سلاسل الفيروز

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فصل من رواية: أسما عواد

لم يطرق الباب، وجدته فجأة أمامي، وجهه الذي يحمل في تفاصيله تجاعيد تعدت بمراحل مقياس الزمن، لم أستطع أن أحدد كم من السنين حفرت خطوطها عليه. بشرته قمحية داكنة، وشعره أسود يخالطه البياض،  ظهره منحني في وضع الركوع، حتى يكاد يلامس الأرض، كل هذا جعلني أوقن بأنه قادم من مكان لا علاقة له بالزمن.  أخذت أحدق به، كان صامتا مثل ميت قد دبت فيه الحياة فجأة كدت أن أسأله عن اسمه عندما تبسم وأحسست بأني اعرفه قبل أن أولد هو بتفاصيل وجهه الأسمر وشعر صدره الذي يخالطه البياض.

يحدث دوما أن تشاهد إنسانا وتشعر بأنك تعرفه أو رايته منذ فترة ماضية ولكن العكس أن ترى شخصا في خيالك أو منامك ثم تراه فجأة ماثلا أمامك؟ هذا ما فوجئت به

يحدث أحيانا أن أشاهد إنسانا وأشعر بأني أعرفه أو رأيته من قبل ولكن العكس أن أرى شخصا في خيالي أو منامي ثم أراه فجأة ماثلا أمامي؟ هذا ما فوجئت به عندما وقع بصري عليه

     كنت أجلس في غرفتي أتفحص بطاقات قديمة، أرسلت إلي من أماكن مختلفة عندما ظهر فجأة، تحرك بخطى متأنية حتى جلس في ركن الغرفة بجوار الحائط. اختار مكانا عجيبا للجلوس لم يجلس على المقعد أو حتى على الأرض، بل جلس على الطاولة المنخفضة، على حافتها فقط، حتى يكاد يكون جالسا في الهواء. يتكئ على عصاه التي لفتت نظري منذ وقعت عليها عيناي، تظل بدائية بالرغم من كل شيء، قدمها، نتوءاتها التي لم تشذب، ملمسها الناعم من طول استخدام، كل هذا يضاف إلى تاريخ وجهه الذي يوحي بالقدم.

     هكذا كان عندما رأيته لأول مرة، بداية لم أعرفه، ربما بسبب ظهره الذي واجهني به في بادئ الأمر، وربما بسبب جسده الذي أخفاه تحت عباءته السوداء. بدا لي أنه يستخدمها  ليغطى بها أسراره.

     عندما استدار تكشفت ملامحه، وعرفته في الحال. كنت أحدق في وجهه في ذهول، لغة صامته نشأت بيننا، دون أن ننطق. بمجرد أن تلاقت أنظارنا، فوجئت بصدري ينشق وشخص يلقي فيه بعلم لا حدود له، إنه هو يتجسد أمامي بعد سبع سنوات، أليس كثيرا ؟ سبع سنوات من الحنين إلى شخص غير معروف ؟

     ـ سبع سنوات من الغياب .. ما فارقتك فيها يوما.

قال قبل أن يخلع عنه عباءته ويفردها بجانبه.فجأة تغير قوامه . جسده الذي كان منحنيا حتى يكاد يلامس الأرض أصبح ممشوقا وكأنه جسد فارس يمتطي حصانا في حلبة سباق.

قال :

     ـ لقد صدقت الرؤيا… سبع سنوات منذ ظهرت لك وأنت صامدة.. الآن أعطك العهد…هيا افتحي يديك

     في ذهول ـ ودون أن أفكرـ  فتحت يدي، كانت لا تزال تمسك بالبطاقات التي تلقيتها من أنحاء متفرقة وكنت قد نسيت وجودها بها، عندما تساقطت على الأرض سألني هل تعرفين ما العهد ؟

     ليست المرة الأولى التي أمنح فيها عهدا. أول مرة سمعت بها هذه الكلمة شعرت برغبة جارفة في المعرفة، وأحسست بأن المعرفة التي أنشدها مصحوبة بغموض له نكهة السحر، ووجدتني منجذبة إلى عالم له هذي الصفات، عالم قد يكون له من النبل  المتوارث ما يجعلني أحمل الأمانة إلى من بعدي بفخر، مثلما حملها من قبلي …. بمسؤولية نتناقلها عبر الأجيال.

     هذا ما جعلني أرتعش وأنا أردد نص العهد أول مرة وراء الرجل الغريب في خشوع منذ عشر سنوات. أمسك الرجل الغريب يدي اليمنى بيمناه، وباليد الأخرى ناولني الثعبان.. طويلا، أملسا مثل العصا التي يمسك بها. صلابة الثعبان كانت تتصدر ملمسه، صلبا مثل من يسير في طريق يعرف نهايته ومقصده.

ومثله كان الرجل الغريب الذي دخل حديقة البيت كي يخرج منها الأفاعي. رأى على وجهي علامات الدهشة والرغبة في القرب من كائن لا يطمع إلا في الهدوء.

ـ ألا تخشى من قربك منه

ـ أنا رفاعي ولا يمكن لثعبان أن يؤذي رفاعيا..

ـ أريد أن أصبح رفاعية أنا الأخرى

ـ يمكنني أن أمنحك العهد

أمسكت بالثعبان اللذي لفه حول عنقي وبدأت أحرك أناملي عليه

قال رددي ورائي:

ـ منك آخذ العهد وأقبله … منك أتسلمه، وإلى من بعدي أوصله. أن لا أؤذيك ولا تؤذني… محرم علي قتلك بيدي، ومحرمة سمومك على دمي.

 

 كانت أمي تراقبني وقد اتسعت عيناها في فزع، تنظر إلى الثعبان بتوجس،  تخشى اللحظة التي يبث فيها سمه في عنقي أو يدي، وعندما رأته وهو يلتف حول عنقي، وأنا أحرك أناملي على جسده الأملس، ازدادت عيناها اتساعا.

ـ ليس هذا بعجيب على من كان جدها رفاعيا.

     رفاعياكان هو.. نعم، وقد كنت أراه وهو يسير فوق السيوف الممتدة على الأعناق وأتعجب، كيف يدوسها بقدميه فلا تنقطع أعناقهم ؟!

لأنه رفاعي لم تكن تقنعني، ولكنها كانت كافية لأن أعتقد أن الرفاعية  يملكون أثمن ما في هذا العالم، القدرة والمعرفة.

     مشاهد قليلة أذكرها عن جدي، لكنها جميعا تتوارى خلف صورته وهو يغسل في طشت من نحاس أصفر، جالسا مفتوح الساقين، يتدفق الماء من أعلى رأسه  إلى حيث يجلس بينما تدلت أعضاءه في إذلال. نظرت يومها من فتحة الباب لأرى عمتي ونسوة يلتحفن السواد يقمن بإهدار الماء على رأسه، بينما  نقطة من الدم الأحمر تسقط من مجرى البول  لتذوب في المياه المحيطة به. تطفو هذه الصورة مصحوبة برائحة عطر جنائزي، العطر الذي خرج من الصندوق وأنا أقف بجوار باب الحديقة، أراقب الأيدي تمتد لتضعه بداخله، أتعجب في صمت : كيف لمن امتلك القدرة والمعرفة أن يقترب منه الموت ؟! كيف يموت وهو رفاعي ؟!

     عندما فتحت يدي، سقطت منها البطاقات وتناثرت على الأرض، مقلوب بعضها، والبعض الآخرعلى الوجه الصحيح. يابانية تقدم الشاي مبتسمة لضيف حميم، بطاقة لبرج إيفل ومن أسفله طفل ينظر إليه في إكبار، يد تسحب جملا، تظهر رأسه فقط بينما اختفى باقي جسده تحت بطاقة أخرى. كان لسقوط البطاقات صوتا موقظا نبهني إلى ما يحدث لي. ذلك اللحن من الانجذاب شعرت به وهو يسحبني إلى منطقة لا حضور فيها للأشياء، كنت قد ذهبت إليها بمجرد أن نظرت إلى عباءته السوداء، تلك المنطقة من التيه التي تغوي من يمر بها حتى يغوص فيها إلى النهاية. كنت أظني نائمة أو في حلم جميل مثل ذلك الحلم الذي رأيته فيه لأول مرة منذ سبع سنوات، لكنني أفقت على حقيقة وجودي بجواره وفي غرفتي حين مد يده وانتقىإحدى البطاقات التي سقطت على الأرض، أمسك بها ووجهها إلى عيني دون أن ينظر بها:

ـ  هنا … أعني إلى هناك سآخذك، سنكون معا في نهاية الرحلة، ولكن لتأخذي العهد أولا.

     المرة الثانية التي أخذت فيها عهدا كنت في ظروف أشد غرابة، بعيدة عن الواقع المتاح، قريبة من الواقع الغير مرئي. غير مرئي لأني كنت نائمة، وبالرغم من ذلك واقع لأني شعرت فيه بعلم اليقين، العلم باني نائمة، واليقين بأني أعيش حقيقة خارج الحلم.

