شبح الفول الأخضر

غربان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبد الموجود

كان شارع 9 مظلماً بعد الثانية صباح جمعة، تحسست جيبى على أمل أخير بأن أجد مفتاح الشقة، طرقت باب الشقة اليسرى من الطابق الأرضى خبطات خفيفة، سمعت صوت حركة، كنت أخشى أن أوقظ زوجة صديقى، فتح الباب، أطلّت نظارته فى البداية وبعد أن تعودت عيناى على الإضاءة الخفيفة المنبعثة من أباجورة خلفه رأيت ابتسامة مرهقة تطلّ منه، أفسح لى المجال للدخول بدون كلام، كان يرتدى بيجامة مقلّمة، ابتسمت لأننى تخيلته بطلاً خارجاً من فيلم قديم، نطق بكلمتين غير أننى لم أتبينهما بسبب صوت نباح سريع انبعث فجأة من غرفة جانبية.

– عندك كلب؟!

– قدامنا فى شقة الأجنبية!

غمغمت بكلمات اعتذار عن إقلاقه بعد ضياع مفتاحى، هزّ رأسه بما يعنى لا عليك، اتجهت إلى الغرفة الجانبية متتبعاً إشاراته، حمل كتابين من الكنبة وألقى المسندين إلى الأرض، أضاء أباجورة صغيرة، تبيّنتُ الصور المعلقة على الحائط المواجه لمدخل الغرفة، شدّتنى صورتى التى أضع يدى فيها على صدرى، حاولت أن أتبيّن التعبير على وجهى، أو تذكُّر لحظة التصوير. فى اللحظة التى نشعر فيها بأن هناك من سيلتقط لنا صورة، من سيثبّتُ زمننا وملامحنا فى كادر.. يدخلُ عنصر الصنعة، يبدو مثل موجة تتصاعد من مخبئها بالأعماق إلى الملامح، تُغيّر شيئاً ولو طفيفاً من تلك الملامح مهما حاولنا أن نبدو تلقائيين.

– أنت التقطت لى الصورة؟!

– ذاكرتك ضعيفة!

تبدل صوته فى الإجابة إلى صوت أنثوى، كانت زوجته تقف مستندة إلى الباب، ضحكتُ وقد زال اللبس الخاطف.

– أنتِ؟!

وقبل أن تجيب استطردتُ: كنا فى معهد العلوم البحرية!

ضحك ثلاثتنا، وبخلاف الضحك كان هناك الإرهاق المشترك، ألقيت بنفسى فوق الكنبة، وقالت هى: احترس من شبح الفول الأخضر!

ضحكتْ وانصرفتْ، فيما شددتُ ذراعه: شبح الفول الأخضر؟!

بدأ يحكى لى وهو يضحك عن الشبح الذى يتجوّل بحرية فى الشقة ويطفئ أضواء الأباجورات، فى الأغلب يرونه حينما يكون ممعناً فى النظر إلى نفسه أمام مرآة غرفة النوم أو الحمام، رأسه الطويل وملامحه الشاحبة الخضراء جعلتهما يطلقان عليه لقب شبح الفول الأخضر، موطنه الأساسى ينبغى أن يكون فى زراعات الفول الأخضر لا شقة بالمعادى.

حاولت أن أستشف ما يخبئه وراء ابتساماته المتواصلة التى يقطعها ضحك خفيف، جال بذهنى أو أردت تصديق أنه يمزح، غير أن ملامحه اكتست فجأة بالجدية:

– المهم أنه لا يؤذى!

