سيرة الاختباء (14)

مكان جيد لسلحفاة محنطة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

لم أكتب على فيسبوك في مساء اليوم الذي وصلت فيه مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس، مخاطبًا بقية الأسماء التي تضمنتها القائمة “مساء الخير على أحسن كتّاب قصة في مصر”، كما لم أكتب أنها “تكريم لرحلتي”، أو أن “كاتبًا بلا جائزة فكرة ممقوتة” .. لم أفعل هذا في ذلك المساء، ولا في أي مساء سابق أو تالٍ حصلت فيه على جائزة .. كنت سعيدًا، حيث التجسّد الأعنف لحقارة الجوائز كما كتبت من قبل، ولكنها ليست السعادة المخبولة التي تُظهرني على نحو مناقض لما أؤمن به: أن الجائزة استمدت القيمة من وصول مجموعتي إلى قائمتها القصيرة وليس العكس .. لم أكن أبدًا في حاجة لانتهاز الحصول على جائزة أو الوصول لقائمة طويلة أو قصيرة حتى أطلق فساءً متباهيًا، تدين نطاعته الكوميدية لرضاء مجموعة من الناس عن عملي.

لهذا، كان الرد الثابت من جانبي على التهاني والأمنيات الغزيرة المتلاحقة، التي توقع معظمها حصولي على الجائزة، وبشكل يصل أحيانًا لدرجة اليقين الكامل؛ كان الرد الثابت هو بقاء حالتي المزاجية محتفظة بنقائها في جميع الأحوال .. ولهذا أيضًا كتبت في صفحتي على فيسبوك بعد إعلان النتائج النهائية بأن “مكان جيد لسلحفاة محنطة” فوق أي تقييم .. العبارة التي أحرقت دُميات عديدة ، للدرجة التي دفعت أحدهم ـ مستغلًا إحدى لحظات ظهوري النادرة ـ لسؤالي عن الدافع وراء التقدّم للجائزة من الأصل طالما أن المجموعة “فوق أي تقييم” .. كان أثناء توجيه ذلك السؤال الذي بدا جليًا أنه حلم كثيرًا باللحظة التي سيطلب مني الإجابة عليه؛ كان أشبه بفأر مرتجف، يرجوني ألا أنزع عن وجهه قناعًا مهترئًا لقطٍ يبتسم ببلاهة طاغية .. أجبته هازئًا بأنني أريد الحصول على المكاسب .. أن أستمتع بهذه المكاسب كي أُشبع المسخ الغيبي المتجذّر بداخلي والذي يرغب في ذلك طوال الوقت، وليس له علاقة بما يُسمى بـ “التنافس الأدبي” في حد ذاته .. نعم، ما أكتبه فوق أي تقييم ـ وهذا أقصى ما يمكنني تقديمه من تواضع ـ حتى تلك التقييمات التي منحتني الجوائز قبل القائمة القصيرة لجائزة ساويرس وبعدها.

بالتضاد مع الأسئلة المغتلّة، وعلى هامش حوار صحفي؛ طلب صديقي المحرر الأدبي أن يوّجه لي استفهامًا لن تُنشر إجابته ضمن ذلك الحوار: لو افترضنا أنك قمت ـ كجنتلمان صافٍ ـ بتوجيه التهنئة لآخرين على الجوائز التي حصلوا عليها، ثم لاحظت في استجاباتهم على تلك التهنئة، أو بعد ذلك أن كلًا منهم يُظهر ما يشير إلى سيطرة وهم التفوق على خطواته المنتشية، كمومس منهكة، حصلت على أجرها دون مضاجعة ـ وهذه صيغة تعاطف بالغة الصدق ـ ماذا سيكون رد فعلك؟ .. هل ستذكّرهم ولو بصورة غير مباشرة بأن دور النشر التي أصدرت كتبهم هي التي حصلت على تلك الجوائز؟، أم ستكتب قصصًا قصيرة سيكون من ضمن مقاصدها توجيه سخرية عقابية لهم؟، أم ستتجاهل الأمر، وتتركهم في حالهم، وتكتفي بالاستمناء؟ .. قلت لصديقي المحرر: سأقوم بكل ذلك معًا دون شك .. في الحقيقة كان الحوار الصحفي هو الذي على هامش هذا السؤال وإجابته.

