سيدي مرزوق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

مخترقاً ميدان الساعة، بعد الانحراف يميناً من شارع هديه عند تقاطعه مع شارع القاضي. ماراً بشارع المديرية، من تحت البواكي القديمة، بمكتباتها التي تمتلئ واجهاتها الزجاجية بفيض من الهدايا رخيصة الثمن والولاعات والأدوات المكتبية ولعب الأطفال، وغيرها من الأشياء التي تبقى تخايل الصبي الذي كانه، الأشياء التي لم يعرف لها، يوماً، من ضرورة أو فائدة أبقى من شحذها الدائب وجلدها الخالد لمخيلته. صاعداً من عند بوابة الكُليلة باتجاه السكَة الجديدة، حيث يضيق الطريق ويزدحم بالمارة والمتسوقين أمام الحوانيت والدكاكين ووكالات الغلال المصفوفة على الجانبين. وصولاً إلى النقطة، المنشودة والمعهودة، عند بوابة مسجد سيدي البهي، بأسواره الحديدية القديمة الصدئة، وبحوشه الخارجي غير المتسع، وقبته العتيقة التي يبين خشبها للناظرين من تحت الإسمنت وأشغال الجبس المتآكلة، وبمئذنته النصف المبنية على الطراز المملوكي الشائع، والتي تناضل كي تؤكد، وإن بخجل وعلى استحياء، على وجودها الذاتي بمواجهة المآذن العملاقة، قديمها وجديدها، للمقام الأحمدي الشهير.
يلقي نظرة، عابرة ومتوترة في آن، على محلات بيع مصنوعات الخيزران، وخاصة العُصي والنبابيت، المقابلة للجامع، فيُعاود الارتعاد، الخفيف السريع غير المنظور، جسد الطفل، متذكراً مجيئه، بداية كل عام دراسي جديد، وبتكليف من معلمة الصف له باعتباره “ألفة” الفصل، كي ينتقي لها خيزرانة، طويلة رشيقة مرنة وقوية، ينقد البائع، الذي بات يعرفه جيداً، ثمنها كاملاً من تلك القروش، التي قام بجمعها، مسبقاً، من زملائه التلاميذ لتتمكن هي من معاقبتهم وضربهم على باطن أكفهم، وأحياناً على سيقانهم أو حتى تمدهم على باطن أقدامهم العارية، من دون أن يكون، هو نفسه، في مأمن كامل من لسعاتها، التي قد تطاله بين الحين والآخر. يبتسم إذ يلمح جده لأمه، بقامته القصيرة، وجسده الضامر النحيل، وظهره الذي أحناه العمر الطويل، وبشرته القمحية التي لا تمت بصلة لبشرة ابنته، البيضاء الحليبية، وشعرها الأحمر “الخواجاتي”، وبجلبابه الأبيض، النظيف على الدوام، المكوي بعناية على الدوام، وبعمامته الحمراء المميزة، التي يحرص، بشدة، على إحكام لفِها فوق رأسه بالرغم من اضمحلال ألوان صبغتها وتفكك عُرى لحمة نسيجها وسُداها. يظل صامتاً حتى ينتهي الجد من غلق بوابة المسجد الخشبية الثقيلة، أولاً، ثم البوابة الحديدية الخارجية، من بعد، ويضع مفاتيح الجامع الضخمة “بسيالة” الجلباب بحرص واضح، قبل أن يلتفت لحفيده الواقف، ويفتح له ذراعيه، ويضمه إلى حضنه، ويذهبان معاً.
يعبران نهر طريق السكة الجديدة رأسياً، ويستكملان الصعود بطول شارع صبري، أو “دُحديرة” صبري كما يسمعهم دوماً يطلقون عليها، متجاوزين شبكة معقدة، تلوح لعيني الصبي لا نهائية، من الشوارع الصغيرة والأزقة الضيقة، التي تتفرع من، وتتقاطع مع، الشارع الرئيس، والتي تنحدر، من جهة اليمين، نحو الصاغة وسوق الذهب حتى المعهد الأحمدي الأزهري ومحطة السكة الحديد، أو تتابع طلوعها، من جهة اليسار، باتجاه المشهد البدوي ودرب النحاسين وسوق الفسيخ، ومنها إلى درب البغالة بمقاهي “البوظة” و”المصامط ” المنتشرة والمتوزعة على جانبيه، ثم أخيراً قيسارية الحلوانية.
يقبض العجوز على يد حفيده، المتحفز للانفلات والجري غير عابئ بأخطار ومهالك الشوارع، الظاهرة منها والمخفية، ما يعرفه منها وما لم يعرفه بعد وما لن يعرفه يوماً، ويقوده يساراً حتى يبلغ “مصمط عبده رُكن” الشهير، حيث يبتاع لنفسه وجبة عشائه المعتادة من الكبدة والمخ والطحال، ثم إلى “البوظة” ليقتعد إحدى دككها الخشبية، زرقاء الطلاء، ويشير إلى الصغير ليجلس إلى جواره، ثم يقوم بفتح لفة العشاء ليأكل ببطء وتلذذ، ويروح يناول الصبي قطعاً، ممتازة منتقاة، من عشائه الفاخر، بينما ينفرد هو بالشرب من دورق “البوظة” الضخم المصنوع من النحاس الأحمر، قبل أن يوافيه صبي المقهى بلفة ضئيلة، لا تكاد تُرى، من الشيكولاته البنية الداكنة، أو ربما من طين الصلصال، الذي كان يستعمله الصبي في حصص الرسم والفنون بمدرسته الابتدائية، المخفي داخل ورق السوليفان بألوانه الزاهية المثيرة، ليضعها الجد، بصمت وفي لمح البصر، في قعر “سيالته” بجوار مفاتيح الجامع، متجاهلاً نظرات السؤال والاستطلاع الأخرس بعيني حفيده.
قال لها:
– كنتُ أبقى طيلة اليوم منتظراً ساعة ذهابي، قُبيل صلاة العشاء، لمقابلة جدي حتى يصطحبني معه، خلال جولته المسائية هذه، والعودة بي إلى بيتنا بشارع طه الحكيم، قبل أن يرتد هو راجعاً لبيته بكفر علي أغا، ولموقد الفحم، و”السبرتاية” البرونزية الصغيرة، وفنجان قهوته، الغامقة التي يشرع بتذويب الفص، الطيني الزيتي الملمس، فيها، ويروح يرشف، بتمهل واستمتاع، وهو متكئ بظهره إلى مسند الأريكة المواجه لشباك غرفته الواسعة قليلة الأثاث.
– وطبعاً لم تعرف، ربما إلا بعدها بكثير، ما كانت تحويه لفافة السوليفان الصغيرة تلك.
يبتسم لها، بلطف وبرقة، وبهيئة من لا يرى، بل من يحلم وتلِفه الرؤى. كانت ترفع ملعقتها، الفولاذية البراقة، إلى فمها الشهي، بشفتين مكتنزتين، نوعاً، وأسنان أمامية ناتئة، قليلاً، لتشرب من طبق “الحريرة” الثخين، في مقهاهما المفضل عند سور مدينة الرباط القديمة. همس:
– هناك المخ والطحال، وهنا الحريرة والبيض المسلوق، وهناك البوظة والأفيون، وهنا الحشيش والشيرا.
توقفت عن بلع الحساء، وحدجته بنظرة مستفهمة، أو لعلها معاتبة، فسارع بالقول:
– طالما تمنيت لو ينحرف بي، مرَة، من دحديرة صبري باتجاه اليمين، مروراً بمقام سيدي مرزوق، ونزولاً حتى خزان المياه القديم وحلقة السمك وتل الحدادين، لكنه لم يفعل.
أمسك عن الاسترسال في الحكي فجأة، وأخذ يتأمل ويحلم:
– لم يكن ذاك طريقه! أعرف الآن؛ لا يمضي أحدنا إلا على طريقه، ولا شأن لتمنيات أحد، أي أحد غيره، بهذا الأمر، حتى لو كان امتداده وذريته.
– هل تُفلسف كل شئ على هذا الشكل؟ ابسطها يا باسط.
ردت عليه بإشفاق يلوثه تهكمها، أو ربما حيرتها، أو ربما، وهذا أسوأ الأسوأ، تعاطفها. أخذ يلوم نفسه على اندفاعه في القول، متسائلاً عما ينتظره مع تلك الرباطية الشابة من عذاب، عما كان يأمله، ويطمع فيه، حين يفتح آبار روحه، المسدودة منذ زمن، أمام عينيها، المكحولتين البراقتين القاسيتين كزجاج شفاف يلتمع في الموت، أو عما يستطيع أي إنسان أن يهبه، لأي إنسان آخر، من إمكانية للخلاص؛ الخلاص من الذكرى كما من الوعود والانتظارات. تذكر ذلك اليوم الذي قابلها فيه لأول مرة. كانت قد زارته في مكتبه لإجراء حديث معه لمجلتها النسائية التافهة التي تعمل بها كصحفية تحت التمرين، لتسأله ذات الأسئلة، الصحفية التافهة، التي يسألها الجميع في مثل تلك المناسبات، وليجيبها، من جهته، نفس الإجابات، المكررة التافهة، التي يجرؤ على التفوه بها الجميع في مثل تلك المناسبات. وكان قد سأل نفسه عمن دفع بها إلى طريقه اليوم؛ أهي الصدفة التي لا يعتقد بوجودها في هذه الحياة؟ أم ذلك القومندان القابع، متنمراً ومراقباً، هناك في الظلام والدكنة والصمت والغموض القاسي، فلا يريح ولا يستريح؟ أم لعله القومندان الأعظم، واجد الأسباب ومعلل العلل، مؤلف القلوب وفاطرها ومحطمها؟ أو ربما ليس أكثر من قدر التفاهة والسخرية المُرة، لا غير؟
– أكثر من ربع قرن، تفصل بيننا يا صغيرتي، تعلمت خلالها أن ما هو منقبض لا ينبسط، وأن الموتى قد يضجرون من موتهم، كما قد يضجر الأحياء من حياتهم، وأن الجميع مشدود من الرقاب بسلاسل، طويلة صلبة لا مرئية، للاستمرار الأبدي في ممارسة لعبة الاستغماية، فهل تفهمين؟
وعلى طريقتها، الخاصة جداً، والمخبوءة، بعناية وحرص، في سراديب روحها، الغضة الممرورة، كانت تفهم. صحيح أنها لم تفهم، أبداً، لماذا كان يتوجب أن يغيب شقيقها الأكبر، ويختفي قسرياً، على زمان أمير المؤمنين الحسن الثاني عقب اشتراكه بالحراك الريفي في ثمانينيات القرن الفائت؟ وصحيح، كذلك، أنها لم تفهم كيف قنع أبوها من مصيبة العائلة بالركون إلى إدمان الخمر الرخيص وسجائر الحشيش “الكتامي” والصمت حتى الموت؟ وصحيح أنها واصلت العيش، حتى اللحظة، بأمل أن تفلح، بكيفية ما، في الهجرة لفرنسا، أو في الهرب إلى الشرق البعيد؛ إلى كردستان العراق، لتلتحق بسرايا المقاتلات الكرديات في مثل سنها؛ أولئك الأمازونات المسكونات بحلم الحرية، المحترقات بنار الخلق والنشور، ولتشاركهن بهجة صنع الدولة واستيلاد الأمة!
أمَا هو، فلم يفته أن يقول لها إن أباه كان أول من قاده، ذات نهار بعيد، لولوج العالم، السحري المخبوء، ليمين شارع صبري. أبوه نفسه الذي هجره، وسافر للزواج من فتاة أخرى، تشبه فتاته الرباطية تلك، أو قد لا تشبها لكنها تتوحد في خياله بها، تصغره بنحو ربع قرن آخر، وربما زج بها في طريقه ذات القومندان الأعظم، أو حتى ساعده الأيسر الأسود، فما من فرق. كان أبوه قد سحبه من يده الصغيرة، هكذا ببساطة وكما يفعل معه الجد، ليهبط به عند الخزان القديم وحلقة السمك، داخلين إلى مصنع حلويات عواره. أفهمه الأب أن آل عوارة هم زبائن لوكالته الكائنة بقمة درب الدلامية عند تقاطعها مع درب الأثر وبجوار مقام سيدي يونس مضيها، وأنه يورد للمصنع ما يحتاجون إليه من السمسم السوداني المستورد لصنع الحلاوة الطحينية والطحينة و زيت السيرج الحار، مشدداً عليه بضرورة مراعاة اللفظ والتصرف بشكل لائق في حضرة أولئك الأكابر.
– لكن من غير تذلل ولا تزلف. تذكر دوماً أنك ابني ووريثي.
والحال، أنه قد أمضى العمر، بطوله، محاولاً تذكر ذلك، فهل نجح؟
بدا غير مهتم بالجلوس، رفقة أبيه، ولا بشرب زجاجة الكولا المثلجة في مكتب سيد بك عوارة المكيف البارد. وحين دخل عليهم الأسطى عباس المكتب، وجدها فرصة سانحة لكي يستأذن الكبار ليصحبه عم عباس في جولة سريعة بالمصنع الغاطس، حتى ذقنه، في العتمة والسخونة. راعه منظر العمال، السمر مفتولي العضلات مشدودي القائمة شبه العرايا، في أجولة الخيش المنسوجة من القنب الخشن، والتي يلبسونها على اللحم، في تلك البقعة الجحيمية المتوارية عن أنظار العالم، والتي يصنعون فيها أحلى حلاوة طحينية تذوقها في حياته. راعه توفز الجلود البشرية الملتمع بقطرات العرق البلورية. راعته نظراتهم المتجهمة الثابتة المشرعة على فراغ لانهائي غير مبين، وأصوات همهماتهم وسبابهم وصراخهم إذ يتنادون فيما بينهم. غير أن أكثر ما راعه، أو روعه، فقد كان ذلك الشبه، العجيب والمخيف، بين أولئك الرجال وبين صورة نظرائهم ممن ألف رؤيتهم، في كابوسه الليلي، الذي ظل يوقظه من نومه كل يوم منذ حمل أبوه حقيبته وغادر البيت.
في طريق العودة، همس لأبيه كالمتضرع:
– أريد أن أزور مقام سيدي مرزوق.
– سيدي مرزوق؟ ولماذا سيدي مرزوق بالذات؟
لم يقل له إنه مقام الشيخ الذي سمع أمه تستنجد به، وتبتهل إليه، طول تلك الليالي التي عرفها تبيت فيها مؤرقة، حمراء العينين جاحظتهما من أثر البكاء الصامت المكتوم، بعيد هجره لهم.
– تقول أمي إنه جاءها في المنام، وأمرها بأن تختار أكبر وأجمل مرآة كريستال من بين كل المرايا التي تطمع فيها كل النساء!
– وماذا أيضاً؟
– وتقول إنه أسمراني، سريع الغضب، لا يقبل بالظلم. وإنها ستقدم لفقرائه فتة وشوربة العدس الذي يفضله على غيره من النذور، ليحفظني أنا مرآتها الكريستال الجميلة.
– آه، هذا هو الأمر إذاً، كما توقعت.
استسلم الأب للصمت، دقيقة طويلة، قبل أن يبادر، وفي واحدة من لفتاته الحنون النادرة، بالتربيت على رأس صبيه الرقيق، ثم يهمس له:
– إياك وأن تستسلم لأحلام النساء فيك يا بني، للرجال شؤون أخرى أهم من المرايا الكريستال الجميلة، فلتتذكر، دوماً، ما أقوله لك.
أمَا هو، فلم يخبره، يوماً، أن جده قد مات وهو يلعنه، وأنه، حتى الجد، الطيب المبروك، لا يقدر إلا أن يلعن حين يتعلق الأمر بإيذاء الإبنة، المغلوبة المنكوبة، في مشاعرها وقلبها.
قال لها:
– حكي لي جدي أنه لم يكن مجرد خادم في جامع سيدي البهي، بل كان من نسله وسلالته، ابنه بمعنى من المعاني، وأن أبي التاجر، المغتر وقتها بثروته وجاهه، كان قد حفي حتى يوافق له على تزويجه من ابنته الجميلة.
– رأيي أن الرجل خائن بالفطرة، وفي هذا قسوته وهشاشته.
انتبه إلى قولها، وانتتر كمن لمسه سلك كهربائي عارٍ مهدداً بامتصاص آخر أنفاس الحياة في عروقه.
– وترينني أنا أيضاً كذلك؟
– وهل تحب أن أخرجك من جنس الرجال يا حبيبي؟
سألت بسخرية مغناج، ثم فرقعت واحدة من ضحكاتها الصاخبة، مجوفة الرنين، والمعجونة بالمرارة والالتياث.
في كل ليلة، سيبيت يربي حنينه الخفي إلى ما ليس يدري، ويرعى لا انتظاره. كان قد أحب كل كل شئ؛ النساء والرجال، الحياة والموت، النغمة الساحرة الشاردة واللحم الطري المشوي على مذبح الرغبات والشهوات. وكان قد عرف ما كان عليه أن يعرف من أنه لا سبيل لأي معرفة كانت. هتف يناديه مستغيثاً:
– لعلها وحدها ما أنتظر؛ نقمتك وانتقامك يا سيدي مرزوق!

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون