رواية “أولاد الناس – ثلاثية المماليك” لريم بسيوني.. التيه واليقين

أولاد الناس - ثلاثية المماليك
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

أقول:

          ..ما فعله فارس الدين أقطاي وعز الدين أيبك ومعهما شجرة الدر، استلهمه من بعدهم سيف الدين قطز وركن الدين بيبرس، ثم توالى السلاطين وأمراء المماليك البحرية والبرجية والمعزية وأبناء الناس والحفدة من بعدهم… هي نفس السيرة ونفس النهج، لم يحد أحدهم أبدا عن تنكب نفس الطريق… ومع كل هذا ظلت مصر أرض الكنانة شامخة، قوية، عزيزة…

الرواية:

          ما زال التاريخ يسجل قوته، وهيمنته، وسطوته على مجالات عدة. وأصبح الروائيون مولعين كثيرا بكتابة نصوص إبداعية روائية مستندة إلى خلفيات تاريخية، وكلما كان التاريخ إبان فترة سريانه عاصفا بالأحداث سلبية كانت أم إيجابية إلا وكان النص الروائي المنحوت بموازاته قويا، مثيرا، أخاذا.

          المبدعة المصرية المتألقة “ريم بسيوني” فتنها التاريخ، تاريخ بلادها، وارتأت أنه حمال أوجه، قد يكون في مظانه حقيقيا، وقد يكون في بعضه ملفقا، ولذلك فهو يظل دائما يرزح تحت وطأة مسطريه بأهوائهم، ورغباتهم، وأهدافهم. لقد دفعت هذه الشكوك المبدعة إلى التفكير في الغوص في عمق الأحداث التاريخية التي عرفتها أرض الكنانة المجيدة من أجل تحويلها إلى مجال أرحب وأوسع، قد يسعف في تصحيح الرؤية، وإجلاء الغموض، فكان الإبداع، وكانت الرواية وسيلة “ريم بسيوني” للوقوف على تدفق الأحداث التاريخية ضمن قناة النص السردي الذي يستطيع بتنويعاته، وغوصه في استجلاء المكنون، واستحضار المغيب، وتأمين الحضور من إعادة ترتيب البيت التاريخي لحقبة هامة جدا من تاريخ مصر، حقبة المماليك التي طبعت أرض الحضارات العريقة بطابع فريد مميز، أنتج تصورات اختلط فيها الحقيقي بالمزيف، والأصيل بالدخيل. وهكذا يبدو نص المبدعة وكأنه استعادة للواقع والحقائق من جديد ضمن رؤية روائية إبداعية تروم لم المشتت والمبعثر من أجل توجيه الأذهان نحو الاستفادة من السرد الإبداعي، ونحو إعادة بناء التصور التاريخي عن حقبة المماليك بطريقة تراعي الدقة، والأمانة، والحقيقة.              

          “أولاد الناس – ثلاثية المماليك”، عنوان الرواية مثير للغاية، لقد كان اختيار المبدعة لهذا العنوان مستندا كما نعتقد إلى حماسها، واعتزازها بتاريخ بلادها، ولذلك قامت بترتيب العنوان على هذا الشكل، مع العلم أنه وكما يظهر من العنوان الأصلي والعنوان الفرعي فإن قلب الترتيب كان سيكون أفضل وأحسن في نحت العنوان. عندما نقول في العنوان الأصلي “أولاد الناس”، فإن هذا الملفوظ ينصرف إلى جميع الناس دون تحديد صنف معين منهم سواء كانوا أبناء المماليك أو غيرهم، ثم إن الملفوظ هذا ناقص، واستكماله كان ينبغي أن يكون بصفة معبرة، مفيد، ومحدد، وعند ذلك سوف نتعرف جيدا على أولاد الناس هؤلاء والمقصود بهم، كأن تقول المبدعة مثلا في عنوان الرواية الأصلي “أولاد الناس الأوفياء، أو المحترمين، أو الشجعان…”، وبهذه الصفة نلاحظ أن الغموض ينحسر بسرعة، ويجعلنا ندرك المقصود لدى المبدعة بأولاد الناس. قد يكون مراد المبدعة مرتبطا بالحمولة الثقافية العربية التي تحيل ملفوظ “أولاد الناس” مباشرة إلى الناس الذين يتميزون بالأصالة، والذين لهم قيمة، والذين يعتمد عليهم، والذين يحترمهم الجميع في مقابل ملفوظ ” بقية الناس “. هذه الدلالة هي من المعطيات التي تتقاسمها جميع الثقافات الخاصة التي تميز كل قطر عربي، يكاد الجميع يتفق على المعنى الشائع منها، ولكن المبدعة ربطتها وحددتها بواسطة عنوان فرعي رغم أنها تركت الكلمات مفتقرة إلى الربط والإسناد في العنوان إلا أن الأمر يبدو بالصورة التي تصورتها المبدعة، وبالصورة التي تصورت أن المتلقي سوف يتصورها هو بدوره، بمعنى أن ” أولاد الناس ” العنوان الأصلي يحيل على العنوان الفرعي الثاني فيكون المقصود لدى الروائية في عنوانها هو “المماليك أولاد الناس – أو – أولاد الناس هم المماليك”. ولكن تاريخ المماليك الحقيقي لا يحتفظ بالصيغتين معا فهو يلغيهما بطريقة قطعية ولا يحتفظ إلا بالتراتبية التي فرضها أمراء المماليك، وساروا على نهجها طيلة تحكمهم في أرض الكنانة، ولذلك فإن الأمراء لا يعترفون بمفهوم أولاد الناس المتداول بين سكان مصر، بل عمدوا إلى تكريس رؤيتهم للأمور حتى فيما يتعلق بقيمة الكائن الإنساني ووضعيته الاجتماعية، وذلك وفق توافق عسكري وسياسي داخل دولة المماليك وهم يحكمون أهل مصر، وعلى هذا الأساس فإن أولاد الناس لدى المماليك هم فقط أولاد الأمراء المماليك الذين ولدوا في مصر من أمهات غير مصريات سواء كن حرائر أو جواري، فأبناء الأمراء المماليك لا يرثون صفة المملوك من آبائهم بل ولادتهم فوق التراب المصري تعفيهم من صفة المملوك وتحولهم إلى أحرار بنعت أولا د الناس، أما أهل مصر وسكانها الحقيقيون فهم فقط من العامة، ولا يسري عليهم لفظ أولاد الناس، وعليهم فقط أن يتقبلوا ويتحملوا ضغط الأمراء المماليك وهم يرهقونهم بالضرائب، والسلب، والنهب…      

          وتبقى كلمة “ثلاثية” فاصلة بين العنوانين فقط بصيغة منهجية لكي تعلمنا المبدعة بأنها سوف تقدم سردها عبر تقنية الأجزاء أو الحكايات، والتي سوف تصل إلى ثلاثة أجزاء أو ثلاث حكايات، بمعنى أن تصور المبدعة عن عملها الفني سوف يكون مشبعا لنهمها الأدبي والجمالي فقط عندما تستكمل حكاياته الثلاث. ثم لا يجب أن يغيب عن ذهننا أن العنوان الذي وضعته المبدعة بهذه الصيغة هو عبارة عن مصادرة على المطلوب “أولاد الناس هم المماليك” عنوان يدل على أن “ريم بسيوني” منذ البداية وقبل ولوج عتبة النص الروائي تخبر الجميع بأن يحسنوا الظن بالمماليك وبأبنائهم أولاد الناس، ومن كان لديه أدنى شك في سيرة المماليك وفي صدق خدمتهم لمصر الكنانة أن يعيد النظر في تصوره، وأن يقوم  بتصحيحه، لأن المماليك هم أولاد الناس بأل العهدية، أي بالتأكيد وبدون شك، بحيث إذا كان أبناؤهم أولاد الناس فإن الأولى والأحرى أن يكون من أنجبهم هم كذلك من أولاد الناس إن لم يكونوا أشرفهم وأعلاهم منزلة ومكانة، ولهذا فإن “ريم بسيوني” سوف تكتب نصا روائيا خاصا بفترة المماليك الذين كانوا مخلصين ومحبين لبلدهم مصر المجيدة، ولا مجال لاستحضار الأكاذيب والتهم التي ساقها البعض، وكالها للمماليك مشككا في ولائهم وإخلاصهم وهم يخدمون بلدهم.    

هي ثلاث حكايات:

1- حكاية الأمير المملوكي محمد بن عبد الله المحسني وزوجته زينب بنت التاجر أبي بكر المقشعي: الإمارة، والقوة، والحب، والحكمة. اغتصاب زينب من طرف الأمير المملوكي بعد زواجه منها قسرا، وتماهي الضحية بمغتصبها.

2- حكاية عمرو بن أحمد بن عبد الكريم المناطي وزوجته ضيفة بنت التاجر رضاوي: الطموح، والعدل، والقضاء، والعلم. اغتصاب نفسية ضيفة وجسدها من طرف أبيها بالسوط، وبالضرب، وبالحرق، وبالإيلام، وخضوع ضيفة خوفا ورعبا.   

3- حكاية الأمير المملوكي سلار وزوجته هند بنت المؤرخ ابن إياس أبو البركات صاحب كتاب ” بدائع الزهور في وقائع الدهور “: الكبرياء، والعزة، والفروسية، والعناد. اغتصاب هند من طرف الأمير المملوكي قبل الزواج بها، وتماهي الضحية بمغتصبها.  

          لقد قامت الروائية ببناء نصها الإبداعي على دلالة الفهم، الفهم الذاتي والفهم الموضوعي، حيث نجد طيلة الرواية تأكيد الشخصيات على بعضهم البعض على الاهتمام بموضوعة الفهم، ونستشف أحيانا بأن السياق يدل على أن هذه الشخصية أو تلك قد فهمت المطلوب فعلا، وأحيانا أخرى نكاد نجزم حسب المسار بأن بعض الشخصيات لم تفهم من بعضها البعض شيئا يذكر، ويبدو هذا واضحا في مسار الأحداث وتوجيهها، كما يبدو في السلوك الذي يصدر عن بعض شخصيات الرواية وينم عن قصور كبير في الفهم، بحيث لو كانت كل ملفوظات الفهم التي كررتها الروائية تتحقق لكان سياق الرواية سوف يتغير، وربما تغير معه سياق التاريخ كذلك، بحيث تكشف التجربة التاريخية التي عاشها المماليك عن قصور بالغ في استيعاب مفهوم هيرمونيطيقا الفهم بالصيغة التي تعبر عنها الفلسفة، ونفس الشيء وقعت فيه الرواية، بحيث لم تكن الروائية تدرك جيدا الزوايا المهمة الدالة التي يعبر عنها مفهوم الفهم وهي تحول السرد التاريخي إلى سرد روائي إبداعي، لقد كان البعد التاريخي متعاليا للغاية على البعد الروائي، ويتجاوزه في بعض الأحيان، فتفقد الجمالية الروائية أهم عناصرها التي تتجلى في تحويل الحدث التاريخي إلى متعة جمالية مغرقة في التخييل الخلاق، لقد كان الأولى في مسألة الفهم أن يكون هناك وعي نقدي تام لأهم أحداث الرواية التاريخية قبل تحويلها إلى نص أدبي جميل، ونحن نتحدث هنا عن ما يصطلح عليه بالاستقراء الفني، إذ إن الأدب يتميز بنوع من الشفافية في مقابل التاريخ الذي يتميز بنوع من الصرامة، بمعنى الاستكانة داخل قوالب علمية محددة سلفا، وهذا ما لا يقبله الأدب، حيث لا يقبل إلا الحرية والانطلاق، وله لحظات فارقة يصنع فيها المفاجأة التي تنتج المتعة والجمالية، والتاريخ يفتقد إلى هذه المرونة.         

          شخصيات المماليك التي وردت في الرواية لم تكن تمتلك إرادة الفهم، بل كانت تمتلك فقط إرادة الفعل، لأنها لو امتلكت إرادة الفهم لاستطاعت أن ترمم الصدع الكبير الذي كان يعري في كل مرة فترة من فترات هيمنة أحد السلاطين أو أحد الأمراءْ، الخطاب المملوكي خطاب فردي بامتياز، ولا يستحضر هذا الخطاب إرادة الاستكشاف الجماعي للحقيقة، لأنه خطاب آني، دائما يستبق الأحداث، ويصادر على المطلوب، ويستعجل الوقائع، حتى نكاد نحس بأن هذه الشخصيات القلقة المتصدعة قد وقعت أسيرة التماهي والتكرار، فهي ترفض الانفتاح على الآفاق الواعدة، وتصر على أن تعيش لحظات المماليك بالذات دون غيرها، ولذلك فهي تصنع تاريخا مموها يتكرر بأحداثه التي لا تتغير، يتغير فقط المماليك ولكن بأسمائهم وولاءاتهم المزيفة، لقد رسخ في لاوعي المماليك بأن التغيير هو عبارة عن علامة شؤم عليهم وعلى نفوذهم وسلطتهم، ولهذا كانوا يمعنون في صنع التطابق، والتشابه، والتماثل. شخصيات الرواية عندما تعبر بقولها إنها فهمت يظل هذا الفهم غريبا ومستهجنا، لأن التأكيد عليه يظل وهما، حيث الفهم لا يكتمل دائما، بل يبقى ناقصا باستمرار، ويحتاج إلى حلة قشيبة أخرى غير التي فرضت عليه من طرف الشخصية وهي تعبر عن قناعتها بالفهم، فالفهم عند المماليك عبارة عن امتلاك للحقيقة، وامتلاك الحقيقة بالفهم بشكل فردي لا ينتج إلا العاهات التي تقوض التاريخ والمجد والسلطة، الفهم ينبغي أن يكون فيه تبادل للأدوار من أجل إنتاج المعنى المؤدي إلى السعادة والاستقرار، وبغير هذا لا يكون إلا عبارة عن سيطرة وهيمنة وهميتين، وتكون النتيجة هي ما آلت إليه سلطنة المماليك.  