واستدار مغادراً غير أننى شددت ذراعه، التفتَ ضاحكاً، وأخبرنى أنه -الشبح- سيحترم فكرة أننى غريب فى الأغلب، كما يحترم خصوصيتهما الزوجية، كنت أعرف جيداً أن صديقى له خبرة مناسبة بعلم النفس تجعله يستطيع اللعب معى فى هذه المناسبة، فبدلاً من أن تبث كلماته الطمأنينة فىّ أشعلت مخاوفى الدائمة. كانت تخرج فى لحظات الوحدة، خاصة حينما تسافر زوجتى إلى أهلها، كنت أحدد إقامتى بالشقة فى كنبة الصالون المواجهة للتلفزيون، وذهابى إلى الحمام يكون بحساب كما أننى أترك المنزل مضاءً فى الصباح حتى لا أتعرّض لوساوس الظلمة حينما أعود مساءً. نبح كلب السيدة الأجنبية نباحاً متقطّعاً، وكان النباح يأتينى من خلف صديقى، قلت إننى سأذهب إلى الحمام وعليه أن ينتظرنى حتى أنتهى، تحاشيت النظر فى المرآة، وحاولت أن أبدو متماسكاً غير أن رعشة خفيفة أفقدتنى القدرة على التصويب وتناثر الرذاذ خارج قاعدة الحمام، ثم رعشة ثانية وجّهت الرذاذ إلى “البنطلون”، أغلقت “السوستة” بسرعة، وملأت كفىّ بالماء من “حنفية” الحوض ورششت على المكان الذى تناثر عليه الرذاذ وكررت ذلك أكثر من مرة، واضطررت إلى استخدام “المسّاحة” لدفع المياه التى سقطت على الأرض إلى فتحة البالوعة، قفز إلى ذهنى شبح كانترفيل وأنا أمرر يدى المبتلة على المكان المصاب برشاش البول فى “البنطلون”، قد تنتهى الهواجس لو أننى أقنعت نفسى بأننى يجب ألا أكون أقل شجاعة من الطفلين الذين حوّلا حياة الشبح الدوق إلى جحيم، لن أفاجئه فى المكتبة، ولن أختبئ له خلف ستارة وأفاجئه بـ”جردل” مياه متسخة فى وجهه، غير أننى يمكن أن أضحك بسخرية وأتحدث فى مواجهته عن لونه الأخضر الشاحب لو أنه تجرأ على مواجهتى. شعرت أننى وصلت إلى مرحلة من الهذيان وتكفلت الرعشة الجديدة فى تحريك يدى تجاه باب الحمام الذى تركته موارباً. لم يكن صديقى واقفاً كما اتفقنا، شعرت بالغضب الذى بدد قليلاً من المخاوف وتحركت سريعاً تجاه الغرفة قاطعاً الممر الطويل ودست على شىء طرى فى الأرض ومع انتفاضة مباغتة -لم أستطع منعها رغم تأكدى من صدورها- خبطت الأباجورة الاسطوانية وتحركت بطريقة الباليرينا حتى أوقفها فى الهواء، ولم أستطع، ووصل إلى سمعى صوت شواء، خمنت أنه لحشرة كانت تختبئ خلف لمبة “الهالوجين” غير أن تحرُّك الأباجورة أفقدها توازنها وجعلها تصطدم باللمبة الساخنة. كان صوت الارتطام مكتوماً لوجود الموكيت، وتركزت الإضاءة التى امتدت موازية للأرضية على وجه لعبة لحيوان يجمع بين ملامحى الأرنب والدب، وكانت عيناه السوداوان مركّزتين على وجهى، ضغطت على بطنه للتأكد من أنه الشىء الطرى الذى دسته. أعدت الأباجورة إلى وضعها وتحركت بسرعة إلى الغرفة. مددت جسدى على الكنبة وطالعت صورتى من بعيد. اتسع جزء من الصورة وبدت إضاءته قوية، نهار لحقل كبير يمتد فى الجهات الأربع، ورائحة الفول الأخضر القوية، وزهوره البيضاء المتفتحة، بينما الجد يضع “عامود” الطعام على ملاءة زرقاء نظيفة ويُخرج منه قطعتى جبن قديم، وزوجته تحضر كمية من الفول الأخضر وأرغفة العيش الشمسى على طرف الملاءة. ضحكت وبدأت أصغى لصوت نبضاتى التى ينقلها الفراش من ذراعى إلى أذنى، ركزت فى موجات الظلمة التى كانت تتبدد سريعاً فى مواجهة إضاءة الأباجورة الضعيفة، صوت النباح المتقطع، حوار بين اثنين بدا صوتهما عالياً عند عبورهما المدخل وخفت قبل أن يتلاشى، وفى هذه اللحظة قلت بصوت خفيض وأنا أنظر إلى الظل الشاحب القادم من الممر: أهلاً، غير أن الشجاعة التى لمستها فى نفسى انهارت بانطفاء الأباجورة المفاجئ!

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون