

“يا حبيبى تعالى الحقنى , شوف ايه اللى جرالى ” , ياتى صوت اسمهان  بعيدا ,مشوشا  ,من الراديو السانيو المتهالك ,لم يتزحزح من مكانه  منذ سنوات ,يرقد فى سكينه فوق الثلاجه الكريازى ال8 قدم التى تصدر ازيزا منفرا معظم الوقت  , خرج من الحمام بملابسه الداخليه المبلله مستندا على عكاز خشبى, شعره المهوش دائما كان قد انسدل فى استسلام  مفاجئ فوق رأسه ,فبدا منظره غريبا . كان يدندن بصوت اجش , مبحوح مع  اسمهان ,  داهمته حكه فى اشيائه السفلى ,حشر يده وهرش  بتلذذ حتى زالت, رفع يده الى انفه يتشممها فى تلك اللازمه المعتاده . يستيقظ فى الظهيره عاده مغالبا العفاريت التى تتقافز امامه ,و صداع محكم يلتف حول راسه  ودوخه ورجرجه من اثر ليله صاخبه  ,عامره بالحشيش والضحك والعبث.

***************

بدا منتعشا بعد رشفات متتاليه من كوب الشاى المزين ببصمات الاصابع , و عده انفاس من السيجاره السوبر  ,اطل من الشباك  الملقى بين احضان الحاره, يتلقى التحيات من اسفل ” صباحو فل يا ابوالكباتن”  فيرد عليها  من اعلى  باشاره من يده و “نهاره ابيض ”  , يتبادل حديث مقتضب مع جاره عن مباراه الامس بينما لا تزال اسمهان مندمجه فى وصله الغناء متجاهله رائحه الكمكمه التى تعبق الشقه , منذ ان انقطعت صباح عن المجئ, لم تزاح  السجاجيد الباليه ,ولم يتلقى البلاط زخات الماء بالفنيك او حكات الخيشه , صباح ,يتملكه الشجن ,والرغبه , كلما طافت بخياله. , “ولا عندى لا اب ولا ام ولا عم اشكيله , نار حبك” ’ تتراقص الستاره الترجال المهترئه مع نسمه هواء خاطفه , ارتدى ملابسه , التريننج ومن تحته فانله الاهلى مكتوب عليها ” shatta 10” , نظر فى المراه ذات الشرخ القطرى ,الذى يشطره الى نصفين ,تامل ملامحه , انتبه للشعيرات البيضاء المتناثره, فتذكر انه لم يصبغ منذ عده اشهر , اذن فلابد ان يعرج على خالد الحلاق قبل عودته ,ارتدى ساقه الصناعيه , واستعد للنزول .

**************

مقهى الدورى العام , عفوا ممنوع دخول الزملكاويه منعا للاحراج ” , تعلو تلك اليافطه بوابه المقهى الخشبيه ذات الاربع ضلف , بالداخل تتناثر صور لاعبى الاهلى القدامى والجدد , , بينما  فى صدر المقهى , فوق المكتب تماما  تستقرصوره قديمه مهترئه  لكابتن شطه صاحب المقهى , الى جوار الخطيب فى زيهم الرياضى,وان كان نصف الخطيب تقريبا ممزق .

 تتطاير انفاس المعسل من الشيش العديده المتفرقه فى كل مكان لتغطى سماء المقهى بسحب بيضاء,  تشتتها مراوح السقف القديمه ,المغطاه بطبقه سوداء من الاتربه المتراكمه , بينما يتوه هديرها المزعج  فى الصخب ,ثرثره الزبائن وزعيقهم وسبابهم , طرقعه قواشيط الطاوله وكركره الشيشه ورنين الماركات ,وان كان صوت ابراهيم  القهوجى هو الاكثر حضورا,  برنينه المميز ونبرته الممطوطه ” شاى الابوسطااه ,ايوه شيشه قص هنااا ,شاى بحليب منه  مع قهوه  زياده عالى , حساب البهوات يا كابتن  , يا جمالك يا ربناااا” , وسط ذلك الصخب يتسرب فى يأس صوت عبد الوهاب من المذياع  فى اغنيه قديمه ,كزائر منبوذ جاء دون ميعاد .