          ثم هذا المزج بين الحقيقة والخيال، وفي الحقيقة يكمن بعض الصواب، وكثير من الوهم والخداع، الحقيقة لكي تكتمل ينبغي أن تتوفر المشاركة في إنتاجها مع معناها، ولكن المماليك كانوا يحتكرون إنتاج الحقيقة وتحديد المعنى، من أجل إجلاء الحقيقة وبيان معانيها الكامنة فيها تكثر الروائية من السرد الخطي طويلا ولا تفكر في تكسيره بتقنية مغايرة مثل الحوار المكثف أو إضافة حدث جديد مثير أو…هي تحب كثيرا السرد الجواني الذي يصف حوار النفس مع النفس، فعلتها مع: زينب المقشعي – الأمير محمد بن عبد الله المحسني – السلاطين – القاضي عمرو – ضيفة زوجة القاضي…، هي تفضل الركون إلى الزوايا المظلمة لكي تخرج المخبوء فيها.  

          ثم انتصارها المفعم بالحرارة والذي يقطر بالحب والتطلع إلى غد أفضل في الحديث عن النساء، وتعذيبهن من طرف أزواجهن، واستهجان هذا الفعل المشين المخزي، واعتبرت المبدعة هذه الفترة التي عرفت تعذيب المرأة جسرا انتقاليا نحو حصول المرأة على كرامتها، واسترجاع عزها، بمعنى بناء المعنى من اللامعنى، من عمق العذاب سوف تستشرف المرأة خلاصها وحريتها، لقد ربطت حرية المرأة بحرية الحيوانات البرية التي تنطلق في البراري محررة من كل قيد أو عقال، لقد كانت المبدعة تريد للنساء الحرية المكتملة المنعشة المفيدة، فعمدت إلى بناء حقيقتها الخاصة التي كانت تريدها منذ البداية عند تخطيطها لكتابة الرواية كما تمثلتها وتصورتها، بحيث كان صوتها بارزا للغاية وهي تعمل على بناء متوالياتها السردية الواحدة تلو الأخرى.    

             لولوج فضاء النص الروائي والشروع في زخرفته، عملت المبدعة على تقديمه عبر قناة خاصة ربطتها بحدث لصيق بأحد المبدعين الباحثين الذي كان هو صاحب الأوراق التي نقل منها النص الروائي، وقد عملت المبدعة على إعداد قناة المرور إلى النص هذا عن طريق التأكيد على إشارة ذكية جدا، وهي أن المهندس الذي صمم وبنى مسجد ” السلطان حسن ” في مدينة القاهرة، ظل مجهولا تماما حتى سنة 1944، بمعنى أن الحقيقة عن هذا المسجد ظلت غير معروفة، وربما كانت مقرونة بتصورات خاطئة حتى هذه السنة المشار إليها، حيث استطاع الأستاذ ” حسن ” أستاذ، وكاتب الرواية من اكتشاف اسم المهندس ” محمد بن بيليك المحسني ” في إحدى زوايا مسجد السلطان، حيث تثبت ” لقطة ” أثرية بأن هذا المهندس هو الذي تكفل بإبداع تحفة المسجد السلطاني، والمهندس هذا هو ليس من المماليك بل هو من ” أولاد الناس “، إذ هو ” محمد بن الأمير المملوكي محمد بن عبد الله المحسني. وأمه هي زينب بنت أبي بكر المقشعي، وهي من عامة أهل مصر “، وهذه إشارة أخرى مهمة للغاية تؤكد أن ” أولاد الناس ” الذين يختفون، ويذوبون في القاهرة كانوا دائما في خدمة المماليك وأرض مصر. كل هذا تكفلت بنشره حفيدة مبدع الرواية بعد اثني عشر عاما من وفاته، بعد أن رفضت أمها القيام بنشره، رغم وصية أبيها وإلحاحه الشديد. ألا يكون الحفدة في بعض الحالات أوفى من الآباء؟ ألا يكون الحفدة في بعض الحالات أكثر الناس اهتماما بتصحيح كثير من المسارات الخاطئة؟ ألا يدفع الفضول في بعض الحالات كثيرا من الحفدة إلى العودة إلى المظان للوقوف على الأصول عوض الاعتماد على أوهام النسخ؟ إنها تقنية الإسناد، عن الحفيدة، عن أمها، عن أبيها…، والأب هنا كما تؤكد المبدعة أستاذ باحث مدقق، لقد أرادت الروائية أن تعلمنا منذ البداية أن أحداث الرواية صحيحة، حقيقية، صدرت عن باحث أفنى حياته في سبيل تحقيق حلمه المتمثل في التنقيب الجاد عن طريق استنطاق الآثار الخرساء، ودفعها للإعلان عن الحقائق التي أضمرتها منذ عقود طويلة.     

الحكاية الأولى:  

الباب الأول:   

الفصل الأول:          

          سنة 1309 للميلاد، تلج الروائية عالمها السردي بواسطة الزمن، لقد وثقت لعملها بسنة ميلادية مضبوطة، والزمن يقف دائما في عليائه شاهدا، ومشرفا على ما يكتنزه المكان من أسرار وعلامات دالة، ثم هذه الصيغة المباشرة التي شرعت بواسطتها في تقديم المتواليات السردية عن طريق اقتحام عالم مغلق يتشكل من مجموعة من الأعيان وهم بصدد عقد اجتماع طارئ لبحث أمر جلل. مدخل الرواية أرادته المبدعة قويا، عاصفا، مأزوما، لقد كانت بداية صادمة للمتلقي وهو يصطدم بصورة المماليك المرعبة، صورة كلها سطوة، وجبروت، وتسلط، وإقدام على نشر الخوف، والفتك، والقتل. محمد بن أبي بكر التاجر وابن عمه يوسف مقيدان داخل السوق بواسطة حبال قوية تقوم كوكبة من جنود المماليك بسوقهما نحو أميرهم قصد عقابهما، وربما قتلهما لاحقا، وزينب أخت محمد، وخطيبة يوسف تستعطف الأمير، وتطلب منه العفو عنهما، والأمير يزداد صلافة، وغلظة، ويأمر جنوده بسوقهما نحو السجن للنظر في أمر عصيانهما، واعتدائهما على الجنود…     

          جرعة قوية مرعبة من أجل إدخال المتلقي مباشرة في الجو العام الذي سوف تدور فيه أحداث الرواية، إن هذا الفضاء الروائي بهذا الشكل يوحي بالمتانة والتماسك اللذين من المنتظر أن تسير الرواية على هديهما، وتنسج على منوالهما، لكي يكون العمل في مستوى الفترة التاريخية التي يقوم بمقاربتها بصيغة أدبية جمالية.

          الحكي في هذا الفصل ذو طابع خطي، مباشر، وبسيط، معطياته مبنية على سياق وضعية الشخصيات المأزومة بصفة فيها ضغط، وحيرة، ورعب شديد، الأب أبو بكر صاحب التجارة الواسعة المزدهرة أضحى مكلوما بسبب سجن المماليك لابنه محمد، وابن أخيه يوسف، وأمير المماليك يهدد بقتلهما، ويشترط الزواج من زينب ابنة أبي بكر لكي يطلق سراح الشابين، لم يجد أبو بكر من وسيلة تخلصه من غمه وكربه إلا الاستنجاد بالفقيه الشاب عبد الكريم المناطي الذي يحسن التعامل مع المماليك، وتظل زينب أشد الشخصيات إحساسا بالظلم والألم، فهي في مأزق كبير، زواجها من الأمير المملوكي يحرمها من حبيبها وابن عمها يوسف، ورفضها للزواج بالأمير يعرض أخاها محمدا وابن عمها يوسف لبطش المملوكي، لذلك وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، وعليها أن ترضخ للأمر الواقع وتتزوج الأمير المملوكي محمد.

          لقد عمدت الروائية إلى تنزيل الشخصيات في هذا الفصل تنزيلا، حيث لم تكلف نفسها عناء تقديمها ونحتها بطريقة تدريجية، متأنية، بل استنبتتها استنباتا في ثنايا الحكي، وعملت على تحريكها مع بعضها البعض مقتصرة في ذلك على الحدث البارز المتمثل في مأساة التاجر أبي بكر، وكانت حركة الشخصيات هاته محدودة في زوايا مخصوصة، إما في بيت أبي بكر، أو في المسجد، أو في السوق. ولكن الروائية استثنت من هذا الاختيار شخصية الفقيه عبد الكريم، حيث قدمته بطريقة مفصلة، فيها عرض لمجرى حياته الشخصية من خلال الحديث عن دراساته، وعلاقاته الطيبة مع الناس، والمحتدمة في آن واحد مع الفقهاء الذين كانوا يتسابقون نحو قطف المزايا والمكاسب، ويوقعون ببعضهم البعض، بل ويدوسون على بعضهم في كثير من الأحيان في سبيل نيل حظوة أو مكرمة. ويمكن أن يدلنا هذا على اهتمام بالغ بشخصية عبد الكريم التي تبدو في الظاهر قوية، ومتماسكة، ولها قدرة بالغة على الاحتكاك بالمماليك، والحديث معهم، وعرض الطلبات عليهم، أما باقي الشخصيات فيظهر أنها كانت عليلة، كسيحة، ليست لها قابلية للتدافع، أو التقدم إلى الأمام، حيث تظل بهذا الشكل الذي اختارته المبدعة نكوصية، ومتراجعة إلى الوراء، ولا تتحرك إلا من وراء الستارة، وتوثر الدعة والسكون على الصخب والإقدام. إنها شخصيات مستعجلة، تنشد الخلاص السريع، والنتيجة المفرحة المباشرة، وتبحث عن النهاية السعيدة، ولكن المبدعة تزيد في تضييق الخناق عليها، وتغلق أمامها جميع المنافذ، وتعمق أزمتها لكي تستطيع الاشتغال داخل عالمها الحذر، وتسهم في تعميق المأساة خدمة لمنطق السببية، والتدرج، والثبات.     

الفصل الثاني:    

          في الوقت الذي استهلت فيه المبدعة الفصل الأول بسياق سردي متمركز حول الشخصيات قصد تحريكها من أجل دفعها للحصول على موطئ قدم في الرواية، فإنها آثرت في الفصل الثاني أن تستهل حكيها بالحديث عن الهندسة والمعمار، وهي تزاوج في ذلك بين الإنسان والحضارة، وهذه صيغة مثلى لبيان وتوضيح الأدوار الذي سادت في تلك الفترة من خلال الوقوف على قيمة الحضارة لدى المماليك في علاقتها بمن ينتجها ويبدع في فنونها، ورغم أن تقديمها لقصر الأمير محمد كان بسيطا ومقتضبا إلا أن الملامح الحضارية كانت بادية في السياق من خلال الحديث عن الطوابق عوض الدور الأرضية، والحديث عن النافورات الثلاث التي يتدفق منها الماء عوض الحنفيات العادية التي تفيد من غير الإسراف في نثر المياه وتضييعها لمجرد النزوة الجمالية والفنية في المعمار… وعدا عن هذا الأمر لم تقدم الروائية وصفا دقيقا، مشبعا لنوعية الهندسة والمعمار في قصر الأمير المملوكي، كما أن لقاء زينب بزوجها الأمير محمد كان غاية في البساطة والهدوء، ومرت أجواء الدخول بزينب ونزع عذريتها في زمن قياسي جد عادي، ولم يخلف الحدث لدى زينب أي أسى أو ألم، وهذا يدل على نوع من التنافر لدى المبدعة بين مفهوم ارتباط السابق باللاحق.

          لقد كان السابق مليئا بالحزن والأسى والترقب، وفيه كثير من الخوف والتوجس، وبدا فيه موضوع زواج المملوك محمد بزينب مثيرا لكثير من اللغط والكلام والحديث، والتفكير في تدبير خاص لمواجهته، بينما عملت المبدعة في اللاحق على كسر أفق الانتظار، ونزع فتيل قوته، فكان الحال كما ذكرنا أعلاه، باردا، شحيحا، يفتقر إلى القوة والحرارة، وتشغيل المخيلة بطريقة أكثر نجاعة وإفادة، الشيئ الذي أثر على مجرى السرد وحوله إلى متواليات ذات مضمون بسيط، وتأثير باهت.   

          عملت الروائية على توطين زينب في بيت الأمير محمد رغما عنها، وكانت زينب ذكية للغاية عندما تقبلت وضعها بحكمة وهدوء، وظهر للعيان أن الأمير المملوكي يتميز بالدقة في تفكيره وفعله، فهو يتعامل مع مجرى الحياة ومع جميع معطيات الحياة العامة والخاصة بفطنة ونباهة، ويعرف جيدا كيف يقدر الأشياء وينزلها منزلتها، فكان تعامله مع زينب شديد الواقعية، بحيث اعتبرها عنصرا من عناصر تحقيق رغباته في الحصول على كل ما يريده رغم صعوبة قبول المماليك للعامة داخل قصورهم، الأمير محمد شذ عن هذه القاعدة واعتبر أن وجود زينب زوجة في قصره من علامات هيمنة وسيطرة المماليك على عامة الناس ولو كانوا من الأغنياء والموسرين.

          تتميز المبدعة بسرعة التنقل في عملية تحريك الشخصيات، وعرض الأحداث المرتبطة بها، ويكون هذا التنقل لديها كثيرا بصورة مفاجأة، بدون تمهيد أو ربط مقنع، فهي تارة تعرض حديث الأمير محمد مع الفقيه عبد الكريم، وهو حديث بالغ القوة، بدا فيه الفقيه شديد الجرأة والتطاول، حيث جازف واشتكى للأمير بطش المماليك بالعامة، وإثقال كواهلهم بالضرائب، والاعتداء عليهم في أموالهم وأرواحهم. وتارة أخرى تعود لعرض مجريات حياة زينب في قصر الأمير بين جاريته الأثيرة سارة وبين أم خليل كبيرة الوصيفات، ثم تنتقل بسرعة إلى الحديث عن فاطمة ابنة خالة زينب وكيف أنها كانت متمردة على أهلها، وتحب الغناء والطرب، حتى تجاسرت على ترك بين أهلها والتحقت ببولاق حيث أرادت أن تصبح مغنية محترفة، وكيف استطاع رجال عائلتها إعادتها إلى البيت، ومن ثمة عمدوا إلى تزويجها لكي تعود عن غيها وأوهامها.     

          كانت أم زينب تزور ابنتها في قصر زوجها المملوكي بين الفينة والأخرى، وكلما زارتها كانت تصطحب معها فاطمة التي ظلت مصرة على الهرب من الديار والذهاب إلى بولاق من أجل الغناء والرقص. كانت أم زينب تحرص على فتح عدة قنوات لأحاديث مختلفة مع ابنتها زينب، وقد أرادت المبدعة هذا الحديث من أجل دفع أم زينب لتطهير نفسها بعد أن ضحت بابنتها وسلمتها زوجة للأمير المملوكي دون أن تتأكد من سلامة مصيرها، فقط من أجل حماية ابنها محمد أخو زينب، لقد آثرت الأم أن تقايض ابنتها بابنها، وهو أمر لم يغب بتاتا عن ذهن زينب، ولذلك فإن زينب اختارت أن تختصر الطريق وأن تقبل بالأمير المملوكي زوجا لها لكي تقصي كل إمكانية لوقوع مكروه جديد كما وقع لأخيها محمد، ولابن عمها وخطيبها يوسف، لقد كان اختيارها مبررا منطقيا وتاريخيا بسبب انتشار ظلم وجبروت الأمراء المماليك، وقدر منه يصيب زينب من زوجها الأمير محمد الذي يمعن في علاقته بها في ابتزاز عواطفها واهتمامها، باستغلالها، وإيلامها بأخيها وابن عمها.     

          نحن نلاحظ في سياق النص فترة المماليك هاته وهم يحكمون مصر باعتبارها فترة صراع حول السلطة، وتوتر في العلاقة، يولد توترا في الحكي لدى المبدعة، والصورة المهيمنة تدل على أن الفرق بين القوة والحقيقة في حياة المماليك هو المتجسد في الأحداث التي تسوقها المبدعة، وقد أجادت في إيرادها، وخصوصا عندما تصف حرية المماليك عندما يمتلكون الإمارة عن طريق السلاح والقتال، فهم يعوضون بخيراتها كل أنواع الحرمان التي عرفوها.   

الفصل الثالث:

          في هذا الفصل سوف تغوص المبدعة أكثر في قلعة المماليك حيث السلطان والأمراء، لقد ولجت وتسللت إلى العرين مباشرة، وعمدت في ولوجها إلى المرور عبر مركز السلطة والجبروت قبل مركز الحكم واتخاذ القرار، وكأنها تريد التأكيد على أن عناصر البطش كانت تسبق لدى المماليك عناصر التفكير، والاتزان، والحكمة.

          لقد استهلت الروائية هذا الفصل بالحديث عن سجن جب القلعة، وهو سجن ذو سمعة سيئة جدا، لا يدخله إلا هالك، ولا يخرج منه إلا سالك. فهو مكان تمتزج في مجاله الهندسة، والمعمار، والسلطة، وحب البطش، فهو الآلة الجهنمية التي يوظفها أمراء المماليك لكي يفرضوا أسلوبهم في الحكم، وقد احتفل هذا السجن الشهير باستقبال الأضداد دون تمييز، تحت شعار استسلم تسلم، تجبر تهلك، ولذلك فقد سجن فيه السلاطين، والأمراء، والتجار، والفقهاء، والعلماء…، لم يكن هذا السجن يحفل بنوعية المساجين، بل كان يبتلع الوافدين في ظلامه المتوحش دون تمييز بين نبيل وحقير، بين عامة وأولاد ناس…         

          سجن جب القلعة يجمع بين الجمالية والفتك، بين الوضوح والظلمة، وقد استهلت الروائية هذا الفصل بالحديث عن هذا السجن لكي تعلمنا بإقدام المماليك على سجن الفقيه العالم عبد الكريم داخله دون مراعاة لمكانته وسمعته، وقد سجن الفقيه لأنه كان قد شرع في الحديث عن ظلم المماليك وتنكيلهم بالعباد، وسجن الفقيه بإيعاز من الأمراء، وبأمر مباشر من السلطان بيبرس الجاشنكير، الذي كان قد استولى على الملك وطرد السلطان محمد الناصر إلى الكرك.

          في مقابل سجن الفقيه عبد الكريم في سجن جب القلعة داخل حمى المماليك، قدمت لنا الروائية إمكانية سردية أخرى تجلت فيها زينب مسجونة في سجن القصر، لقد تجرأت وتحدثت مع زوجها الأمير، ونعتته بالعبد المملوكي، فألقى بها في غياهب سجن القصر لكي يؤدبها، وأثناء سجنها مرض أبوها التاجر أبو بكر المقشعي مرضا سوف يؤدي به فيما بعد إلى الموت، ورغم أن الأمير سمح لها بزيارة المريض فإن ذلك لم يكن كافيا لديها للتقليص من كم العجز، والإحباط، والألم، والمعاناة، إنها المأساة فعلا.

          إن التقابل بين سجن زينب في سجن القصر، وبين سجن الفقيه عبد الكريم في سجن جب القلعة يتوفر على دلالة رمزية ثابتة، بسبب هذا السجن انعدمت كل إمكانية لتحرير زينب وتخليصها من أسر الأمير. لقد كان الفقيه عبد الكريم هو الشخص الوحيد الذي كان يستطيع التحدث مع المماليك بكل حرية، وكان هو الوحيد الذي فتح المجال لدفع الأمير محمد لإرجاع زينب إلى أهلها وخطيبها، سجنه قطع كل الآمال في إمكانية تحرير زينب من سجن الأمير. وكأن زينب استشعرت جيدا هذا الأمر، ولما أحست بأن جميع المنافذ قد أغلقت ثارت ثائرتها ووجهت النقد اللاذع لزوجها الأمير، فأمر بسجنها لسوء سلوكها. لقد أوحت لنا المبدعة بأن بطش المماليك قد يطال ليس فقط الأعداء بل حتى الأحباب وأقرب الناس، مما يدل على أن بطش المماليك لا تحده حدود أو موانع.

الفصل الرابع:          

          الذي نلاحظه لدى الروائية في هذا النص هو قلة الأحداث، فهي لم تتوسع كثيرا في عرض أحداث متنوعة تكون زادا مناسبا لتنامي السرد وتنوعه، ولذلك فإنها كانت تلجأ من أجل تعويض الأحداث القليلة إلى عصر الشخصيات عصرا، من خلال توظيف تقنية الامتداد، حيث تمتد هواجس الشخصيات وانشغالاتهم النفسية نحو أجواء اليأس والإحباط، فيمتد بذلك السرد ويتوسع. ثم إن قلة الأحداث ربما تعود إلى الفضاءات المغلقة التي تكتب عنها الروائية، مثل قصر الأمير، وسجن جب القلعة، وسجن القصر…، لأنه بالتأكيد سوف تكون جدران الأبنية المحدودة عاملا في تقليص الأحداث وجعلها قليلة، فتعوض الروائية هذا النقص بالغوص في نفسية الشخصيات، لقد كانت تفضل أعماق الشخصيات وخصوصا أعماق زينب النفسية على الخروج بها إلى الفضاء الرحب، لقد كانت تبني بالافتراض أكثر من الواقع الروائي، وفي هذا الإطار نلاحظ  إدراك زينب الذي جعلها تقتنع كيف أحجم الأمير محمد المملوكي عن قتل يوسف ابن عمها لكي لا يتحول إلى رمز لدى العامة من المصريين، خصوصا بعد أن ضمن ذوبان زينب بين يديه، وذوبان زينب لم يتحقق إلا بعد أن أدركت هي بواسطة دراسة المنطق والفلسفة بأن مصيرها تحدد بصيغة معقولة، وهنا تقف بنا المبدعة لكي تعلن بأن زينب هي في الحقيقة عبارة عن شخصية تنويرية متميزة، سوف يصل إشعاع شخصيتها لكي يسع جميع حدود المحيط الخاص الذي يسيطر عليه زوجها الأمير محمد.      

الفصل الخامس:

          في هذا الفصل ركزت الروائية حكيها على فترة تأقلم زينب مع حياتها، وتعودها على العيش بين المماليك، وكان هذا الاختيار مناسبا للحظة العصيبة التي مات فيها الأب أبو بكر المقشعي تاركا لابنته إرثا كبيرا وهي حامل بمولودها الأول، لقد صورت المبدعة الأمير محمد وكأنه يعبث بقدر زينب، فقد شهدت هذه الفترة كذلك تمكن حب الأمير من قلب زينب، فأصبحت أشد خوفا عليه وحرصا على حياته، حيث أصيبت بخوف شديد، وغم كبير عندما أخبرتها زوجة السلطان بيبرس الجاشنكير الشركسية بأن السلطان كلف زوجها الأمير بمهمة خاصة وأوعز خلالها لبعض قطاع الطرق بالهجوم على قافلة الأمير من أجل قتله، وقد اغتنمت المبدعة هذا الحيز لكي تقدم نبذة عن حياة الأمير وكيف بنيت معالم شخصيته، وركزت على الطريقة التي يعتمدها المماليك في خطف الأطفال من القرى النائية قصد إعدادهم لكي يصبحوا من المماليك المقاتلين، وقد كان نصيب الأمير محمد وهو طفل أن كان تحت رعاية أستاذه السلطان قلاوون بصحبة السلطان محمد الناصر بن قلاوون الذي كان هاربا إلى الكرك من بطش السلطان بيبرس الجانشكير، لقد انحاز الأمير محمد إلى السلطان الناصر ولذلك فكر بيبرس الجاشنكير في التخلص منه خوفا منه، واتقاء لقوته وشدته.

          لقد عمدت المبدعة إلى تقديم هذا الفرش التاريخي لكي تصور عن كثب الدسائس التي كان السلاطين والأمراء في العهد المملوكي ينسجونها حتى يضمن كل واحد منهم قدرا وافرا من الكسب والغنيمة والسلطة، والأمر يدل بوضوح على أن الولاء كان نادرا، والإخلاص كان عزيزا في تلك الفترة، لقد كانت القوة هي المعيار في تثبيت السلطان، والكثرة هي الأساس المعول عليه في ترجيح الكفة لهذا السلطان أو هذا الأمير، وكانت هذه الصراعات سببا في التضييق على أهل مصر في أرزاقهم وأرواحهم، وسببا في تحقيق القوة والمنعة، أو الضعف والهوان لحكام مصر، وزينب التي وعت جيدا هذه المعطيات أصبحت تحس بأن حياتها أضحت رهينة بحياة زوجها الأمير محمد الذي كانت الأسنة مشرعة على جسمه القوي فارع الطول باستمرار، وفي كل لحظة كانت حياة الأمير تبدو قريبة من النهاية المفجعة. لقد كانت الأحداث التاريخية في هذه المقاطع الروائية مهيمنة على السرد الروائي، وكانت المبدعة ملزمة بهذا الأفق حتى تستطيع رسم التصور الحقيقي للصعوبات التي عرفها الجميع في تلك الحقبة من حكم المماليك لأرض مصر وأهلها.

الفصل السادس:         

          تسجل الروائية هنا عودة الأمير محمد إلى زينب بعد نجاته من محاولة الاغتيال، وركزت على مفهوم بناء الثقة بمنطق، وحب، واتفاق، وقناعة بين الأمير وزينب، وقد أعلنت ذلك بواسطة اعتراف زينب بحب الأمير، وبواسطة إقدام الأمير على إحاطة زينب بخطة حياة المماليك، وبطريقة تنظيمهم، مع بيانه لها بأن أولاد المماليك هم أحرار وليسوا عبيدا مثل آبائهم، ويسمون أولاد الناس.

          لقد اعتمدت الروائية على نموذج الأمير محمد المملوكي لكي تصحح التاريخ عن ظلم وجبروت المماليك، ولذلك فإنها هنا تتدخل في التاريخ، وتقصي الأدب، فهل يمكن أن يصلح الأدب التاريخ؟ وهل يكفي نموذج الأمير محمد بن عبد الله المحسني لكي تتم عملية تصحيح النظرة إلى المماليك؟ ولماذا عمد محمد علي باشا إلى قتل جميع المماليك فيما بعد؟ ثم إن الروائية في نصها ركزت على كثير من صور ظلم المماليك بسلاطينهم وأمرائهم وناسهم وأبناء ناسهم لأهل مصر الطيبين. لقد كانت تبادر إلى طرح تصور العامة والأهالي عن المماليك وظلمهم، وتعمد إلى تصحيح هذا التصور عن طريق أفكار، وآراء، وتصرفات الأمير محمد ومن ثمة زوجته زينب، ثم إن الأمير محمد كان قد شرع في تعبئة الأمراء ضد السلطان بيبرس الجاشنكير الذي سماه بالظالم، وبذلك بدأ الصراع بين الأمير محمد وبيبرس، وشرع كل واحد منهما يتوجس من الآخر، وانطلقت عملية حشد المماليك استعدادا لكل طارئ. فهل كان هذا المملوك الإصلاحي على صواب في نصرته لمحمد الناصر بن قلاوون على بيبرس الجانشكير؟

الفصل السابع:          

          تسجل الروائية تاريخيا وصول محمد الناصر بن قلاوون إلى القاهرة قادما مع جنوده ومن ناصره من المماليك إلى القاهرة حيث تم تنصيبه سلطانا على مصر، فقتل الناصر بيبرس وتولى السلطنة، وأفرج عن جميع السجناء في سجن جب القلعة ومنهم الفقيه عبد الكريم، وأيقن أهل مصر بإمكانية قبول المماليك الصالحين، هنا مرة أخرى تتدخل المبدعة لتصحيح مجرى التاريخ حيث عادت مرة أخرى إلى يوسف لكي ترعاه وتتعهد مسيرة حياته وهو الحاقد على المماليك أشد الحقد بسبب خطف الأمير محمد لمحبوبته زينب، وكأنها تحاول أن تداوي جراحه لإقناعه بكون محمد لم يرتكب جرما في حقه، وإنما هي الأقدار تجري مجراها المحدد والمضبوط. في هذا السياق بينت الروائية كيف شرعت زينب في مساعدة زوجها الأمير عن طريق إسهامها الفعلي في ضبط حسابات مصر والشام، بواسطة زينب وعقلها الراجح تدلي المؤلفة بأدلتها حول قيمة المرأة وانتصارها الكبير في التسلل إلى فكر المماليك وقلاعهم المالية المنيعة. ثم لا تجد المبدعة مندوحة من الرضوخ لمنطق التاريخ وأحداثه الصارمة، لقد شرع المملوك الأمير بدر الدين في تزعم مؤامرة لإسقاط حكم محمد الناصر بسبب تضييقه على المماليك ومكاسبهم المادية.

الفصل الثامن:

          لقد عمل النص الروائي على استرجاع يوسف الثائر وهو يعيش بين الأعراب قطاع الطرق الخارجين على السلطان، لقد أصبح ابن عم زينب قاطعا للطريق، ومحاربا للمماليك، ومتسلطا على أملاكهم، ومحرقا لحقولهم، وسارقا لماشيتهم، وكأنه ” روبن هود ” عصر المماليك. ثم سرعان ما تاب عن أفعاله الآثمة وهاجر إلى الشام، ومارس التجارة، واشترى الجواري، وأنجب الأولاد دون أن يتزوج.

          ثم عادت المبدعة من الشام إلى القاهرة لكي تتفقد أحوال السلطنة التي بدأت تصاب بتصدع كبير حيث يستنجد السلطان محمد دائما بسنده الأمير محمد شاكيا إليه تمرد المماليك عليه بزعامة الأمير بدر الدين. في هذا الخضم تبرز زينب وهي تضع القوانين لأبنائها وبناتها مع زوجاتهم وأزواجهن وباقي الناس، دون التمييز بين العامة والمماليك، كانت تستحضر فقط الاعتبار للإنسان، هي التي اقتنعت من خلال زوجها بعد طول شك وريبة بأن المماليك يعملون من أجل النظام، والأمن، والاستقرار.

          تنتقل المبدعة بسرعة، وبطريقة مفاجئة بين الشخصيات، فهي في العادة لا تنتج التدافع بين الشخصيات، بل تفضل استهداف كل شخصية على حدة، وتشبعها عرضا، وحركة، وبوحا، ثم تعود إلى شخصية أخرى، وهنا يبدو بأنها تختار صيغة احتضان الشخصيات، والتأثير على مسارها، والتحكم في أقدارها، عوض أن تترك لها مسافة لكي تتحرك بحرية، وتنشط بطلاقة، وكل هذا يسهم في الحد من القدرات التي يمكن أن تكون مخزونة في الطاقة التي تملكها كل شخصية. وعلى هذا المنوال تستحضر فاطمة ابنة خالة زينب وهي ما زالت تغني رغم زواج أبنائها وبناتها، وموت زوجها، فهي تصر على الغناء وتعتبره إمكانية يستطيع الجميع امتلاكها، وليست ملكا للبغايا فقط كما اعتبرها الجميع في تلك الفترة، لقد كرهت فاطمة وهي رمز ساطع للمرأة المصرية الإحباط، وقتل الخيال، فصبت جام غضبها على كل من يحارب فيها حب الغناء، إنها مثال للأنثى، التي تحب الفنون، وتنفتح على الحضارة التي تعتبرها ممتزجة بعصرها.

          بعد أن احتضنت المبدعة الأمير زوج زينب طويلا، واستندت إليه في كل الحكي الذي ساقته في المسارات السابقة حسمت أمرها وعمدت إلى إخراجه من حيز الرواية، والحياة معا، لقد قتل الأمير محمد بسهم غادر داخل مسجده الذي بناه، وراح ضحية للخلافات والمؤامرات التي تستعر نارها باستمرار بين الأمراء المماليك حول السلطة، والجاه، والهيمنة.                   

الفصل التاسع:

          عمد السلطان محمد الناصر إلى البطش بالقتلة أصحاب المؤامرة، وقتلهم شنقا، لقد مزجت المبدعة بين التاريخ والأدب، وقتلت الأمير محمد أهم شخصية لديها في الرواية، وبعد عامين من الغدر به ماتت زينب بداء الكلى سنة 1324م وهي بنت اثنتين وأربعين سنة، وكأن موتها وهي في هذا السن علامة على غيابها وهي في ريعان شبابها، ودلالة على الشعلة التي أوقدتها للمرأة المصرية، وتركت لها الهدى تتبعه من أجل تثبيت صورة المرأة الحرة المستقلة التي عليها أن تدافع بقوة وشراسة عن مكانتها، وعليها قدوة بزينب أن تزاوج بين الذكاء والدراسة لكي تنتزع حقوقها من المجتمع الرجولي البطريركي، لقد كانت زينب مولعة بالقراءة والاطلاع، ومهتمة بتنويع مصادر دراستها من منطق وفلسفة وحساب وأدب، وهي بذلك تؤكد للمرأة المصرية على أهمية الثقافة والمعرفة لإحداث التغيير، في العقليات، والأفكار، ومسار التاريخ، وبدون العلم والمعرفة لا يمكن بتاتا للمرأة أن تصل إلى ما وصلت إليه زينب.

          وبصيغة الأسلوب المعروف في نص ” ألف ليلة وليلة ” حيث يعم الظلم بعد العدل، تشير الروائية إلى وفاة السلطان محمد الناصر الذي كان معروفا بالعدل والإنصاف، وبموته عم الظلم والجور من جديد، وتم القبض مرة أخرى على الفقيه عبد الكريم، واقتيد إلى سجن جب القلعة، وبعد سنة على سجنه جاء ابنه محمد إلى السجن لكي يستلم جثته.      

الباب الثاني:

الفصل العاشر:

          سنة 1353 للميلاد، تضع المبدعة خطا أحمرا على حكم السلطان محمد الناصر بن قلاوون، لقد حكم مصر بعدل واستقامة لمدة ثلاثين عاما بالتمام والكمال بعد عودته من الكرك، وترك أولاده من بعده يتولون السلطان وينكل بهم المماليك واحدا تلو الآخر، خصوصا أنهم لم يكونوا من المماليك، لقد كانوا أولادا لأبيهم السلطان الذي كان ابن ناس، وهم بهذه الصيغة سوف يصبحون ناسا.

          لقد أرادت الروائية أن تستمر مع نسل الأمير المملوكي محمد بن عبد الله المحسني، فتوقفت مع ابنه الأصغر محمد بن الأمير محمد الذي تربى في قصر السلطان الناصر محمد لمدة سبع أو ثماني سنوات، وكان عاشقا للرسم، وخصوصا رسم العمائر.

          ذهب محمد إلى الإسكندرية هربا من وباء الطاعون حيث ربط علاقة غرامية مع مارية الصقلية بعد أن هجر زوجتيه وأولاده، لا هو يعرف لغتها، ولا هي تعرف لغته، يعشقان بعضهما بلغة العشق الأبدية، يتفاهمان بالإشارات والحركات، ويعيشان الحب بدون توقف. ولكن هذه الحياة لم ترق كثيرا لمحمد، فقد كان الشاب منذورا للبناء والمعمار، وليس للنساء رغم ولعه بهن، فترك مارية، وأصابته لعنة الإبداع فهام على وجهه يرسم المعمار تلو المعمار، فهو يريد أن يخرج المارد الذي يثور بداخله، وقد اختارته المبدعة رمزا لتوضيح لحظة البناء والتشييد والمعمار النشيط الذي عرفه العصر المملوكي.

          تدخل محمد لدى المماليك و لدى الأمير يلبغا فأطلقوا سراح الأمير قماري المعروف بالحسن بن محمد الناصر وأعادوه إلى السلطنة شرط أن لا يتدخل في شؤون الحكم ويترك ذلك لأمراء المماليك.

          لقد تربى الأمير محمد بن محمد بن عبد الله المحسني مع الأمير قماري أو الحسن بن السلطان محمد الناصر في القصر السلطاني، وكانا يرتبطان بعلاقة أخوة ومودة ولذلك تشفع له لدى المماليك لإعادته إلى السلطنة، ثم إن ابن الناس كان يريد أن يتربع صديقه على عرش السلطنة لكي يساعده في تحقيق حلمه الإبداعي، لقد كان يحلم ببناء مسجد يخلد ذكرى المماليك، مسجد كبير جدا، ينبغي تشييده على أرض مساحتها أكثر من مائتين وسبعة وسبعين ذراعا في طوله، وأكثر من مائة وخمسة وعشرين ذراعا في عرضه، مع أربع مآذن، وقبته تطول كل القلاع، وتفوق كل القبب، مع أربع مدارس للمذاهب الأربعة. مسجد يتسع لأكثر من خمسمائة طالب، سيكون مسجد السلطان حسن.

          أقدم المماليك على قتل السلطان الحسن وألقوا بجثته في النيل، فلم يعرف لها أثر، وظل محمد تعيسا، معذبا، يريد أن يستكمل بناء المسجد لكي ترتاح نفسه، وبعد مضي سنتين على مقتل السلطان وافق المماليك على استكمال المسجد، فعاد الحبور لنفسية محمد، فأكمل البناء، ونقش اسمه في ركن منه.

          تقول ريم بسيوني: على هامش الرواية ” استمر اسم المهندس الذي صمم وشيد مسجد السلطان حسن في القاهرة مجهولا حتى عام 1944م، عندما عثر الأثري حسن عبد الوهاب على نص في طراز جصي بالمدرسة الحنفية داخل المسجد يذكر اسم السلطان حسن بجانب اسم مشيد العمائر الذي شيد المسجد، وكان اسمه محمد بن بيليك المحسني، من أولاد الناس “.   

قاضي قوص المماليك:

الحكاية الثانية:

          تقول ريم بسيوني: على هامش التاريخ: ” جوزفين حفيدة الدكتور صلاح (السنوسي ) أيقنت أن الحكي لم ينته، وأن رواية الدكتور صلاح هي البداية وليست النهاية. فكتبت هي… أبناء الأمير محمد وزينب وأحفادهما كانوا أبناء ناس، ولم يزل أحفاده يتناثرون بين أرجاء مصر، ناس فقط، وربما أولا ناس، لا أحد يدري “.       

الباب الأول: قوص              

الفصل الأول:

          1388م، نفس الصيغة، تصر الروائية على الانطلاق من البداية، وتصر أن تكون البداية مع الزمن، هو الذي يشكل الخلفية الصامتة لضوضاء الرواية، هلال الشهر الهجري علامة على زمن يبدأ وآخر يولي، والهلال هذه المرة أصبح مدعاة للشقاء والهم، فقد يكون الزمن بهجة ومسرة، وقد يكون قلقا وغما، بالنسبة لأهل مصر أضحى هلال عيد الفطر مصدرا للشقاء والتوجس، تضارب كبير بين المماليك الذين يصرون على ظهور هلال العيد، وبين العلماء الذين يعلنون في خفاء أن الهلال لم يهل بطلعته البهية بعد، لذلك فإن غدا هو يوم صيام، والقاضي عمرو بن أحمد بن عبد الكريم المناطي يتوارى في بيته وهو يسر للعامة بأن يتبعوا العلماء ويتموا عدة صيامهم. في خضم الصراع حول الهلال تبرز ظاهرة خطيرة لطالما تفشت في أوساط الفاسدين والمستهترين، إنها ظاهرة اغتصاب الأطفال بحيث كأن الأمر لا يمكن أن ينتهي عند اغتصاب النساء بل تصر الأحداث على تسجيل عادة سيئة سادت في مجتمع المماليك تجلت في إتيان الأطفال، الشيء الذي يعني بأن التاريخ عرف مفهوم البيدوفيليا منذ القديم، جمق بن الأمير فخر الدين والي قوص هو من قتل الصبي بعد أن أوقع به الفاحشة، يستمع القاضي إلى أم الولد وهي تلقي بالتهمة على ابن أمير من المماليك وترفعها عن أب الولد، يستمع القاضي ويحس بالتداخل الحاصل بين معضلة الهلال وهول الجريمة المروعة، ويتأمل في أي منهما أكثر وقعا وأثرا وإيلاما؟ القاضي عمرو حفيد الفقيه عبد الكريم صاحب الأمير محمد بن عبد الله المحسني هو قاضي قوص الذي يقصده الجميع نساء ورجالا لعدله وورعه، ويكفي أنه يشغل منصب قاضي قوص المدينة الشهيرة بمبانيها العالية، وبأهلها الممارسين للتجارة والفنون والصناعات، مدينة قوص تنافس مدينة القاهرة في النشاط والحركة والرواج، وفي هذا الجو المتحرك كان القاضي عمرو يتلقى الشكاوى والقضايا من كل نوع وفن وينكب على حلها والالتفاف حولها. ولكن المصيبة العظمى تتجلى في تسلل عشق الفتاة ضيفة إلى قلب القاضي وعقله حيث ربما تصبح أحكامه شططا، وهو ما سوف يتهمه به زوج الفتاة ضيفة، وكذلك أبوها السكير، والنتيجة هي أننا بإزار أحمق سفيه وسكير فاشل يتهمان القاضي بالشطط، والميل، والظلم… وهكذا نلاحظ بأن عتبة الحكاية الثانية لا تقل عن عتبة الحكاية الأولى هولا وحلكة، إذ بين الصراع حول الهلال، واغتصاب الأطفال، وسحق أنوثة النساء يجد القاضي نفسه داخل مستنقع آسن، لا يبشر إلا بالخراب والانهيار…   

الفصل الثاني:                    

          المرأة الحبشية المسيحية مريم التي تعلم الفتاة ضيفة وتحتضنها جاءت إلى القاضي، وذهب معها إلى الصحراء حيث تقيم في كوخ حقير مع الضباع المتوحشة، وتعلم القاضي بأن ظاهر الأشياء غالبا لا يشبه باطنها. ثم ظهرت فجأة زبيدة المرأة اليمنية، ومن بعدها ظهرت الفتاة ضيفة، والمرأتان تعتنيان بضيفة وتعلمانها كل ما تريد معرفته عن الحياة. ويبدو أن هذا الثالوث النسوي قام باستدراج القاضي إلى قلب الصحراء من أجل اللعب معه، أو اللعب به، أو التلاعب به وبواسطته، حيث اغتنمت ضيفة بنت رضاوي الفرصة لسؤاله عن الحب، وعن الثبات، وعن اليقين، يستمع القاضي لحكي ضيفة وهو يحس بنوع من الراحة والشغف، لقد بدأ يشعر بتسلل حبها إلى قلبه.

          اختفى الصبي جمق ابن الوالي من المدينة خوفا من قصاص القاضي لقتله الطفل البريء بعد اغتصابه، وتكفل الوالي بنفسه بزيارة القاضي في مجلسه العدلي معلنا أن حكم القاضي يقف عند الرعية ولا يتعداه إلى المماليك وقلاعهم، وعلى القاضي أن يعرف هذا جيدا رغما عنه تحت طائلة العزل من القضاء والسجن. ويدل هذا على تطاول المماليك على رموز العدل وإحقاق الحق.

          تم نفي القاضي داخل منزله ومنعه من الخروج، كل ذلك بأمر الأمير فخر الدين الوالي المملوكي حماية لابنه رغم اغتصابه للطفل حسن ابن بائعة الملح وتنكيله بجثته، والمشكل هو أن ابن الوالي هذا يعرف بابن الناس. ومن أجل تبديد كثير من المخاوف قرر الوالي قتل القاضي، ولكن رسول السلطان أنقذ القاضي عمرو من القتل وهرب به متوجها إلى القاهرة، لملاقاة السلطان. لقد كان المماليك يتعاملون مع مفهوم العدل بصيغة الأهواء، بحيث يعملون بكل جبروت على إعفاء أنفسهم من جميع الأحكام القضائية التي يصرون على أنها لم توضع إلا لضبط العامة من الناس دون الأمراء المماليك.

الفصل الثالث:           

          أعلن الحاجب بقوة وسلطة دخول السلطان الظاهر سيف الدين برقوق بن أنس إلى مجلسه، استقبل السلطان القاضي عمرو ودار بينهما حديث فيه كثير من الجرأة والإقدام من طرف القاضي، والسلطان يستنكر كلامه ويعلن بأن أولاد الناس لم يكونوا في مستوى حكم مصر بسبب قلة خبرتهم ومعرفتهم بالحكم وأصوله، والقاضي يبسط له الكلام في شرعية السلطان وقوة قاضي القضاة، ومن ثمة استطاع إقناع السلطان بضرورة إقامة الحد على جمق بن فخر الدين والي قوص.

          تمت عملية إقامة الحد على جمق بقطع رأسه بعد صلاة الفجر أمام الناس، وأمام أبيه الوالي، لقد نفذ القصاص في ابن الناس، وعاد القاضي عمرو إلى قوص من جديد، عاد إلى عمله، وعاد لكي ينتظر ظهور ضيفة التي بدأ يحس بقوة حبه وشوقه لها، التقى بها ووعدها بالزواج. هنا تصر المبدعة على إنتاج الدراما وخلقها من أعماق هيبة العدل والقضاء لكي تثبت للجميع قدرة الحب على اختراق كل الحجب، وقدرته على ترويض القضاء في شخصية القاضي عمرو، وإسقاط صرامته وقوته.

          نزل عبد الرحمن بن خلدون قاضي قضاة المالكية ضيفا على القاضي عمرو في طريقه إلى الحج، في ضيافة قاضي قوص أخبره ابن خلدون بمأساته التي فقد فيها زوجته وابنه غرقا في البحر خلال رحلتهما من تونس إلى مصر. وتغتنم الروائية فرصة الحديث بين قاضي قوص وابن خلدون لكي تمرر ما رسمته منذ البداية في روايتها حيث تؤكد على لسان الرجلين وخصوصا عمرو أن القاهرة أصبحت عاصمة للدنيا بفضل إنجازات المماليك العمرانية والحضارية والعلمية، وهذه حقيقة تحجب كل ما ارتكبه المماليك من ظلم وتعسف في حق المصريين.

          يبدو أن حادثة القصاص من جمق بن فخر الدين المملوكي التركي والي قوص كانت لها تداعيات خطيرة، فقد شرع أمراء المماليك البحرية في إثارة عداء العامة ضد السلطان الظاهر سيف الدين برقوق بن أنس كونه اغتصب الحكم من نسل السلطان محمد الناصر، وكونه يعمل على زرع الفتنة بين المماليك الشراكسة والمماليك البحرية، حتى توصلوا إلى استصدار فتوى من قاضي القضاة يجيز فيها قتل السلطان برقوق لأنه أصبح طاغية يحب سفك الدماء.

          تقدم المبدعة أدلة تؤكد على أهمية العامة في معادلة الحصول على السلطنة، فرغم ازدراء المماليك للأهالي فإنهم وقت الشدة ومحاربة السلطان يعودون للعامة، ويعتبرون رضاهم ضروريا في جلوس السلطان على عرش مصر، هي حكاية جد معقدة كان المماليك يلعبونها بمكر ودهاء وهم يديرون دفة الحكم في القاهرة. لقد كان حكم قاضي قوص بالقصاص من جمق بن فخر الدين مؤثرا للغاية في دفع المماليك البحرية إلى الثورة على برقوق، ونال القاضي حظه من هذه الثورة حين تلقى ضربة بظهر السيف شجت رأسه فانبثقت منها الدماء غزيرة…

          بائعة الملح أم حسن القتيل المغتصب الضعيفة الفقيرة الحقيرة هي التي أشعلت شرارة العدل في مدينة قوص فقضت شرارتها ليس على قوص فقط، أو قاضي قوص فقط، بل قضت على سلطان مصر، وملكه، وعرشه في لحظة واحدة، فهل قدر العدل أن يبني ويشيد أو قدره أن يحطم ويهدم؟

الباب الثاني: حوادث الدنيا

الفصل الرابع:                

          أعاد أمراء المماليك العرش للسلطان الشاب الحاجي الذي كان برقوق قد اغتصبه منه، ودخل القاهرة ووزع على العامة الطعام والعطايا. وهكذا تتكرر هذه اللعبة باستمرار داخل القاهرة، وداخل القلعة، حيث لا يكف المماليك عن اللعب بمصير المصريين، فيستحلون دم سلطان، ويعينون سلطانا مكانه، وتستمر الأمور على هذا الشكل…

          تم تعيين قاض جديد على قوص، التحق مع حراسه ومعاونيه بمقر إقامته وعمله بالمدينة، سلطان جديد يقتضي قاضيا جديدا، وكأن العدل يتلون بألوان السلاطين وليس حقا ثابتا ناصعا واضحا، انتهت أيام الاحتفالات والفرح بعودة السلطان إلى عرشه وعاد الأمراء إلى ظلم الناس والتنكيل بهم، وتوسع قاضي قوص الجديد في الأحكام التعسفية وقبول الهدايا والرشاوى من المتقاضين، وبقي القاضي عمرو في السجن لمدة طويلة، عاما في سجن الأمراء، وعاما في سجن العامة، ثم استطاع الهرب بمساعدة الفتاة ضيفة التي أفلحت في استمالة الحراس بواسطة الرشاوى… مصائر الناس كانت لعبة في يد المماليك يديرونها دائما بالطريقة التي تضمن لهم أكبر المكاسب.  

الباب الثالث: البحث  

الفصل الخامس:  

          تتكرر لعبة المماليك القاتلة مرة أخرى، بحيث لا يمكن لديهم أن ينتشر العدل إلا بعد استفحال الظلم والقهر، لقد استطاع برقوق بن أنس الخروج من السجن وجمع أنصاره من جديد وانتصر على الأميرين منطاش ويلبغا، واستقر بالقاهرة سلطانا مرة أخرى، وحافظ على حياة السلطان الحاجي وحدد إقامته.

          وصل القاضي عمرو إلى القاهرة، والتقى بحماه قاضي القضاة الذي عزله برقوق، وجلس مع ولديه وسمع منهما، وسمعا منه، ثم توجه إلى قاضي القضاة الجديد لكي يعيده قاضيا على قوص، وهو ما تحقق له، فقد أعاده قاضي القضاة الجديد قاضيا على قوص بحجة أنه لم يكن قد عزل رسميا من القضاء.

          وصل عمرو إلى دار القضاء، وقام بتسلم مهامه، واستقبل العامة وأرجع الحقوق لأصحابها، وألبس الكل رداء العدل من جديد بعد أن كان القاضي السابق قد مزقه، ثم قرر أن يتزوج من الفتاة ضيفة التي يحبها بكل قواه… تصر المبدعة على تأثيث الرواية بالمتقابلات والمتناقضات، فلا تستقيم حياة إلا على أنقاض حياة أخرى، ولا يخلو جو لأحد إلا بواسطة تعكير جو الآخر، وفي كل مرة تجد المماليك في عمق الأحداث، يصنعونها، ويتقنون مهمة توجيهها نحو مصالحهم وأغراضهم.

الفصل السادس:  

          حقق القاضي عمرو حلمه، فتزوج الفتاة ضيفة ودخل بها، ولم تسعه الدنيا من الفرحة، وكأن حياته تمت عملية اختزالها في لحظة واحدة، هي لحظة تمكنه من ضيفة التي أصبحت الآن زوجة قاضي قوص. قضى القاضي مدة  بضعة أشهر وهو يستمتع بصحبة زوجته ضيفة ولا يمل منها، ثم تلقى رسالة من السلطان يطلبه معه في القاهرة، تلقت ضيفة خبر سفره بضيق وتبرم ورفض، لقد أحست بأن سفره سيكون فراقا أبديا بينهما، ورغم تأكيده على سفره الذي لن يتعدى بضعة أيام ظلت ضيفة قلقة بشدة، وتحس في قرارة نفسها بالشؤم يحيط بسفر زوجها القاضي عمرو إلى القاهرة، فانتقلت عدواها إلى القاضي الذي بدأ يحس بالتعاسة، ويشعر بأن الكون لا يستقيم لأحد أبدا، أو على الأقل لا يستقيم كاملا مكتملا، لكي يحسم الأمر اصطحب عمرو معه ضيفة إلى القاهرة، وقام معها بزيارة المدينة ومعالمها وخصوصا مسجد الأمير المملوكي محمد عبد الله المحسني الذي كان قد أوصى بوقف لجد القاضي، وأبيه، وأبنائهما من بعدهما، فكانت زيارة عبادة، وتبرك، وشكر، وتذكر. وظلت ضيفة تسير مع زوجها دون انفعال أو حماس، لقد حطم تعذيب أبيها لها كل إرادتها، وحبها للحياة، فأصبحت حطاما فارغا مهزوما، وأصبح عمرو يحس بهوة عميقة تحفر بينهما…

          استقبل السلطان الظاهر سيف الدين برقوق بن أنس القاضي عمرو، لقد كانا معا نزيلان في سجن قلعة الكرك، في غرفة واحدة، كان استقبال السلطان لعمرو فرصة للحديث عن بعض المحن في السجن، ويبدو أن برقوق وعد عمرو بمنصب قاضي القضاة… عندما يصطدم العشق بهيبة العدل والقضاء فقد لا تكون النتائج مبهجة.

الفصل السابع:                  

          لقد كان أمر تولية القاضي عمرو بن أحمد بن عبد الكريم منصب قاضي القضاة في القاهرة من طرف السلطان مدعاة لكثير من القيل والقال من طرف العوام والعلماء والمماليك، وكلهم يعبر عن رفضه واستهجانه لقرار السلطان، ويعتبر قراره خطأ جسيما، لأن عمرو   يتميز بالطيش، وصغر السن، والطموح المخيف، واتباع الهوى، ولكن عمرو كان متحمسا جدا لمنصب طالما أراده بقوة، وأقبل عليه بكل عزم وتصميم بعد أن شهد السلطان بنفسه حفل تنصيبه مع الأمراء والعلماء والشرفاء والصوفية.

          أقر قاضي القضاة زواج المماليك من بنات العامة، وبذلك فتح الباب مشرعا أمام الاختلاط والمصاهرة بين الأعراق المصرية والشركسية والتركية، مرسخا بذلك تقليدا تاريخيا ثابتا أنجزه الأمير المملوكي محمد بن عبد الله المحسني عندما تزوج من المصرية زينب ابنة التاجر أبي بكر المقشعي، وكان زواجهما مثالا للحب والوفاء، وقصة خالدة تروى.

          فتوى قاضي القضاة أفرحت كثيرين، وأغضبت كثيرين، والمسألة لا تخلو من الأمرين، في كل سياق تجد المنكرين والمؤيدين، المهم في الموضوع هو أن الصدام الأول الذي عرفه قاضي القضاة كان مع والي القاهرة الأمير المملوكي سلادون الذي كان يبحث عن فتوى لإفطار رمضان، ولكن القاضي عمرو لم يمكنه منها، فخرج سلادون من مجلسه محتقنا بالغضب والحقد.

          وضعت ضيفة بعد حملها بنتا سمراء تشبهها، وكادت تموت بعد وضعها، وظلت في حال لا تسر لأيام طويلة، ثم استعادت عافيتها بعد لحظات مخيفة، حزينة، مقلقة. ولكن الذي أصبح يقلق قاضي القضاة أكثر بعد تعافي زوجته هو التناقض الكبير في سيرة المماليك، إذ لهم ورع وتقوى لم ير مثلهما، وفي نفس الوقت لهم طغيان وجبروت لا يمكن مضاهاتهما. لقد حدث ما كان منتظرا رغم أنه تأخر بعض الوقت، وقع صدام بين قاضي القضاة والسلطان، تدخل السلطان في مهام القضاء، فلم يرق ذلك لعمرو، وكان الحل هو الاتفاق بينه وبين السلطان على ترك منصب قاضي القضاة والتفرغ للتدريس بمسجد السلطان حسن، بهذا القرار أنقذ عمرو بن أحمد بن عبد الكريم رقبته من القتل، وتفرغ لكي يراعي شؤون أسرته، وينشر العلم بواسطة التدريس عوض البقاء فريسة الهموم والمشاكل والدسائس في منصب قاضي القضاة. يظل المحيط السلطاني دائما مدعاة للريبة والشك، وعالما تتزامن في سياقه الرغبة والحذر، الطمع والخوف، الطموح والانكسار… 

الباب الرابع: مسجد السلطان حسن

الفصل الثامن:   

          فرح كثير من الشامتين بترك عمرو لمنصب قاضي القضاة، بل أشاعوا بين الناس بأن السلطان عزله لسوء سلوكه وتطاوله على أسياده من الأمراء والعلماء والشيوخ، ورغم أن عمرو لم يبال بالشائعات إلا أن نفسه كانت مليئة بالحسرة والأسى بسبب الطموح المتقد الذي كان يتميز به، ويعاني من تبعاته التي كان من الممكن أن تؤدي به إلى التهلكة.

          اصطحب الشيخ العالم عمرو بن أحمد بن عبد الكريم بضعة من طلابه وتوجهوا إلى مسجد السلطان حسن، ودخلوا إلى المدرسة الشافعية به وشرع عمرو يدرس لهم، ثم كثر طلابه بعد عدة شهور من التدريس بالمسجد، ورغم تعرضه لضرب السهام أصر على الاستمرار في إلقاء دروسه واستقبال طلبته ومعهم ولداه، لقد ظهر بأن الشيخ عمرو من التنويريين الذين يحبون الإنسانية وأفرادها حبا فطريا بعيدا عن تعصب الأديان والمذاهب، وهذا ما كانت تحرص عليه كثيرا المبدعة عبر شخصياتها، فرغم أن هذه الشخصيات كانت عليلة، وقلقة، وأعماقها النفسية مريضة ومحطمة فإنها تظل مفعمة بالطموح، والرغبة، والإصرار، لقد كانت تريد بشخصياتها التي أبدعتها أن تنقذ فترة المماليك من رتابتها التي ترسخت بكثرة القتل، والسجن، والتعذيب، مرادها كان هو إظهار اللحظة المشرقة الحية الإنسانية في تاريخ مصر. 

          توفي السلطان الظاهر سيف الدين برقوق بن أنس وتولى من بعده ابنه فرج بن برقوق فأكثر من نشر الفساد في مصر، وزرع فيها الفتن، واستنبت الاضطرابات. ومرة أخرى يزور عبد الرحمن بن خلدون الشيخ عمرو في القاهرة بعد أن عم فيها البلاء، والقحط، والجوع، والظلم. قتل فرج بن برقوق في الشام وظلت مصر بدون سلطان قوي يضمن هيبتها، فجاء المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي وتولى سلطنة مصر سنة 1412 م، عرض على أستاذه وشيخه عمرو منصب قاضي القضاة ولكنه رفض المنصب في إصرار، وفضل أن يهب ما بقي من عمره للعلم والتدريس. بعد مائة سنة دخل العثمانيون مصر سنة 1517 م وانتهى عهد وحكم المماليك البرجية. 

حادثة الليالي المماليك:

الحكاية الثالثة:     

          جوزفين حفيدة الباحث والأثري صلاح عبد الله، تبحث عن بقايا الضوء في أركان المسجد ( مسجد السلطان حسن )، وتكتب عن المصدر وليس التاريخ…

الباب الأول: المعركة

شهادات: 1517 م – 1522 م:

          هي شهادات أرادتها الروائية مباشرة، ممهورة بضمير المتكلم، حية ومتحركة، والغرض منها بهذه الصيغة أن لا تطالها يد الرقيب أو المزيف، تراكمها يسهم في بناء ما انهد وتحطم من المشاعر، والأحزان، والأفراح، والذكريات.

          لم تستطع أية شهادة منها أن تدرك الحقيقة في نصاعتها، ولم تستطع أية شهادة منها أن تدرك بأن هذه الحقيقة في عهد المماليك ظلت دائما ناقصة، ومبتورة، وأحيانا غير مقنعة، كل شهادة منها كانت تعتقد بأنها هي وحدها التي سوف تعيد توجيه مجرى التاريخ، ويبدو أن المبدعة كانت تعتقد بأن سياق الشهادات بهذا الأسلوب سوف يغني عن وجهة النظر المغايرة، كما يبدو الاعتقاد واضحا في أن تراكم هذه الشهادات عن طريق تجميعها كفيل بتحقيق الانسجام والتناسق، مع أن الأمر قد يكون معكوسا تماما، إذ عوض تحقيق التناسق والانسجام، يمكن أن نستشف التبعثر والتنافر، قد تختلف الرؤية، وتتعدد خلفيات الفهم، وتتناثر صيغ الاستيعاب، وعلى هذا الأساس تظل هذه الشهادات توحي بكونها صدرت عن ذات مشاركة ولكنها مطبوعة بأغراض خاصة، وولاءات محددة. 

          مجموع الشهادات نتيجة لشهادات فردية صادرة عن الصبية الحسناء هند، وعن الأمير المملوكي سلار، وعن الترجمان مصطفى باشا العثماني، كل صوت عبارة عن لغة مختلفة، ونقيض لغة الصوت الآخر، كل يصدر عن قناعته، ورغبته، ورؤيته للأمور، وفي هذا نقص وتقليص من قدر الضبط والوثوقية، شهادة هذه الشخصيات تبقى وحدة نسبية مستقلة ترتبط بمجتمع المماليك ككل، كل شهادة هي عبارة عن حكاية، وكل حكاية بهذا الشكل وهي تمثل وحدة داخل المجتمع أو المجموع يمكن أن تشي بضياع وتدهور المعنى، لأن الموضوع برمته يكون صادرا عن الصوت الواحد، والرأي الواحد.

          الصبية الحسناء هند شخصية بطموحات خاصة، متعددة، تروي حكايتها بأسلوب مبني على المظاهر الجوهرية للبنية الحياتية الخاصة التي عاشتها مع والدها، كانت تعيش حياة كلها رفاهية في حضن والدها الغني، وهي تستحضر وضعيتها الاجتماعية في كل لحظة من لحظات حكيها عن علاقتها مع الأمير سلار، فهي تحكي عن حياتها الشخصية وكأنها تكتب يومياتها، وهذا النمط من الكتابة موافق تماما مع شخصية هند ذات العائلة الغنية، فالحكي هذا يناسب بدقة نمط الحياة الرأسمالية أو البرجوازية الغنية، فهي التي تعتبر سليلة الجاه، والغنى، والحسب، والنسب كانت تفسر كل سلوك صادر عن الأمير سلار ومن يحيط به بمثابة عدوان ليس عليها فقط بل وكذلك هو عدوان على طبقتها وعائلتها، وهذا النوع من التفكير أو التحليل يجعل مثل هذه الشخصية أي الصبية هند مطبوعة بالتناقض في الشخصية، وانعدام القدرة على المبادرة الفردية، ولهذا نقول بأنه ضمن هذه الرؤية لهذا النوع من الشخصيات يمكننا أن نعتبر شهادة الصبية هند مجرد حكي للسلوى، والعزاء، والاستئناس، ولا يبدو أن شهادتها ترقى لمستوى بناء الحدث التاريخي الجزئي أو الشامل، وحتى على مستوى الأدب فإن شهادتها تفتقر لعناصر الثقة والإقناع.

          الأمير المملوكي سلار كان يظهر في شهادته أكثر قوة، وأكثر هيمنة وتسلطا من الصبية هند، فقد كان يعتقد بأن صفته الأميرية المبهرة، وشخصيته المملوكية المؤثرة، سارية المفعول والتأثير على الجميع، بمن فيهم المتلقي لشهادته وهو يحكي مختلف العتبات والمطبات التي اجتازها أوعرفها.

          والذي يثيرنا في حكي الأمير سلار هو تماهيه مع شخصية البطل الملحمي الذي يصر على أن ينقل إلينا في شهادته حكيا مقنعا مشبعا بالدلالة الكاملة لما يرويه، ومثبتا به عمق الانبهار بسلوك وقول البطل الملحمي الخارق، ونحن نحس في شهادة هذا الأمير المملوكي اقتناعا مطلقا من طرفه بالشخصية التي يمثلها، أو التي هو عليها، وهذا النمط من الشخصيات يصل في النهاية إلى اتهام الجميع، والابتعاد عن الجميع، والاقتناع بلاجدوى الجميع، فهو يصل أثناء تسنمه قمة الحكي إلى إدراك حقيقة مؤلمة تصنفه ضمن الشخصية الوحيدة، أو الشخصية المنعزلة، فهو يبتعد عن الجميع، ويتجنب الجميع، ولا يعود يثق بأي كان، إلا بذاته، وطاقته، وقدرته، فيصل إلى ما نسميه في النقد الروائي بالشخصية التي تحس عميقا بضياعها، ضياع الأمل، وضياع المستقبل، وضياع المعنى في الحياة، ولن تسطيع شخصية كهذه مثل شخصية الأمير المملوكي سلار أن تجد المعنى الذي تبحث عنه، فهي لن تجد هذا المعنى بصفة قطعية، لأنها حتما سوف تصبح شخصية انعزالية، ترفض بشدة القيم التي يعيش عليها الآخرون، فالأمير كان يبحث عن قيم لا يعرف معناها ودلالتها إلا هو، وهي قيم غريبة عصية على الوجود الفعلي، وبذلك فهو لا يظل يبحث إلا عن الوهم الذي يؤمن به وحده، فيوصف الأمير المملوكي سلار في شهادته هذه بأنه شخصية إشكالية، يعيش التراجيديا ويتغنى بالبطولة، إنها شخصية لا تشبه غيرها في شيئ، وأمام حقيقة هذه الشخصية بهذا التصور فإن شهادته لا يمكن أن تندرج إلا في إطار الشهادة اليتيمة التي لا تخص إلا صاحبها المهزوم، والمجروح، والمغدور، الذي يعاني من عصاب القلق، والخوف من الأفول.

          شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني هي شهادة الخادم للسلطان الغازي، فهو لا يرى إلا بعينيه، ولا ينظر إلا برؤاه، ثم إن هذه الشهادة يتزامن في سياقها الانبهار بمصر العظيمة الجميلة، مصر الحضارة والعمران، والإحساس بالتفوق، عمق الإحساس بالعرق وتفوقه جعل هذا الترجمان يدلي بشهادة مقلوبة تماما، السبب تحول فيها إلى نتيجة، والنتيجة تحولت إلى سبب، فأحيانا يدلي بشهادة تثبت بأن الدخول إلى مصر من طرف العثمانيين لا يصنف ضمن الغزو، بل هو إعادة الأمور إلى نصابها بطلب من أصحاب الأرض، وأحيانا يدلي بشهادة تنبعث منها رائحة التعالي، والتفوق، والرغبة الأكيدة لسلطان الأرض في توسيع إمبراطوريته، وفي كلتا الشهادتين ليس هناك إلا تبرير سافر لعملية غزو أرض مصر، وسلب خيراتها، وقتل أهلها، وتبرير لجميع قرارات سليم باشا وأهوائه، وشخصية مثل شخصية الترجمان تصنف روائيا ضمن ما يصطلح عليه بالشخصية الإيجابية، وذلك من زاوية تسهيل عملية تصحيح مجرى الشهادة، بحيث كل ما أدلى به في شهادته يمكن نسفه من باب غربته عن البلاد أولا، ومن باب نزوعه التسلطي ثانيا، فهو شخصية إيجابية من هذه الزاوية، وشهادته التي تبدو جميلة أدبيا تنبئ عن إخفاقه الرائع في نقل الأحداث، فهو يصارع من أجل إقناعنا بجدوى شهادته بطريقة كلها عجز وعبث، إن الحكم الأخلاقي الذي يمكن أن نستنتجه من شهادته هو حكم سلبي للغاية، والنتيجة هي أن شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني فيها كثير من الاستهلاك، وقليل من الاحترام.                                       

شهادة هند – 1:  

          هند تحكي لعمتها ما جرى قبل ستة أعوام وكان يومها طومان باي سلطانا على مصر، عندما اقترب العثمانيون من القاهرة وهم يزرعون الخوف والدمار، حاولوا اختطافها مع أخيها في مدينة بلبيس ولكن مصريا يتصف بالشهامة أنقذهما، وحملهما في عربته، وظهر أن منقذهما اعتبر الأمر تجارة وكأنه اشتراهما من الجنود، ويرفض التفريط فيهما، لقد اعتبرهما حسام الدين جارية وعبدا وسلمهما إلى عدلات زوجة أخيه الكبير عبد الله، وأخبرهما بأن عليهما أن يشتغلا كسائر من في البيت، شهامة حسام الدين سرعان ما ظهرت نواياها عندما حاول اغتصاب هند وهي تصده بكل قوتها، لقد وقعت في الفخ… لا تدل هذه الصورة على تدافع الشخصيات بقدر ما تدل على العجز، والخضوع، والاستسلام…

شهادة سلار- 1:     

          يقول سلار بأنه بعد انهزام السلطان الغوري وقتله  في معركة مرج دابق على يد الأتراك بسبب خيانة خاير بك أمير حلب، فإن سليم شاه طلب رؤوس ثلاثة أمراء من المماليك خرجوا من نفس الخشداشية، إينال وسلار وقانصوه العادلي، لقد كان ثلاثتهم من بلاد القبجاق، وكانوا من أمراء سلاح الفرسان. 

          لقد كانت حبيبة الأمير سلار وزوجته هي الفاتنة خوندت سعادات ابنة خاير بك، لقد أصبح حب سلار لزوجته الحسناء مصدر عذاب شديد، خوندت أضحت الآن ابنة الخائن خاير بك، الذي غدر بسيده السلطان الغوري وباقي أمراء المماليك، فتمكن منهم سليم شاه، وقتل جنوده السلطان الغوري، إذ بقدر ما كان الأمير سلار يتعذب بسبب وفائه للسلطان الغوري وإخلاصه التام له، كان يتعذب أكثر لخيانة خاير بك، وكان ينهد عذابا وألما عندما كان يعي بأن حبيبته وزوجته هي ابنة الخائن، لقد حسم الأمير قراره بقوة وبصرامة وبدون تردد، أمر الجنود بإعادة خوندت سعادات إلى أبيها، لقد انقطع حبل الود والحب بينهما إلى الأبد. هذه صورة تؤكد على المبادئ والقيم التي كان يتمتع بها المماليك في صيغتها البطولية التي تدل على سمو أخلاق الفرسان…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 1:     

          يقر الترجمان بأن السلطان سليم شاه عادل، ورع، تقي، محارب شرس، يضيف الترجمان مصطفى باشا بأن السلطان سليم شاه لم يقم بغزو بلاد الشام ومصر إلا بطلب من العلماء الذين ضاقوا ذرعا بظلم المماليك وبطشهم. سليم شاه كان يطمح إلى دخول القاهرة فاتحا مظفرا، وكان يحلم بزيارة مسجد السلطان حسن، لقد كان للسلطان العثماني إيمان كبير بصانعي العمائر، كان يقدر كثيرا الحضارات التي تم تشييدها في صورة مبان خالدة. تدل هذه الصورة على بعد ثقافي عميق يرتبط بأخلاق الشهامة والبطولة التي تنقلب فجأة إلى رغبة جامحة في الظفر، والسيطرة، والهيمنة…

شهادة هند – 2:   

          في شهادة هند الثانية كانت تخبر عمتها بأنها بدأت تفكر في الهرب، لأن حسام الدين قرر أن يستمتع بها، وهي ترفض ذلك، وتعتبره خسيسا خدعها، وحولها من حرة مصونة إلى جارية مستباحة. لقد كان حسام الدين الماكر متيقنا من تفكير هند في الهرب، فعمد إلى كسر عزيمتها عن طريق اصطحاب أخيها معه باستمرار لكي لا يترك لها فرصة للفرار.

          قام حسام الدين باقتحام جسد هند، حيث تسجل الروائية ثاني عملية اغتصاب للمرأة في الرواية بعد اغتصاب الأمير المملوكي محمد بن عبد الله المحسني لزوجته زينب بنت أبي بكر المقشعي، لقد استباح حسام الدين جسد هند رغما عنها بالقوة والعنف وهي تبكي وتصرخ وترجو منه أن يترفق بها ويعدل عن فعلته. لقد كان من الضروري أن تعرج المبدعة على هذا الموضوع لكي تشير إلى الظلم والجور الذي لحق بالنساء على مر التاريخ، والقهر الذي أصابهن في عهد المماليك والعثمانيين على السواء، لقد كان الجميع يتعامل مع المرأة من خلال جسدها، تمظهر الجسد الأنثوي بالنسبة لجميع أشكال الرجال في تلك الفترة كان منصبا حول التعامل معه كمصدر للمتعة واللذة فقط، كانوا يعتبرونها مجرد شيء مع إقصاء كيانها  وحقيقتها بصيغة كلية. في الصورة ما زالت هند تعتقد أنها بتمنعها على الأمير المملوكي سوف تحافظ على عزتها المتمثلة في شرف انتسابها…    

شهادة سلار – 2:

          يعترف سلار في شهادته بطمع المماليك وشرههم، وإقبالهم على نشر الظلم بين الناس، ولكن بطشهم توقف عند إدراكهم لخطورة الموقف الناجم عن غزو العثمانيين لمصر، لقد أيقنوا بأن بني عثمان أشداء وأصحاب قوة وسطوة.

          تم تنصيب الأشرف أبو النصر طومان باي سلطانا على مصر في فترة حرجة حالكة بعد أن أقسم أمراء المماليك على المصحف أمام الفقيه أبو السعود الجارحي على أن لا يتقاتلوا بينهم، وأن يخلصوا للسلطان، وأن يدفعوا عن مصر غزو بني عثمان. تظهر هذه الصورة تقلب النفس البشرية وتوجهها نحو أخلاق العفة، والإخلاص، والولاء التام أثناء الشدائد… 

شهادة هند – 3:     

          تعترف هند بأن للاغتصاب وقعا رهيبا على النفس، وتؤكد بأنه كلما أقدم حسام الدين على الاعتداء عليها تحس بأنها تغتصب في كل مرة من جديد، لقد ترك فيها هذا الاغتصاب المتكرر ندوبا نفسية لا يمكن أن تمحى. تدل هذه الصورة على رسم ملامح الأنثى التي تعاني من قهر العبودية والاغتصاب بعد أن كانت حرة شريفة…

شهادة سلار – 3

          الأشرف أبو النصر طومان باي كان من الأمراء المماليك الذين تربوا في رحاب  السلطنة، وكان مقاتلا شرسا، ومحاربا محنكا، هو أستاذ لسلار، دربه على الحرب والقتال، واستعمال الأسلحة. من أجل الدفاع عن مصر من طرف الجميع أعلن السلطان النفير العام، كل من يستطيع القتال عليه أن يسهم في ردع جيش بني عثمان، وهو ما تحقق وكان غريبا للغاية على مصر وأهلها، انسجام كبير بين مكوني الجيش، نصفه من المماليك، ونصفه الآخر من عامة المصريين المتطوعين، تسعون ألفا من المقاتلين في مواجهة مائة وخمسين ألفا من جنود سليم شاه، لقد اقتنع الجميع بضرورة الوقوف صفا واحدا في مواجهة جحافل بني عثمان التي جاءت ترغب في احتلال مصر. تظهر هذه الصورة صدق معدن المصريين وعروبتهم وإخلاصهم في الدفاع عن القضية بكل تضحية ونكران ذات…

شهادة هند – 4:                

          تعترف هند بتضارب الآراء في التعامل مع العثمانيين من طرف المصريين، فمنهم من يحرم قتل المسلم للمسلم، ومنهم من يعتبر القتال والدفاع عن الوطن واجب على الجميع بغض النظر عن دين الغزاة، مسلمين كانوا أو غير ذلك. تتعرض هند مرة لاغتصاب من طرف حسام الدين دون أن يبالي بتوسلاتها.

          ورغم اغتصابها بدأت هند تلين وترتاح نوعا ما لحديث مغتصبها، لقد اعتبرت أن مغتصبها يتقن الظلم والحنان معا، يبدو أنها سيكولوجية المغتصب، وهند تحس بأن مغتصبها بدأ يتسلل إلى روحها التي أغلقتها دونه، وتركت له الجسد فقط.

          لقد كان مغتصبها ينتحل شخصية حسام الدين فقط، لقد كان في الحقيقة سلار، الأمير المملوكي تلميذ السلطان الأشرف طومان باي، لقد رأت هند ذلك بعينيها لما سلمها صك عتقها ولم تصدق ما رأت… مفاجأة مربكة… تظهر هذه الصورة بداية تماهي الأنثى المغتصبة بمغتصبها…

شهادة سلار – 4:    

          يعلن سلار بأن بني عثمان عملوا على تجنيد الخونة وضعاف القلب من أجل تسهيل مهمتهم في احتلال مصر، والدخول إلى القاهرة، حتى قائد العسكر الأمير جان بردي الغزالي سقط في مستنقع الخيانة بعد أن وعده سليم باشا بحكم الشام.

          شهد سلار الأمير المقاتل المحنك بأن العامة من المصريين قاتلوا ضد العثمانيين بكل بسالة، وشجاعة، وتفان، وبذلوا أرواحهم في سبيل دفع الغزاة عن القاهرة. تدل هذه الصورة على الاعتراف بشجاعة المصريين وصمودهم في الدفاع عن الحق رغم فوات الأوان…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 2:   

          استسلمت القاهرة في يومين أو ثلاثة أيام، ولم تستطع الصمود أمام جحافل جيش بني عثمان، وبعد ثلاث ليال من هزيمة جيش المماليك وعامة المصريين دخل سليم باشا القاهرة من باب النصر مزهوا، منتشيا بنصره، وباكتمال علامات خلافته على سائر بلاد المسلمين. تظهر هذه الصورة الرغبة الجامحة للسلاطين في إقامة الممالك ولو فوق جثث الأبرياء…  

شهادة هند – 5:

          استطلعت هند وعرفت تفاصيل حياة الأمير المملوكي سلار الذي تخفى في شكل الفلاح حسام الدين من أجل استقصاء تحركات العثمانيين ونواياهم أثناء احتلالهم لمصر والقاهرة. ثم علمت هند بأن سليم باشا دخل القاهرة وقضي الأمر. أتى سلار وهو مضمخ بدماء المعركة وطلب من هند أن تستعد، وحملها مع أخيها على فرسه وتركهما عند باب بيت أبيهما، ثم اختفى، كأنه لم يمر يوما بحياتها، وكأنه لم يترك بصمات على جسدها وروحها… تدل هذه الصورة على الهزيمة، والرغبة، والخوف، والتوجس… 

الباب الثاني: ما قد جرى  

          مشيد العمائر يؤكد أن الحروب تذهب هباء لو لم نسجلها ونخلدها بالعمائر…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 3:

          فتنت القاهرة سليم باشا، وذهب لزيارة مسجد السلطان حسن، وأخبروه بأن باني هذه العمائر هو محمد بن محمد بن عبد الله المحسني، من أولاد الناس، ساعتها تمنى سليم باشا أن يبني مثل هذه العمارة في بلاده، وأعلن أنه بعد انتهاء الحرب لا بد من البناء. تظهر هذه الصورة بحث الملوك عن الرغبة الأكيدة في الخلود عبر التاريخ…

شهادة سلار – 5:

          عندما تخسر حربا وتكون مؤمنا ببلادك تفكر في المقاومة، وإزعاج المحتل، وقع الاختيار على مسجد شيخو وعلى الشيخ شهاب الدين الذي كان جده الكبير هو عبد الكريم المناطي، وأحد جدوده هو عمرو بن أحمد بن عبد الكريم المناطي الذي كان قاضي قضاة الشافعية من أجل إذكاء جذوة المقاومة والقتال، وكان الفقيه يعيش من وقف الأمير المملوكي محمد بن عبد الله المحسني، وافق الشيخ على عرض الأمير سلار، وفي تلك اللحظة بالضبط قبل أذان الفجر بساعات وداخل مسجد شيخو أعلن الفقيه شهاب الدين والأمير المملوكي سلار عزمهما على إعطاء الانطلاقة لبداية مقاومة احتلال العثمانيين لمصر… تدل هذه الصورة على أن شعب مصر دائم الحياة، رغم الهزيمة فإن المقاومة تظل رغبة الجميع…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 4:

          يعترف الترجمان برفض أهل مصر لبني عثمان، والنتيجة هي انطلاق حرب القاهرة بكل عنف وقوة، وبدأ القتل في الحارات والأزقة يحصد قادة بني عثمان وجنودهم معا في كل لحظة وحين، تملكت روح الانتقام نفسية سليم باشا فأمر بقتل ثماني مائة مملوك مصري سلموا أنفسهم عند دخول عساكر العثمانيين إلى القاهرة.

          أطلق سليم باشا استخباراته في القاهرة، وبعد ثلاثة أيام توضح له الأمر بكل جلاء، هم ثلاثة أمراء من المماليك من يقود هذه المقاومة، إينال وقانصوه العادلي وسلار، فطلب الشاه رؤوسهم بإلحاح. تظهر هذه الصورة امتزاج القوة بالبطولة، والهيمنة، وحب الانتقام…

شهادة هند – 6:  

          عودة هند لبيت أبيها كانت عودة محبطة، لقد انكسرت روحها أو كادت، وشرعت في مضغ الهزيمة، ورفضت عرضا بالزواج، واكتشفت بأنها لم تعد تعرف نفسها جيدا، هل هي ناقمة على سلار؟ أو متشوقة لرؤيته؟ تدل هذه الصورة على تشتت وتبعثر نفسية الأنثى المغتصبة، هل تحقد على مغتصبها؟ أم تشتاق إليه وتنصهر في حبه الذي تمكن من قلبها؟…

شهادة سلار – 6:

          استمر مسجد شيخو في احتضان المقاومة ورجالها من العامة والمماليك معا، وزار السلطان الأشرف طومان باي المسجد، وصلى به الجمعة، وتحدث مع الناس، ووعدهم خيرا بعد الانتصار على بني عثمان، واستمرت المقاومة في حصد أرواح بني عثمان وإدخال الرعب إلى قلوبهم، حتى بدا كأن النصر لاح واقترب… تظهر هذه الصورة اجتماع المقاومين حول الرمز، كما تظهر إطلاق الوعود العرقوبية في وقت الشدة والأزمة…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 5:   

          بعد أن اشتدت المقاومة على الشاه وأيقن بهلاك جنوده أمر بدك القاهرة بالمدافع والأسلحة الثقيلة التي وضعت فوق أسطح المساجد التي بناها أمراء المماليك، واحترقت القاهرة، ومات خلق كثير من المماليك والعامة قدر بخمسين ألفا من البشر، وقتل كذلك نصف العدد من العثمانيين، لقد أصاب سليم باشا الجنون، وقدر أن ينهي حرب القاهرة في ليلة واحدة. تدل هذه الصورة على جميع عناوين البطش، والقمع، والعنف الأعمى…

شهادة هند – 7:

          اعترفت هند بأنها تحب سلار، أصبحت تحبه من أعماق ظلمه لها، لقد أصبحت تهيم بمغتصبها؟ بقدر ما كان سليم يرسل حمم مدافعه وهي تدك القاهرة دكا بقدر ما تزداد هند شوقا ورغبة في سلار. زادت الأيام ظلمة في القاهرة، فقد لجأ الأشرف طومان باي إلى حماية العرب فخانوا العهد وسلموه لسليم باشا، وأحرق العثمانيون مساجد المماليك، وقتلوا الشيخ شهاب الدين بعد أن أحرقوا مسجد شيخو، فتراكم الهم والغم على هند أكواما. تظهر هذه الصورة تناقض مشاعر الأنثى المغتصبة وتحول هذه المشاعر من الحقد إلى التماهي التام…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 6:     

          جاء العثمانيون بالأشرف طومان باي إلى سليم، ودار بينهما حوار أبدى فيه المملوكي كل الشجاعة والإقدام، ورفض الخضوع قطعا لسليم شاه، وأعلن أن المنتصر فعلا هو من يبني العمائر ويتركها شاهدة على صدقه، وقوته، وعدله. بوقوع السلطان الأشرف في أسر بني عثمان انتهت الحرب، وتوجهت القاهرة لاسترجاع أنفاسها التي خنقت بنار ودخان العثمانيين. وينفي مصطفى باشا ادعاء المماليك بأن بني عثمان سرقوا ذهب مصر، وأبواب مساجدها، وخيراتها، ويؤكد بأن العثمانيين لم يأخذوا من مصر إلا حقوقهم؟؟ تدل هذه الصورة على إمعان المنتصر في نشر الأكاذيب والأباطيل التي تبرر الغزو وقتل الناس الأبرياء…

شهادة هند – 8:     

          قتل العثمانيون السلطان الأشرف طومان باي يوم الجمعة، شنقوه على باب زويلة، وقرأ المصريون الفاتحة على روحه، ووقر الحزن في القلب، والكمد في الروح، وظلت هند تبحث بعينيها بين الجموع عن سلار، لابد أن يكون حاضرا، لا يمكن أن يفوت فرصة توديع سلطانه، وقائده، وأستاذه. ظلت جثة السلطان الأشرف معلقة بباب زويلة ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث رأت هند الأمير سلار، لم يكلمها. وانتظرت أياما، ثم جاء إليها وودعها وداعا اعتقدت أنه أبدي. تدل هذه الصورة على بطش المنتصر وتحطيمه للرموز سعيا نحو تحطيم نفوس المقاومين…

شهادة سلار – 7:   

          خطط الأمراء الثلاثة لقتل سليم شاه بطريقة توحي بإقدامهم على الانتحار، فشلت الخطة، قتل إينال، وهرب سلار وقانصوه العادلي عبر النهر، ظل سلار مع الشيخ أبي السعود الجارحي في الجبل، تعفنت رجله من أثر الطلقة التي أصابتها، قطعها الشيخ بدون أن تصدر صرخة واحدة عن الأمير المملوكي، وظل سلار يسترجع ذكرياته مع إينال والعادلي، ثم غاص بعيدا في الماضي، تذكر عندما باعته أمه ليصبح في حلمها أميرا يرفل في الحرير… صورة تدل على رسم ملامح الأمراء المماليك الأبطال الخارقين…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 7:

          محاولة قتل سليم شاه أصابته بفزع شديد، وخوف كبير، ورغم ذلك عفا عن كثير من الأمراء المماليك، ومن بينهم قانصوه العادلي، جاء به خاير بك إلى الشاه، يؤكد الترجمان أن العفو عن المماليك لا يمحو آثار روحهم المتقلبة، فهم عبيد وسيظلون عبيدا، ولا امتنان للعبيد أبدا. صورة تدل على الحقد الذي يظل عالقا بنفوس المنتصر الذي لا يعترف ببطولات غيره…

شهادة سلار – 8:

          التقى سلار بخاير بك رغم كرهه الشديد له، عرض عليه خاير بك استعادة زوجته والعيش في النعيم، فرفض سلار رفضا قاطعا كل العروض المغرية، ورحل بعيدا. صورة تدل على البطولة المقترنة بالعفة…

الباب الثالث: أيام قد خلت

شهادة هند – 9:  

          تسترجع هند عناد سلار في نصره وهزيمته، لا يمكن نزع إصرار المحارب من صفاته، ظلت تستعيد ذكراه وهو يعذب جسدها، وهو يحطم نفسيتها. صورة تبين إصرار الأنثى المغتصبة على احتضان روح المغتصب…

شهادة سلار – 9:

          عاد سليم باشا إلى الأستانة بعد أن سرق كل شيء من مصر، لم يترك شيئا صالحا إلا وقام بسرقته، استولى على الذهب والفضة، واقتلع رخام المساجد والقلاع، والأبواب النحاسية، حتى الحرفيين أرغمهم على مرافقته إلى بلاده… تظهر هذه الصورة قدرة المنهزم على تشويه سمعة المنتصر، كما تظهر إمعان المنتصر في نشر الخراب…

شهادة هند – 10

          ظلت هند تحب سلار حبا جنونيا، وظلت تؤمن بعودته إليها، وحدث ما توقعته، لقد جاء سلار يطلبها من أبيها، وافقت هند، ووافق أبوها أبو البركات بشرط أن يساعده سلار بخطه الجميل على نسخ كتابه في التاريخ، وأن يروي له جميع التفاصيل الدقيقة للأحداث التي وقعت في مصر والقاهرة… تدل هذه الصورة على اكتمال التماهي وتحوله إلى الالتحام التام…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 8:   

          ذهب سليم شاه لوداع القاهرة قبل رحيله، وفي أعلى صومعة مسجد السلطان حسن تفوه الصدر الأعظم يونس باشا بكلام لم يعجب ملك الملوك فاستل سيفه وأغمده في قلب الصدر الأعظم، وردد الشاه بأن مصر يجب أن تظل تحت حكم المماليك لأنهم يفهمون المصريين جيدا، ويتكلمون لغتهم، ويبقى قتال المماليك بينهم في مصلحة دولة الخلافة، إذ هي التي بيدها الحسم النهائي. تدل هذه الصورة على إتقان الملوك للعبة فرق تسد…

شهادة هند – 11:

          تزوجت هند من سلار، وأحست بالسعادة التي افتقدتها في غيابه، وعاشت في كنفه وهي تتحمل ألمه، وغوصه في أعماق نفسه، وإحساسه المستمر بالهزيمة، وشروده الذي لا ينتهي، حملت هند، ولم يبد على سلار أنه سعد بذلك، لقد كسرت الهزيمة كل عنفوان وكبرياء المقاتل لديه، وأصبح يحس بالخواء، وبانتفاء عناصر السعادة… تظهر هذه الصورة تحول الأدوار، فقد أصبحت الأنثى المغتصبة وفية ومخلصة للمغتصب، وأصبح المغتصب متعاليا على الأنثى المغتصبة…

شهادة سلار – 10:

          يعيش سلار مع هند في بلبيس، ويدير شؤون إقطاعيته بنفسه، لقد ظل الفلاح والخطاط حاضرين في حياته وحيويته، ولكن الأمير ظل لديه مستعصيا على الطوع، ظل يعذبه باستمرار، وتأبى هيبته أن تغادر حضور سلار لكي يرتاح، فظل في عذاب مستمر، وظلت هند تتحمله في صبر، وأناة، وعناد. صورة تدل على استحالة انعتاق البطل من جسد الفارس…

شهادة الترجمان مصطفى باشا العثماني – 9:

          أصيب سليم باشا بمرض غريب ومات بعد فتح مصر بثلاث سنوات، مات ولم يستطع بناء مسجد في الأستانة يضاهي مسجد السلطان حسن في مصر. صورة تبين عجز الانتصارات عن تحقيق الخلود…

شهادة هند – 12

          وضعت هند ولدا سمياه محمدا، ورغم ذلك ظل سلار يلوك حزنه، وإحساسه بالهزيمة الذي لم يفارقه مطلقا، لقد كان سلار عبارة عن تاريخ المماليك يسير على قدميه، كان يعرف كل التفاصيل، وكل الجزئيات، وكان بارعا في وصف المعارك، والجنود، والأسلحة، والقتال، الحكي عن التاريخ هو الذي يبقي الأمل مشعا في قلبه، وكان يتقن هذا الأمر كثيرا، ويعتبر أن أبا هند أبي البركات هو المؤرخ الحقيقي الذي يعرف كيف يغربل الحكايات، ويثبت أدقها من أجل الخلود في كتب التاريخ.  ويذكر التاريخ أن خاير بك الذي تركه سليم باشا واليا على مصر مات بعد أن عانى من عذاب مبرح، ومن آلام شديدة، مثله مثل سيده ملك الأستانة، من الناس من فرح لموته، ومنهم من ترك الأمر للعبرة. 

          زارت خوند تتر التي كانت زوجة إينال، وأصبحت اليوم زوجة الترجمان مصطفى باشا العثماني هند لكي تطلب منها لقاء بين أبيها المؤرخ أبي البركات وبين الترجمان، كان هذا الأخير يريد أن يخبره المؤرخ ببعض الحقائق لكي تكون كتابته للتاريخ دقيقة، وغير منحازة. صورة تدل على تهافت الجميع على الخلود بواسطة التاريخ…

شهادة سلار – 11:    

          ذهب سلار مع ابنه الصغير محمد ذو الأربع سنوات للتجول في القاهرة، وصعد به إلى صومعة مسجد السلطان حسن، وشرع يحكي له كيف بنى مشيد العمائر محمد بن محمد بن عبد الله المحسني هذا المسجد، وكان يحكي وقربه يجلس مصطفى باشا الترجمان ويستمع بإمعان لتاريخ بناء المسجد العظيم الذي كان سليم شاه يرجو بناء مسجد يضاهيه في الأستانة، فعاجلته المنية، ولم يحقق أمنيته، لقد كان الخليفة يعتقد بأن الذي يخلد الأسماء في التاريخ هي العمائر وليس الحروب، وعندما استرجع سلار أنفاسه من الحكي وجد بأن دائرة كبيرة من العامة التفت حولهم من أجل الاستماع إلى قصة بناء المسجد… صورة تبين خلود الإنسان بواسطة العمائر والحضارة…   

     رواية ” ريم بسيوني ” هي ملحمة المماليك، لقد كانت موفقة إلى حد كبير في الكتابة عن هذه الفترة العنيدة، العاصفة، من تاريخ مصر، فترة تتميز فعلا بعدم الاستقرار، لم تكن النفوس تهدأ، ولم تكن الأبدان تخمد، غليان في كل شيء، وترقب دائم، وحذر مستمر، حياة كلها فتنة واضطراب، تظل فقط بضع لحظات يتم اختلاسها من أجل العيش… وكتابة التاريخ..

………………….

*كاتب وناقد من المغرب

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم