رواية سلالم ترولار  .. مانفيستو سياسي بسرد أدبي مدهش

سلالم سمير قسيمي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الغني بن بوزيد

لم ينتظر سمير قسيمي طويلا في روايته المرشحة للبوكر العربية “سلالم ترولار”، ليعلن أنها نص سياسي يهدف إلى انتقاد الدولة الاستبدادية بما تعنيه من انعدام للحرية ورفض تام للمبادئ الديمقراطية التي تكرس الحق الطبيعي للشعوب في اختيار حكامها، موردا استهلالات سياسية قوية لغرامشي وللسياسي الجزائري الشهير عبد الحميد مهري وللمثقف النقدي عمار بلحسن.

 المتأمل في الاقتباسات التي أدرجها الكاتب في مطلع هذا العمل، بما فيها الاقتباس المستقل الوارد لاحقا للروائي الجزائري الشهير مالك حداد، يكتشف أن كل الأحداث والتقسيمات الهندسية للعمل، لم تكن إلا ترجمة لهذه الاقتباسات، فعدد سلالم ترولار، عنوان الرواية، هو نفسه عدد فصول الرواية السبعة، ومقولة مالك حداد، هي التي حددت بدقة فكرة الرواية المتمثلة في اختفاء الأبواب، أما اقتباسه من عمار بلحسن، ليس إلا خلاصة للرسالة التي أرسلها “الكاتب/الشخصية” رجل الطابق الخامس أهم شخصيات الرواية إلى زوجته المتخيلة والذي حدد مسارها كاملا، مثلما أوحت بذلك النهاية غير المتوقعة والصادمة للرواية.

لقد تمكن الروائي سمير قسيمي في هذا العمل، من نسج قصة تدور أحداثها في العاصمة الجزائرية، ولكنها ليست نفس المدينة التي نعرف، بل تلك التي بناها تاريخ قدس لأسباب واهية، وعمّرها واقع لا اطمئنان فيه، وكأنها قصة لمدينة “دولة” تسخر بمرارة من الاقتباس الذي أدرجه الكاتب للسياسي الجزائري عبد المهري، فالرواية بما فيها من أحداث لم تقدم الحرية كهدية، بل ظهر فيها الشعب غير مفتخر بماضيه، بل كان متقززا منه وكارها له، بسبب أنه أعطى الشرعية الثورية لمن سمته الرواية آلهة وأنصاف الآلهة، وهي شرعية شرحها المثقف النقدي أنطونيو غرامشي في الاقتباس الذي أورده الروائي.                                                                                                          

هكذا، يظهر سمير قسيمي ومن بداية عمله، مدركًا تمامًا لتفاصيل الرواية التي سيكتبها، فلم يكن ما أورده من اقتباسات اعتباطيا، ولا كانت خطته السردية المبنية على سبعة فصول كذلك، كل فصل منها قابله سلم من سلالم ترولار، حي شعبي بمحاذاة قصر الحكومة، أين تكتب الآلهة مقادير الناس.

تدور وقائع الرواية في العاصمة الجزائر، وهي المدينة التي دارت فيها كل أحداث روايات سمير قسيمي السابقة، وهي تيمة ميزت جميع أعمال الكاتب، سيما أنه أظهر في أكثر من عمل تمكنه من سرد الواقع المعيش للهامش الجزائري، فقد كانت روايته تصريح بضياع، أول عمل في تاريخ الرواية الجزائرية يتناول السجن وأحوال المسجونين، مخصصا جزءا كبيرا منها لسرد يوميات السجناء في أشهر سجن جزائري “سجن الحراش”، كما كانت روايته “يوم رائع للموت” عملا فريدا، ليس من حيث التقنية والتكثيف السردي اللذان ميزاها، بل لقدرتها على نقل صورة واضحة للأحياء الشعبية “حي باش جراح”، وما تعيشه من تهميش وانعزال اجتماعي واقتصادي، وهكذا، كانت كل أعمال سمير قسيمي التي كُتبت عن الهامش وفيه، ما يجعله أكثر الروائيين الجزائريين قدرة على سبر أغوار النفوس البائسة، التي جسدتها شخصيات تشترك جميعها وفي كل أعماله بلا استثناء في وصف “القبح”، والذي كثيرا ما يظهر في روايات صاحب الحالم على أنه حالة نفسية أكثر منها جسدية، ففي روايته سلالم ترولار، تجاوز الكاتب عقدة البطل، ليكتب عملا لا أبطال فيه، بل مجموعة من الشخصيات البشعة، المستمتعة كما كتب بـ”حياة لا حياة فيها”.