     كنت في ساحة مسجد قديم، مكشوفة تلك الساحة حتى تكاد تصل إلى السماء، بل كانت كانت قائمة بين السحببالفعلوكأن المسجد قد أقيم بأكمله فوق السحب، بينما تحيط بها من جميع الجهات أعمدة مسقفة بسعف وجذوع نخيل. كان النور يغلف الساحة بضوء أسطوري، أثيري مثل الهواء، شفاف مثل ماء عذب. وعلى الأرض أحاط بي أطفال دون السادسة يبتسمون وهم يجذبونني من يدي. تعجبت كيف عرفوا باسمي هؤلاء الذين لم أرهم من قبل ويشبهون أجنة في الأرحام. أخذوني الأطفال إلى إحدى الزوايا التي تحملها الأعمدة وقد تحولت إلى مغارة مظلمة، أو كهف أقف على بابه وأنا لا أعرف عمق نهايته. ما بين باب الكهف وساحة المسجد خط فاصل بين النور والظلام، على هذا الخط وقف ضفدع أخضر، يضع على رأسه تاجا من الذهب، هذا التاج كان مرصعا بأحجار كريمة، تلمع في الظلام ببريق خاطف مثل أشعة الشمس، فجأة تحول هذا الضفدع إلى رجل ناداني باسمي.. هل كان يشبه هذا الواقف أمامي ؟ لا أعلم، لكنه طلب مني ـ بنفس الصيغة الآمرة ـ أن أفتح يدي ولما تأخرت قطب جبينه، وقال بحزم:

     ـ افتحي يدك، هيا افتحي

فتحت يدي وتناولت العهد الذي لم أعرف يوما ما هو، لكني استسلمت له وللنور الذي أغرق المكان بعدما أمسكت بيد الشيخ، أخذت منه العهد ثم أغلقت عليه بقوة كي لا يتسرب من يدي.

 كانت تلك المرتان السابقتان لتناولي العهد في الصحو والمنال لا تزال سطوتها باقية في نفسي حتى الآن لذا عادت إلي رهبة الغموض ورهبة المسئولية

     تذكرت تلك المرتان عندما قرب البطاقة مني وقال: إلى هناك سآخذك.

كانت البطاقة قريبة من عيني إلى درجة أني لم أر تفاصيلها، إلا بعدما أبعدها عنها.ظهرت الصورة واضحة، كانت لرمال كثبانية، متموجة، كمياه البحر، ترتفع حتى تكاد تكون جبلا وفي وسط الرمال، أعلى الجبل نبته خضراء، الله وحده يعلم كيف نمت داخل هذا العطش.

عندما وقع نظري على البطاقة تذكرت من قام بإرسالها، صالح الذي كتب على ظهرها: ” حتى في ظروف مثل التي تعيشها هذه النبتة توجد قطرة ماء “

نظر إلى نظرة أوحت بأنه يعرف كاتب هذه الكلمات، وكأنه قد قرأ ما يدور بذهني ابتسم قائلا :

     ـ إلى هناك سآخذك. سبع سنوات مضت، ليست مصادفة أن يكونوا سبع سنوات.

ـ لتكن إذن السبع العجاف، هذا أوان الرخاء .. لا بل هذا أوان العطاء، سأعطيك ما لم تعطه من قبل، ليست مصادفة أن يكونوا سبع سنوات، كما لم تكن مصادفة أن يكون هذا اسمك، كل شيء محسوب بقدر، ليكن أوان الرخاء، وليكن المنح مثل المطر إذن، يحيي البذور التي دفنت في جسدك طوال هذه السنين.

 

     هذا العجوز الذي عرفته بمجرد أن نظرت إلى وجهه وتبادلنا النظر، كان يكفي أن أراه لأن أعرف أن أوان الصمت قد مضى، ولكن لم يكن هذا كافيا لأن أعرف أن أوان الصخب قد بدأ .. لم يضعني في تدرج يمهد لي الأمور، لم يأخذ بيدي رويدا إلى حيث يريد. بمجرد أن فتحت يدي لأخذ العهد لف عباءته علي بسرعة، بنشاط لا يتفق مع جسده النحيف، وجلده المكرمش مثل أوراق الشجر. غطى جسدي بعباءته ثم أمسك بيدي، كان لملمس يده نعومة البدء، مثل نعومة الميلاد  في بشرة الطفل الوليد. لكنه عندما ضغط علي بقوة أحسست بخشونة القرب، بقسوة الحكمة التي تنقلك من زمن البراءة إلى حيز الاكتشاف. ما اكتشفته يومها عندما وضع يده في يدي، أن المعرفة لها ثمن غالي، لكي أحصل عليها يجب أن أودع براءتي أولا.

     شعرت ببراءتي تغادرني وهو يضغط على يدي، أمسك بها ثم قال:

ـ هيا رددي..

كان لصوته نبرة خشوع وقدم، وكأنه قادم من بئر عميق، جعلني أردد بجذب:

     ” منك أكتسب الطباع وإليك أعود بالرؤى … منك أستمد الروح وإليك أعود بالجسد “

ـ لقد أخذت العهد..هيا تهيئي.. سنرحل الآن.

خاص الكتابة

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون