سيرة الاختباء (11)

ممدوح رزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق 

بدا كأن النجار النحيل، شاعر العامية الذي يسكن في تلك البقعة الضئيلة، وسط متاهة مجهولة، شبه مظلمة، لم نجرّب غرابة سكونها من قبل؛ بدا كأنه يعرف أننا قادمون إليه .. كأنه كان بانتظارنا، ولو كنا قد تأخرنا في الوصول لبيته، كان سيخرج إلينا من الحارة ثم إلى ناصية الشارع الطويل الضيق كي يأتي بنا إلى حجرة السطح. لم تمر دقائق حتى أضيفت لمحمد عمار صفات جديدة في وعينا المشترك أنا وصديقي: البساطة.. الطيبة.. المراعاة الأبوية المهذبة.. فضلًا عن خفة الروح المتهكمة، التي أدركتها دون أن أتحدث معه في منتدى عروس النيل الأدبي.

ـ أنا مابفتكرش الوشوش، لأني تايه أغلب الوقت (يضحك).. بس برافو عليكو إنكو عرفتوا توصلوا.. نشرب الشاي وبعدين أسمع قصصكو.

أخبرنا أنه يذهب ـ أحيانًا ـ إلى المنتدى ليضحك، أو ليعثر على أفكار للقصائد، أو ليوزّع أعداد “صهيل” التي يُشاركه تحريرها مجموعة من الكتّاب والنقاد الذين يجتمعون معه في مواعيد غير منتظمة داخل هذه الحجرة.

أصبح “محمد عمار” أشبه بالملاذ الأساسي في حياتي أنا ومحمد صابر .. لم يكن مجرد أب، أو أخ أكبر، أو صديق مقرّب، ولم تكن مشاعره تجاهنا تقتصر على الحب والاحترام والحرص على شؤوننا.. يكفي أن أتذكر كيف كنت أذهب إليه متلهفًا كي أقرأ له القصة الجديدة التي كتبتها، فتقابلني زوجته عند مدخل البيت، وتخبرني أنه مريض ونائم ثم أسمع صوته المتعب يناديني من حجرة السطح: “ممدوح .. اطلع .. أنا صاحي” .. حينئذ أصعد إليه متفاديًا النظر إلى الملامح الغاضبة لزوجته، الخائفة من تفاقم مرضه .. لم يتوقف عن استقبالنا والاستماع إلى قصصنا ومناقشتنا، والتحدث معنا في كل ما يخص الكتابة والحياة بالرغم من صحته المعتلة .. كان يأمر أهل بيته أن يوقظوه إذا أتيت، وكثيرًا ما كان يجبره التعب على البقاء ممددًا على السرير بينما يصغي لقصصي القصيرة، ويخبرني برأيه فيها.

خلال الفترة الطويلة التي كانت حجرة السطح لبيت محمد عمار مقصدنا المفضل؛ تعرفت أنا ومحمد صابر على أعضاء “صهيل”، الذين لا أعتقد أنهم ينسون الطقس الشهير لطلب الشاي عند محمد عمار؛ إذ كان يقوم بعد الزائرين؛ فإذا كانوا سبعة مثلا، يضرب أرض الحجرة بعصا غليظة كان يمتلكها سبع دقات قوية؛ فتعرف زوجته في الطابق السفلي أن عليها إعداد سبعة أكواب من الشاي.

لم تكن لدى محمد عمار دراية واسعة بفنيات القصة القصيرة، أو بجماليات الكتابة السردية، أو حتى بقواعد اللغة؛ ولكنه كان يمتلك من الحساسية الداعمة، والحدس المتفهّم، والاستدلال الحكائي ما كان يمنح طاقة سرية لوجودي، ليس فقط ككاتب يخوض بداياته، وإنما أيضًا كولد صغير يريد أن ينتزع استقلالًا حقيقيًا لعالمه الخاص خارج شرور الحياة التي تحاصره .. كان يمكن تعريفه بالعجوز النادر، الذي يعتبر أن عدم الإصغاء للصبية الصغار ـ خاصة لو كانوا يكتبون ـ والتحدث معهم في أي وقت يحتاجون فيه لذلك جريمة ليس بوسع أي شيء تبريرها.

مقالات من نفس القسم