تظهر في بداية النص شخصية جمال حميدي، وهو بواب مصاب بالشلل الجسدي، قليل التعليم، غير ذكي، متذاكي، بشع على نحور كاريكاتيري مضحك، متزوج من امرأة بدينة مصابة بالبرص، لقيطة، قبيحة الوجه، مشهوة الجسد، متوهمة كانت نتاح تقاطع غير متوقع بين السلطة والشعب. وعلى هذا النحو استمر الكاتب في نحت شخوص روايته، ليخلق بذلك في نفسية القارئ حالة من التقزز والنفور من كل شخصيات العمل، تقزز يشبه الكره، فكان الهدف في تقبيح الشخصيات كما يظهر في أحداث الرواية، هو رسم لوحة ممعنة في السخرية وفي هجاء الواقع، بحيث يبقى السارد على نفس المسافة بين واقع مواطينين، رسمهم كأناس بلا رأس تحتل كروشهم أكبر مساحة بلا رأس، وبين ما يجدر أن يصير عليه هذا الواقع. ربما إمعانا لإظهار هذه المسافة، اختار الكاتب حي ترولا الشعبي، ليكون مسرحا لأحداث الرواية، مترمجا من خلاله المفارقة التي تشترك فيها كل الدول العربية: شعب فقير لدولة غنية.

تصحو المدينة الدولة على واقعة غريبة، تتمثل في اختفاء الأبواب والنوافذ، ليجد فيها سكانها أنفسهم في واقع جديد، يستحيل فيها وجود السرّ، لا يمكن بسب هذه الظاهرة أن يستمر الناس في فصل ظاهرهم عن باطنهم، لتظهر هكذا الحقيقة مجردة من كل تجميل، وتظهر حقيقة حكام المدينة/الدولة على أنهم مجرد أناس انتهازيين، لا قدسية لهم إلا تلك التي ابتدعوها وهم يوهمون الناس أن لولاهم لما تحرر البلد، ومنه جاء انتقاد الكاتب واضحا لما يعرف بالشرعية الثورية، ولكل ما جنته على مستقبل البلدان العربية خاصة الجزائر، مسرح الأحداث.

تظهر الرواية أرباب البلد، مجرد انتهازيين ممعنين في الغباء والسذاجة. ومثلما بشّعهم الكاتب، تفنن في وصف الشعب والمواطنين في أكثر من موضع من الرواية على نحو يظهر نقمته على الواقع، من خلال عمل غير حكائي، يميزه سرد قوي كتب بلغة متفاوتة المستوى بحسب الشخصية والحدث، لنجد أنفسنا رغم لا حكائية السرد أمام رواية تلخص كما يلي:

يصحو جمال حميدي في عالم مختلف اختفت منه الأبواب والنوافذ، عالم من الفوضى واللاأمن، تظهر فيه حقيقة حكام المدينة الذين استولوا على الحكم بقوة الشرعية الثورية وسطوة المال والتحالف المخزي مع استعمار الأمس، وأمام استحالة ضمان أمنهم، يفر أكثر الحكام سطوة إلى الخارج استنجادا بأولياء نعمتهم وسادتهم الحقيقيين، ويستمر التابعون لهم “آلهة الدرجة الثانية” في محاولات فاشلة لاسترداد سطوتهم على البلد، إلا أنهم يدركون أن الخوف منه انحسر إلى درجة أنه ليس بمقدور أحد ضمان أمنهم، فيستعينون أولا بالمرتزقة لحمايتهم، وببواب مقعد هو جمال حميدي، متوهمين أنه يملك الحل لمأساتهم التي وصفها الكاتب بدقة يشمئز منها أي قارئ لتطابقها مع الواقع العفن. لكن الأمور لا تستتب، فتحاول السلطة بث الفرقة بين الشعب المتظاهر ضدها، لتظهر هكذا تيارات سياسية في البداية، تنتهي إلى تشكيل أجنحة عسكرية “ميليشيات” وتبدأ في التقاتل، وكانت لتستمر في ذلك لو لم تظهر أفكار سياسية لنخبة مثقفة تدعو إلى دولة ديمقراطية يحكمها الشعب، فبمجرد ظهورها، تحالفت تلك الميليشيات المتقاتلة رغبة في السلطة ضدها، وكأنها يد واحدة ضد هذه الأفكار، وهي إشارة ذكية إلى قوة الكلمة والعقل المثقف، وقدرته على بث الخوف في أكثر الأنظمة استبدادا في العالم.

إلا أن الأمور التي تمناها الشعب لم تتحقق، ليس لأن الحكام استردوا مكانتهم، بل لأن ثمة في مكان ما من الظلمة مهندس أكبر، مهمته خلق الزعماء، قرر أن زمن الحكام/ الألهة قد انتهى، ولا بد من عصر جديد يكون الحكام فيه يشبهون تلك الشعوب التي لا يعنيه فيه منها إلا السطوة، حكام من طينة جمال حميدي، المقعد، الغبي، المتذاكي، الجاهل والجبان.

هنا، يتهم الكاتب النخبة بالتواطؤ للتمكين للاستبداد، اتهام لم يرمز إليه بل أظهره في كل مناسبة سمحت بها الأحداث التي انتهت بجمال حميدي إلى سدة الحكم، بعد أن لقنه رجل الظلام، خالق الرؤساء أو من سماه الكاتب “الرجل الضئيل” فنون السياسة، والتي عرفها الكاتب على انها القدرة على الفصل بين الكذب وعدم قول الحقيقة، وكأنهما يختلفان.

قدم سمير قسيمي في هذا العمل، رائعة تجاوزت بكثير ما عرف عربيًا في نوع الديستوبيا، رواية المدينة الفاسدة، تكفي فقط لعبته الترميزية التي استعمل فيها صورة الزنجي، وكيف لاحقا حولها من صورة مرئية إلى صورة نفسية في آخر العمل، لتكون هذه الرواية عملا فريدا من نوعه. يكفي أيضا، ما فعله حين حول “القطعة النقدية” من مجرد شيء مادي بلا معنى، إلى أيقونة ترمز للأصالة والارتباط بالتاريخ والأرض والدين ثم إلى رمز يتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل، والتي من خلالها قدم صورة تاريخية ودينية تتماهى مع الوهم، وكيف بمقدور الأسطورة إذا تحالفت مع مصالح البعض المادية، إلى استعمال الدين سياسيا واقتصاديا لتحقيق السلطة على اختلاف أنواعها، فالوهم والاسثمار فيه، ليسا في النهاية إلا المحور الذي دارت عليه أحداث سلالم ترولار، والتي لعبت فيها الصدفة دورا مقدسا وكأنها القدر.

قد تبدو رواية سلالم ترولار، بسبب موضوعها، مجرد منفيستو سياسي، كتبه الروائي للتنفيس على القارئ، ولكنها في الحقيقة عمل سردي معقد، اعتمد تقنيات سينيمائية حديثة وفنيات سردية أكثر تعقيدا، ركزت في أحداثها على وصف نفس الصورة مرتين، من خلال التصغير والتكبير، فيظهر الفصل متبوعا بسيرة بطل من أبطال الرواية، من دون الاستعانة بتعدد الرواة، والإبقاء على الراوي العليم، ما أعطى سلطة أكبر للسارد لوصف أحداث وشخصيات لا يستطيع الراوي المتكلم أن يصفها بدقة، خاصة تلك التي تنسج في الزوايا المظلمة أو في النفوس المليئة باللؤم، وأيضا سمحت للكاتب بفرض زاوية نظره دون غيرها، رافضا كل الرفض أن يتدخل القارئ في عملية الكتابة أو التخيل، ما مكنه من وضع خاتمة استثنائية يستحيل على أي قارئ مهما بلغت قدرته أن يتوقعها، كما أنه ورغم صعوبة الأمر، لم يعتمد على حبكة واحدة طوال الرواية، بل عدّد في حبكاته، مسيطرا على إيقاع لم تحض فيه أي شخصية من شخوصه بدور البطل، فقد كانت الرواية هي بحد ذاتها البطل، ولعل هذا ما جعله يستعيل بشخصية غريبة برأسين: “الكاتب والرجل صاحب اسمه”. كانت قدرة الكاتب في الفصل بين الصورتين رهيبة وأحيانا مربكة جدا، كقدرته اللغوية في التمييز بين حالتين نفسيتين لشخصية الكاتب: قبل وبعد فقده للموهبة، فكانت لغة الرسالة التي أرسلها إلى زوجته من مرسيليا قبل أن يفقد مكنة الكتابة غير لغته بعدها، ولكنهما يتقاطعان في نقد الواقع على اختلافه.

سلالم ترولار، منفيستو سياسي كتبه سمير قسيمي في قالب سرد أدبي مدهش، ألبس فيه الواقع القبيح فانتازيا جميلة، لم تحكي فقط قصة الجزائر، بل تعدت إلى دولة لا يحلم مواطنوها إلا بيوم يحملون فيه صفة المواطن الإنسان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحفي وناقد جزائري

 

مقالات من نفس القسم