بالقرب  من الباب الذى يمرر فى حرص ضوء النهار الباهت, يجلس كابتن شطه, بهيئته المميزه , شعره المفلفل , شاربه مترامى الاطراف, الممتد بلامبالاه حتى منتصف ذقنه, مكونا ثلاث ارباع سكسوكه ,سلسته الذهبيه بحباتها السميكه ,واللبانه التى لا يكف عن هرسها بين اسنانه فى عصبيه , مندمجا فى لعب الاوراق ,والسيجاره تتدلى من فمه وقد استطالت طفيتها بشكل ملحوظ , القى بورقته الاخيره ثم هب واقفا  وهو يصيح :” ما انا اصلى ما خلفتش رجاله , ما خلفتش رجاله  يا امينه ” ,تملا ضحكاته المجلجله جنبات المقهى وسط التاففات واللعنات والشخرات الحاره ,الصادقه, على شطه وسنينه وحظ العوالم , “العوالم دول يبقوا امك واخواتها ,يا ابن الرقاصه منك له ,ابرز ياض “.

**************

يخيم الصمت على المكان , لا تسمع سوى صوت المعلق الرياضى بنبرته المحايده التى يمهد بها للهزيمه المتوقعه , وبضعه تاففات وعبارات مبتوره ,اعين الجميع معلقه بشاشه التلفزيون , “خلاص بقى خلصت , لاعيبه ولاد وسخه مكسحين ” يقولها احد اليائسين وهو يهم بالنهوض , يرد شطه فى عنف :” ما تهبط يا بنى انت , الماتش لسه ما خلصش ,الجون بييجى ف ثانيه, ده انا ياما جبت اجوان والحكم بيحط الصفاره ف بقه ”

 يغمغم اليائس وهو فى طريقه للخروج :” يحطها ف بقه , يحطها فى طيزه ,مش ناقصه حرقه دم ” , وما ان يغادر حتى يرتج المقهى “جووووووووووون” , يعود اليائس راكضا مره اخرى للمقهى , تسرى حاله من الفوضى والفرح الهيستيرى , تتبعثر الكراسى , تعلو الصيحات ودقات الطبله , ينزع شطه ساقه الصناعيه ويلوح بها فى الهواء وهو يتقافز على ساق واحده مستندا على ابراهيم القهوجى , “مش قلتلكم ,انا قلت هنكسب ,الجون بييجى ف ثانيه يا ولاد الكئيبه ,اهلىىىىىىى ,اهلىي ”

**************

جلس شطه فى استرخاء على كرسى الحلاقه يتابع بنصف اهتمام استوديو التحليل , صاح بعد ان تملكه الملل فى خالد  الحلاق  الذى كان منهكما فى لف سيجاره  :” ما تغير يا عم ولاد الكتيانه دول , لابسينلك بدل وعاملين فيها دكاتره , مش فالحين غير فى الكلام” , ” ما الروموت قدامك يا عم شطه , هات اللى انت عايزه ” , التقطه وغير القناه , انتهى خالد من مهمته وقدم السيجاره الى شطه :” مساء الفل يا ابو الكباتن , السيجاره دى هتعمل معاك السليمه ” , ” مش عايز اتقل النهارده, انا  ورايا ركوبه ” , ” ايوه يا عمنا , علشان كده بقى جاي تصبغ وتظبط الاداء” , ” احتفل يا بنى , مش كسبنا النهارده ” , طافت سحب الدخان الازرق بجنبات المكان وهبت رائحه الحشيش العطريه , نهض خالد وفتح الشفاط ,” مش صباح ظهرت فى الحاره من كام يوم” قالها خالد فى خبث وهو يعلم ان  ذلك الخبرسيقلب كيان شطه , استطرد بعدها ” عينى بارده عليها , بقت فرس بنت الايه , وبان عليها العز ,لبس ايه ودهب ايه ” , ” ما تحترم نفسك ياللا ” , ابتسم خالد فى خبث :” يا عم وانت ايه اللى مضايقك ,هى تخصك ولا ايه ؟” , ارتبك شطه قليلا : ” مش فكره , دى ست متجوزه ” ضحك خالد ضحكه هيستيريه تخللتها شخرات متقطعه :” ست متجوزه ؟! , يا ابن اللعيبه , بس بجد والله انت ضيعتها من ايديك” ناوله شطه السيجاره فى عنف :”اغسل بقى ,عايز اتكل على الله”.

**************

تشعل سيجاره ,تلتقط المطفاه من فوق الكومودينو وتضعها على فخذها , كانت عاريه الا من حماله الصدر السوداء ,جلست متربعه وأسندت ظهرها على المخده  , وشطه الممدد الى جوارها ,يدخن سيجارته فى صمت و شرود ,” هو حصل ازاى؟ ” قالتها وهى تنظر الى ساقه المبتوره , التفت لها شطه وبصوت خالى من اى انفعال:” حادثه قديمه”, ساد صمت طويل تخلله اصوات شجار تاتى من بعيد   , ” هو انت مش متجوز ” قالتها محاوله فتح مجالا للحديث , هز راسه نافيا ولم يعقب ,  بالطبع قفزت صباح مره اخرى الى راسه  فى تلك اللحظه  , صحن المهلبيه الشهى , المزين بحبات الزبيب ورشرشات القرفه وجوز الهند , كانت ايام

“ما تتجوزنى يا شطه “,قالتها  ببساطه وتلقائيه شديده , لا يتذكر بما اجاب عليها , ولكنه يتذكر انها كانت اخر مره يجمعهما ذلك السرير ,اختفت  من حياته بعدها بفتره  وعرف انها تزوجت من تاجر معروف , كانت ايام , يشهد بها هذا السرير , كم ان من التحماتهما الشرسه ,

,ظلت هى حبه الاول والاخير ,المراه لوحيده التى سلمت له جسدها عن طيب خاطر ,و دون ان يدفع لها مقابل ذلك , قد يعرف الجميع انه حرمجى ,ومشيه نجس  , ولكنه لم يعرف سوى المومسات , تشاركه الفراش مقابل حفنه من النقود لا اكثر ولا اقل ,ما عدا صباح طبعا .

, , ” هو انت ما بتتكلمش ليه ؟ , اوعى تكون زعلان عادى يعنى بتحصل كتير” , انتبه لها , رد فى ارتباك ,” لا دى اول مره تحصلى , واخر مره كمان , انا  بس تعبان النهارده شويه وتقلت فى الشرب , ده الجيران بيشتكوا من الصويت اللى بيطلع من عندى ”  , ضحكت ضحكه غنجه ,

 ” يا جامد انت” 

“تعرفى انى كنت لعيب كره ,فى الاهلى , الخطيب ده كان صاحبى جدا”, ارتسمت على وجهها امارات الدهشه , فاستطرد :”ده قبل الحادثه , هقول ايه , النصيب , كنت ممكن ابقى مشهور زيه كده ويمكن اكتر كمان ” , نهضت من على السرير الذى لم يكف عن تزييقه المزعج ,اخذ يتامل ساقه السليمه والاخرى المبتوره ويقارنهما ,واحده تنتهى باصابع والاخرى تنتهى بنهايه مفاجاه ,شكل نصف كره, ,” ,كنا بنعمل ثنائى يرعب اجدع دفاع” , لم يتلقى رد ولم ينتظره ,تمتم :” نصيب بقى ” , تلقى صوت اندفاع المياه من الدش ,فصاح ” خللى بالك لحسن الميه تخرج بره وتبهدل الدنيا “

**************

لم يظهر شطه فى المقهى حتى العصر , وهو امر مريب , ربما يحدث لاول مره , ” والله مش عارف, وموبايله كمان مقفول , انا مقلق , شويه كده وهعدى عليه ف البيت , مش عاويده ” رد ابراهيم القهوجى على احد السائلين عن شطه .

 عندما طرق الباب عده طرقات مع بعض الرنات على الجرس  استغرق الامر دقيقتين حتى ظهر شطه من خلف الباب بوجه ذابل ,مرتديا جلبابا ابيض حائل اللون ومستندا على عكازه الخشبى , بصوت متهدج وبالكاد يكتم دموعه ” بنت اللبوه نيمتنى وقشطت الشقه , وسرقت رجلى “, تقدم ابراهيم خطوتين ليصبح داخل الشقه ,يرتمى شطه فى حضنه وقد ترك العنان لدموعه :” انا يحصل فيا كده يا ابراهيم , بقيت هفق يا ابراهيم “

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون