سيرة الاختباء (2)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 143
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

كان يجب أن يكون لهذا المقال من الباب الأسبوعي موضوع آخر، ولكن المحاضرة التي ألقيتها الأحد الماضي عن الأصل الواقعي لرواية “دكتور جيكل ومستر هايد” فرضت نفسها، ليس لأهمية الحدث بالنسبة لي في حد ذاته، وهو ما كان سيلائمها الكتابة عنه في يومياتي على سبيل المثال، وإنما لأنه نموذج واضح لما كنت أقصده في المقال السابق عن “الاختباء”.

طوال ثلاث سنوات لم أعلن عن هذه الدراسة، ولم أخبر أي أحد بها، حتى المصنفين اجتماعيًا بأنهم الأقرب لي، منذ الليلة التي استمعت فيها كشخص مغرم بالدراما الإذاعية البوليسية القديمة إلى حلقة من برنامج “أغرب القضايا” وكانت بعنوان “قضية مقتل الدكتور باركمان”، وشعوري بأن شيطانًا غامضًا قد بدأ يحوم في عقلي حول أحداثها، مرورًا بمعاودة الاستماع إليها أكثر من مرة بإلحاح متصاعد، ثم البحث عن تفاصيل القضية على الإنترنت مقترنًا بالرجوع إلى ترجمات مختلفة للرواية التي قرأتها في طفولتي للمرة الأولى في نسخة مبسطة للناشئين، ثم تحوّلت إلى أحد الملاذات الكلاسيكية التي لم أتوقف عن التسلل إليها بين حين وآخر، وذلك بعد التوصّل إلى طبيعة الهاجس المحرّض الذي انتابني، والتأكد من صحته، وحتى البدء في كتابة الدراسة بعد زمن طويل من البحث والتنقيب والتحليل الاستكشافي في جميع الاتجاهات.

لم أكن أنوي الإعلان عن هذه الدراسة في محاضرة الأحد الماضي، حتى أن أول ما خطر في ذهني بعد توجيه الدعوة قبل انعقادها بأسبوع هو “محاولة” التحدث عن الماضي الأدبي الشخصي مثلما فعلت سابقًا بشكل اضطراري في مناسبات سابقة. كنت قد قررت، وبصورة عفوية الانتظار حتى صدور الكتاب مطلع العام القادم، حيث يمكن حينئد الاستجابة لرغبة المحررين الروتينية في كتابة شهادات أو إجراء حوارات عن هذه الدراسة، ولكن ما كان مؤكدًا هو عدم التحدث عنها لأطول فترة ممكنة .. التحدث الذي يشترط “الظهور”، أي الحالة التي لا تتوقف عن إثبات عدائيتها للكتابة.

ما جعلني أقرر على نحو مفاجئ الإعلان عن الدراسة قبل صدورها كمحاضرة في هذا اليوم هو ذلك التواطؤ الذي أشرت إليه في المقال السابق بين الضرورة الذاتية للكاتب، والإلحاح القهري للجماعة الأدبية التي تحاصره .. الرغبة في الكشف عن “مكسب جديد” أمام الاستعراضات المضحكة لمكاسب الآخرين الجديدة والمتلاحقة، التي تطالبك ضمنيًا بالمِثل .. حتى لو كنت في مكان آخر، يعتلي الحروب كافة، أو لديك تفسير ـ موضوعي ـ مختلف لـ “المكسب الأدبي”، مجرّد من التزييف القيمي لتحالف المال والشهرة، أو تمتلك دافعًا مغايرًا في عمقه لهذا “الظهور” .. كان ينبغي أن أكشف في هذا التوقيت عما هو “غير مسبوق” بحق، وليس المدهون بالثرثرة الشعبوية الرخيصة.

تواصل معي أحد الصحفيين بعد المحاضرة، وتحدث معي عن موضوعها، متوقعًا موافقتي على نشر هذه المناقشة كحوار عن الدراسة المنتظر صدورها، ولكنني طلبت منه الاكتفاء بصياغتها كخبر، وتأجيل الحوار لما بعد نشر الكتاب .. رغم أن الحوار ليس “ظهورًا”، ولكنني أدركت أن وراء رغبتي في استبداله بالشكل الخبري محاولة لاسترداد “الاختباء” .. استدراك ضمني لـ “الظهور” المبكر ـ حتى لو كان هناك إجماع بأن الأمر كان رائعًا ـ والذي كشف عن شيء كان ينبغي انتظار تحققه في صورته المثالية، وامتلاك وقتها المستحق كاملًا.

مقالات من نفس القسم