كل كتابة ينبغي ـ إذا ما أرادت ـ أن تحصل على جائزة .. لكن ما ليس متعلقًا بها هو الذي يتحكم في حدوث ذلك أو عدمه .. غلاف الكتاب مثلا: اسم الكاتب .. جهة الإصدار .. هذه معلومة تتساوى في بداهتها مع الهشاشة الخرائية التي تقف وراء أشكال شائعة من الزهو بالجوائز.

(لو أعيدت كتابة السطور الافتتاحية على غلاف مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” بطريقة التنبيه الموجز، الذي يفسّر ما بين كلماتها لكُتب على الغلاف: “تحذير … كتابة مؤذية للقارئ المدجن، الخامل، ضارة بأصحاب الأذهان الناعمة”.

تسخر مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” بصورة ضمنية، وعلى نحو استباقي من القطعان الأليفة على جودريدز، وداخل مفارخ النقد الأدبي .. هي بالطبع تدفع ثمن حرمانها للآخرين من الإشباع المسالم، لكن استمتاعها بالتسبب في الإزعاج هو الجوهر المسيطر على المشاهد كافة، خاصة تلك التي يحاول البعض استغلالها في مداواة أوجاعهم.

تحدثت في أكثر من مناسبة عن الأهداف المتعددة لورشتي القصصية؛ وأعتقد أن هذه فرصة ملائمة للكشف عن غرض أساسي لم أتكلّم عنه من قبل: أن تكون هذه الورشة خطوة دامغة لطلابها في محاولة تأصيل خبرة التعرّف على الفرق بين الكتابة الودودة والكتابة المستفزة .. بين القصة المروّضة، والقصة العدائية .. بين الكاتب الذي يخضع “تمرّده” لحدود مستأنسة، والكاتب الذي يمتلك غريزة اللعب الهادم بأي يقين، مهما كانت صلابته .. ألا تتعطّل يقظتهم تجاه الغايات النمطية اللطيفة التي يحاول القراء دائمًا تقييد النصوص الجامحة بأمانها المتوهّم .. ألا يكونوا مجرد نسخ هامدة ضمن قطعان جودريدز، وبصرف النظر عن هل سيستمرون في بذل الجهد اللازم لتحقيق ذلك أم لا .. ربما يتذكرون الآن محاضرة “الكولاج اللازمني” عن التحريفات الصادمة في قصة همنجواي “عجوز على الجسر” على سبيل المثال .. تستهدف ورشتي القصصية أن يأتي يوم يكتب فيه النقاد ـ من خارج المفرخة ـ عن مجموعات طلابها مثل هذه السطور للناقد المبدع “عمر شهريار” عن “مكان جيد لسلحفاة محنطة”:

“ممدوح رزق يبحث طوال الوقت عن ثغرات العالم، كما أن الذات الساردة في كثير من قصصه هجومية .. عنيفة .. ساخرة، لكنها لا تنبع من قسوة أخلاقية، وإنما من إدراك عميق لعبثية العالم بوصفه مسخرة لا تحكمها قواعد سببية .. الذات المكرهة على الوجود، والتي تعرف أن كل شيء هو عبث، وبلا روابط منطقية؛ فتحل المتاهة (الخيوط المتشابكة، والمعقدة التي لا تؤدي لبعضها بالضرورة) محل البناء السردي الممنهج”.

أو مثلما كتب الأستاذ الكبير “محسن يونس” عنها:

“قارئ ممدوح رزق سوف يتمتع بجانب قراءته قصصًا تعتمد على ذات فردية، والإبحار في وجودها بالمعنى الوجودي الباحث في كينونته وماهيته في هذه الحياة المهولة، ودروبها العجائبية والغريبة عن الإحاطة، من خلال موقف درامي طازج يحسب للكاتب أنه له وحده، ولا شبيه له في كتّاب قصصنا في الوقت المعاصر”.

مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” هي مكان سيء لقارئ محنّط).

من اليوميات: 22 يوليو 2019

مقالات من نفس القسم