سيرة الاختباء (20)

ممدوح رزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

ربما كانت تلك محاولتي العملية الوحيدة لإقناع والديّ بأن كتابتي للقصة القصيرة ليست سلوكًا سيئًا مثلما يفترض اليقين الذي يحرّك ممارساتهما العدائية ضدي، ويثبّت في وعيهما تصوّرًا بأن هذه “العادة” سيكون لها تأثير سلبي على حياتي الدراسية.. طلبت منهما الجلوس ومعهما شقيقتي الكبرى في حجرة المعيشة والاستماع إلى إحدى التجارب القصصية المبكرة التي كتبتها قبل نشر قصتي الأولى عام 1993.. استجابوا لإلحاحي وعلى وجوههم ابتسامات ساخرة كأنما يتوقعون سماع نكتة ساذجة تليق بطالب في المرحلة الإعدادية، يعتبرها ـ بعكسهم ـ أمرًا جادًا.. وبالرغم من أنني كنت أعرف أنهم ـ كعادة الكبار في مواقف كهذه ـ يأخذونني على قدر عقلي؛ إلا أنني أردت انتهاز الفرصة باعتبارها لحظة حاسمة لا يجب خسارتها.. حدثًا فارقًا يمكنني من خلاله أن أضع حدًا لحالة التهديد المستقرة التي تحاصرني كولد صغير، لا يريد سوى أن يكتب دون عقاب فضلًا عن إمكانية الحصول على مكسب أفضل، واستبدال الطبيعة الخصامية لوالديّ تجاه الأمر بدعمٍ وتقدير أراهما بديهيين، ولو أن ذلك كان يبدو طموحًا مبالغًا فيه.. لكن في الوقت نفسه كان الشعور المباغت والأكثر هيمنة أثناء قراءتي للقصة أنني أنتهك ما هو أثمن مما يمكن أن يعوّضني أي انتصار محتمل في هذه الجلسة عن فقدانه.. أحسست فجأة وبشكل غامض وغير منتظر أنني أهدر عزلتي.. أفضح أسرار انطوائي الذي أراقب العالم من داخله.. شعرت بأنني أبتذل خيالاتي بتعريتها على هذا النحو، وهو ما أصبح طاغيًا على الترقب الحماسي لردود أفعال أسرتي، أو التشوّق للفوز بإعجابهم ومساندتهم لي.. كانت المحاولة القصصية عن بنت اسمها “ليلى”، تسكن في الحارة المقابلة لبيتنا، وأصيبت نتيجة حادث سيارة بكسر في ساقها، وبالرغم من أن هذه القصة ـ بحسب ما أتذكر ـ انتهت بمحاولتي لاسترداد رضاء والديّ بعد ارتكابي لتصرّف تسبب في غضبهما حين شاهدت هذه الطفلة وهي تتألم بينما يحملها أهلها بقدم ملفوفة بالجبس بعد عودتها من المستشفى؛ إلا أن التعليقات المتهكمة تلاحقت فور انتهائي من القراءة ولم يكن موضوعها سوى استنتاجهم الجماعي المتوهم بأنني أحب طفلة “قذرة” تسكن حارة سيئة السمعة، وتلعب طوال الوقت في الشارع مع أطفال “فاسدين” مثلها من أبناء “الأرذال”.. لم يفكر أحد في أن القصة ربما تكشف مثلًا عن افتقادي للأمان، ورغبتي في الحماية الأسرية من أي مكروه ممكن، دون أن يكون حادث سيارة بالضرورة، حتى لو كنت أمارس أحيانًا “أفعالًا خاطئة” ضد الجميع.. “كيف تحب فتاة مثل (ليلى)؟!”.. كان ذلك السؤال الاستنكاري الهازئ هو حصيلتي الوحيدة من تلك الجلسة، والمقترن طبعًا بترسيخ مضاعف لليقين السابق: “هذا ما تؤدي إليه حتمًا كتابة القصة القصيرة”.

لماذا لم أصنّف ما حدث في ذلك اليوم البعيد بأنه “الندوة” الأولى، وليست تلك التي حضرتها في منتدى عروس النيل الأدبي بعده بثلاث سنوات تقريبًا؟.. لأنني اعتبرت هذه الجلسة بعد نهايتها طقسًا منزليًا تقليديًا، لا يختلف عن صفعاتهم العفوية على وجهي في الطفولة، سواء بسبب الإهمال في الصلاة، أو اللعب الصاخب في الأوقات غير الملائمة، أو التفوّه بردود بذيئة أمام تحذير أو أمر أو إهانة.. ومع هذا فإنني ظللت أرى ملامحهم في كل الوجوه التي قرأت أمامها قصصي القصيرة بعد ذلك، حتى تلك التي كانت تبتسم إعجابًا واحترامًا، حيث لم يفارقني أبدًا الشعور القديم بأنني حينئذ أنتهك ما لا يمكن تعويضه.

 

مقالات من نفس القسم